مختارات من تفسير (من روائع البيان في سور القرآن) (63)

 

(وَإِذۡ أَخَذۡنَا مِيثَٰقَكُمۡ وَرَفَعۡنَا فَوۡقَكُمُ ٱلطُّورَ خُذُواْ مَآ ءَاتَيۡنَٰكُم بِقُوَّةٖ وَٱذۡكُرُواْ مَا فِيهِ لَعَلَّكُمۡ تَتَّقُونَ)

السؤال الأول:

ما اللمسة البيانية في تقديم كلمة (ٱلۡجَبَلَ) فى آية الأعراف: 171،وتأخير (ٱلطُّورَ) فى آية البقرة رقم 63، والنساء: 154 ؟

الجواب:

1ـ استعمل القرآن (ٱلطُّورَ) في آيتي البقرة والنساء، واستعمل (ٱلۡجَبَلَ) في آية الأعراف؛ وذلك لأنّ التهديد في آية الأعراف أشد، فاستعمل لفظ الجبل؛ لأنّ الجبل أعظم من الطور .

2ـ وأمّا سبب التقديم والتأخير فيقول سيبويه: يقدمون الذي هو أهمّ لهم وهم أعنى به.

3ـ والتقديم والتأخير في القرآن الكريم يقرره سياق الآيات، فقد يتقدم المفضول، وقد يتقدم الفاضل، والكلام في سورة الأعراف عن بني إسرائيل والطور (وَإِذۡ نَتَقۡنَا ٱلۡجَبَلَ فَوۡقَهُمۡ كَأَنَّهُۥ ظُلَّةٞ وَظَنُّوٓاْ أَنَّهُۥ وَاقِعُۢ بِهِمۡ خُذُواْ مَآ ءَاتَيۡنَٰكُم بِقُوَّةٖ وَٱذۡكُرُواْ مَا فِيهِ لَعَلَّكُمۡ تَتَّقُونَ) [الأعراف:171] فقدّم الجبل على بني إسرائيل .

أمّا في آية سورة البقرة (وَإِذۡ أَخَذۡنَا مِيثَٰقَكُمۡ وَرَفَعۡنَا فَوۡقَكُمُ ٱلطُّورَ خُذُواْ مَآ ءَاتَيۡنَٰكُم بِقُوَّةٖ وَٱذۡكُرُواْ مَا فِيهِ لَعَلَّكُمۡ تَتَّقُونَ) [البقرة:63] أخّر الطور؛ لأنّ سياق الآيات في السورة هو في الكلام عن بني إسرائيل وليس في الطور نفسه.

4ـ الجبل هو اسم لما طال وعظُم من أوتاد الأرض، والجبل أكبر وأهم من الطور من حيث التكوين.

5ـ النتق أشد وأقوى من الرفع الذي هو ضد الوضع، ومن النتق أيضاً: الجذب والاقتلاع وحمل الشيء والتهديد للرمي به، وفيه إخافة وتهديد كبيرين.

ولذلك ذكر الجبلَ في آية سورة الأعراف؛ لأنّ الجبل أعظم ويحتاج للزعزعة والاقتلاع، وعادة ما تُذكر الجبال في القرآن في مواقع التهويل والتعظيم, ولذا جاء في قوله تعالى: (وَلَمَّا جَآءَ مُوسَىٰ لِمِيقَٰتِنَا وَكَلَّمَهُۥ رَبُّهُۥ قَالَ رَبِّ أَرِنِيٓ أَنظُرۡ إِلَيۡكَۚ قَالَ لَن تَرَىٰنِي وَلَٰكِنِ ٱنظُرۡ إِلَى ٱلۡجَبَلِ فَإِنِ ٱسۡتَقَرَّ مَكَانَهُۥ فَسَوۡفَ تَرَىٰنِيۚ فَلَمَّا تَجَلَّىٰ رَبُّهُۥ لِلۡجَبَلِ جَعَلَهُۥ دَكّٗا وَخَرَّ مُوسَىٰ صَعِقٗاۚ فَلَمَّآ أَفَاقَ قَالَ سُبۡحَٰنَكَ تُبۡتُ إِلَيۡكَ وَأَنَا۠ أَوَّلُ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ) [الأعراف:143] ولم يقل الطور. 

6ـ لذلك استعمل (نَتَقۡنَا) مع (ٱلۡجَبَلَ) ؛لأنّ النتق والجبل أشد تهديداً وتهويلاً؛ ولأنّ المقام يقتضي ذلك، فإنه أفاض في ذكر صفات بني إسرائيل الذميمة ومعاصيهم في الأعراف ما لم يُفضه في سورتي البقرة والنساء، فاقتضى أنْ يكون كل تعبير في مكانه , والله أعلم.

السؤال الثاني:

قال في الآية: (وَرَفَعۡنَا فَوۡقَكُمُ ٱلطُّورَ) [البقرة:63] ولم يقل: (من فوقكم) فما السبب؟

الجواب:

(من) تفيد الابتداء، وفي آية البقرة (وَرَفَعۡنَا فَوۡقَكُمُ ٱلطُّورَ) [البقرة:63] ليس رفع الطور مباشرة من فوق رؤوسهم بل هناك مسافة بين الطور والرؤوس ولذلك لم يستعمل (من فوقكم).

السؤال الثالث:

ما سبب تخويفهم برفع الطور فوق رؤوس بني إسرائيل ؟

الجواب:

التكليف من الله تعالى، والله لا يكلف نفساً إلا وسعها, والله يعلم منذ الأزل أنّ في وسعك أنْ تؤدي التكليف، ولكنّ اليهود قالوا: نحن لا نطيق التكليف وفكّروا ألا يلتزموا به بالرغم من تعدد نعم الله عليهم ، والله تعالى لم يرغم أحداً على التكليف, ولكنه – رحمة منه - خيّرهم بين التكليف وعذاب يصيبهم فيهلكهم، وهذا العذاب هو أنْ يُطبق عليهم جبل الطور, فالمسألة ليس فيها إجبار ولكن فيها تخيير, وقد خُيّر الذين من قبلهم بين الإيمان والهلاك فلم يصدقوا حتى أصابهم الهلاك.

وحين رأى بنو إسرائيل الجبل فوقهم خشعوا ساجدين على الأرض , فكان معنى سجودهم أنهم قبلوا المنهج, ولكنهم كانوا وهم ساجدون ينظرون إلى الجبل فوقهم خشية أنْ يطبق عليهم ..

ولذلك تجد سجود اليهود حتى اليوم على جهة من الوجه بينما الجهة الأخرى تنظر إلى أعلى .

ولو سألت يهودياً عن ذلك لقال : أنا أحمل التوراة واهتز منتفضاً, لأنهم اهتزوا ساعة رفع الله الطور فوقهم فكانوا في كل صلاة يأخذون الوضع نفسه ثم نقل ذلك إلى الأبناء والأحفاد، واعتقدت ذريتهم من بعدهم أنها شرط من شروط السجود عندهم, ولذلك أصبح سجودهم على جانب من الوجه، أي: على الصورة التي حدثت لهم ساعة رفع جبل الطور.

والله أعلم .

 

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين