مختارات من تفسير من روائع البيان في سور القرآن (128)

(وَلَنَبۡلُوَنَّكُم بِشَيۡءٖ مِّنَ ٱلۡخَوۡفِ وَٱلۡجُوعِ وَنَقۡصٖ مِّنَ ٱلۡأَمۡوَٰلِ وَٱلۡأَنفُسِ وَٱلثَّمَرَٰتِۗ وَبَشِّرِ ٱلصَّٰبِرِينَ) [البقرة: 155]

السؤال الأول:

قوله تعالى: (وَلَنَبۡلُوَنَّكُم بِشَيۡءٖ مِّنَ ٱلۡخَوۡفِ وَٱلۡجُوعِ وَنَقۡصٖ مِّنَ ٱلۡأَمۡوَٰلِ وَٱلۡأَنفُسِ وَٱلثَّمَرَٰتِۗ وَبَشِّرِ ٱلصَّٰبِرِينَ) [البقرة:155] هل لهذا الترتيب وجه بلاغيٌّ؟ علماً بأنّ هذا الترتيب ورد بصورة أخرى في آية النحل [ 112] وآية قريش [1] ؟

الجواب:

ورد اجتماع الجوع والخوف معاً في ثلاثة مواضع من القرآن الكريم وبصور مختلفة:

1ـ في آية البقرة [155] قدّم الخوف؛ لأنَّ الآيةَ تتكلَّمُ عن قتلٍ وقتالٍ، وفي المعركة لا يفكر الإنسان بالجوع، وإنما يفكِّرُ في ذهابِ النفس فقدّم الخوف.

والباقي: (وَنَقۡصٖ مِّنَ ٱلۡأَمۡوَٰلِ وَٱلۡأَنفُسِ وَٱلثَّمَرَٰتِۗ) [البقرة:155] مناسِبٌ فقدَّمَ الأموال وقال: نقص من الأموال، أي: نقصٌ يذهب به منها شيء، وليس في الأموالِ؛ لأنها تعني نقص في داخلها.

2ـ في آية النحل [112] قال تعالى: (وَضَرَبَ ٱللَّهُ مَثَلٗا قَرۡيَةٗ كَانَتۡ ءَامِنَةٗ مُّطۡمَئِنَّةٗ يَأۡتِيهَا رِزۡقُهَا رَغَدٗا مِّن كُلِّ مَكَانٖ فَكَفَرَتۡ بِأَنۡعُمِ ٱللَّهِ فَأَذَٰقَهَا ٱللَّهُ لِبَاسَ ٱلۡجُوعِ وَٱلۡخَوۡفِ بِمَا كَانُواْ يَصۡنَعُونَ) [النحل:112] فالكلام في سياق الأطعمة ، انظر آيات النحل (115،114) وعن الرزق، والرزق يناسبه الجوع فقدّم الجوع، وتقديم الجوع هنا مراعاة للإذاقة في الآية .

3ـ في سورة قريش، الكلام عن التجارة والأموال، وأصل تجارتهم كانت طعاماً، فقدّم الجوع على الأمن.

وهذا التقديم مناسب لتقديم الشتاء على الصيف في السورة، فالشتاء الطعام فيه أولى ، وفي الصيف التجارة والسفر فيه أولى، والسفر فيه مخاطر فناسبه الخوف.

4ـ إنّ آية البقرة في سياق ابتلاء المؤمنين وليست هي من باب العقوبات، بخلاف آية النحل فإنها في عقوبات الكافرين.

ومعلوم أنّ الجوع أشدُّ من الخوف في العقوبات فقدّم ما هو أشد. والله أعلم.

السؤال الثاني:

ما دلالة كلمة (بِشَيۡءٖ) في الآية ؟

الجواب:

1ـ لاحظ كيف جاء الله تعالى بكلمة(بِشَيۡءٖ) فقال: (بِشَيۡءٖ مِّنَ ٱلۡخَوۡفِ وَٱلۡجُوعِ) [البقرة:155] ولم يقل : (لنبلونكم بالخوف والجوع) وفي ذلك لفتتان جميلتان:

آ ـ الأولى أنه ذكر كلمة (شيء) قبل (الخوف) فيه تخفيفٌ من وقع هذا الخبر المؤلم للنفس، فلا أحد يرغب أنْ يكون خائفاً أو جائعاً، فخفّف الله تبارك وتعالى عنا هذا الخبر بأنّ الابتلاء يكون بشيء من الخوف والجوع، وليس بالخوف كله أو بالجوع كله.

ب ـ والثانية إشارةٌ إلى الفرق بين الابتلاء الواقع على هذه الأمة المرحومة وما وقع من ابتلاء على الأمم السابقة، فقد سلّط الله تعالى الخوف والجوع على أمم قبلنا، كما أخبرنا في قوله تعالى : (وَضَرَبَ ٱللَّهُ مَثَلٗا قَرۡيَةٗ كَانَتۡ ءَامِنَةٗ مُّطۡمَئِنَّةٗ يَأۡتِيهَا رِزۡقُهَا رَغَدٗا مِّن كُلِّ مَكَانٖ فَكَفَرَتۡ بِأَنۡعُمِ ٱللَّهِ فَأَذَٰقَهَا ٱللَّهُ لِبَاسَ ٱلۡجُوعِ وَٱلۡخَوۡفِ بِمَا كَانُواْ يَصۡنَعُونَ) [النحل:112] ولذا جاء هنا بكلمة (بِشَيۡءٖ) [البقرة:155] وجاء هنالك بما يدل على الملابسة والتمكن، وهو أنه استعار لها اللباس اللازم مما يدل على تمكن هذا الابتلاء فيها وعِظَم وقعه عليها، وقد خُفِّف عنا والحمد لله.

ج ـ قوله تعالى: (وَلَنَبۡلُوَنَّكُم بِشَيۡءٖ مِّنَ ٱلۡخَوۡفِ وَٱلۡجُوعِ وَنَقۡصٖ مِّنَ ٱلۡأَمۡوَٰلِ وَٱلۡأَنفُسِ وَٱلثَّمَرَٰتِۗ وَبَشِّرِ ٱلصَّٰبِرِينَ) [البقرة:155] (بشيء من).. وليس بكله.. لأنّ الهدف الإصلاح وليس الإهلاك ، وقس ذلك على التربية.

2ـ انظر في لطائف القرآن كيف أسند البلوى لله سبحانه وتعالى فقال: (وَلَنَبۡلُوَنَّكُم) [البقرة:155] وأسند البشارة بالخير الآتي من قِبَل الله تعالى إلى الرسول ﷺ فقال: (وَبَشِّرِ ٱلصَّٰبِرِينَ) [البقرة:155] تكريماً لشأنه وزيادةً في تعلّق المؤمنين به ﷺ بحيثُ تحصل خيراتهم بواسطته دون أنْ يصيبهم أي مكروه بسببه ﷺ

السؤال الثالث:

ما دلالة هذه الآية ؟

الجواب:

1ـ هذه الآية الكريمة بيّنت التوجيه الرابع في تربية النفوس وإعدادها لمواجهة أحداث الحياة التي لا بدّ منها .

2ـ اللام في (وَلَنَبۡلُوَنَّكُم) موطئة للقسم، فالله لا بدّ أن يبتلي عباده لتمحيصهم أو رفع درجاتهم .

3ـ الابتلاء قد يكون تارة بالسرّاء وتارة بالضّراء، وتارة بالفقر وتارة بالغنى، وتارة بالمرض وتارة بالصحة، وتارة بالنصر وتارة بالهزيمة، وهكذا .... والناس عند وقوع الابتلاء فريقان : جازع وصابر، فالجازع تقع به المصيبة ويفوته الأجر بخلاف الصابر لوجه الله ورضاه .

والله أعلم بهؤلاء الصابرين في الشدة والرخاء، وسَيوفّيهم أجورهم كاملة .

والله اعلم .

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين