مختارات من تفسير من روائع البيان في سور القرآن (125)

 

{كَمَآ أَرۡسَلۡنَا فِيكُمۡ رَسُولٗا مِّنكُمۡ يَتۡلُواْ عَلَيۡكُمۡ ءَايَٰتِنَا وَيُزَكِّيكُمۡ وَيُعَلِّمُكُمُ ٱلۡكِتَٰبَ وَٱلۡحِكۡمَةَ وَيُعَلِّمُكُم مَّا لَمۡ تَكُونُواْ تَعۡلَمُونَ١٥١ فَٱذۡكُرُونِيٓ أَذۡكُرۡكُمۡ وَٱشۡكُرُواْ لِي وَلَا تَكۡفُرُونِ} [البقرة: 151-152]

السؤال الأول:

ما معاني الكلمات التالية؟

الجواب:

(يُزَكِّيكُمْ): يطهِّركم، وأصل الزَّكاة: النَّماء والزِّيادة مع التَّطهيرِ.

(الْحِكْمَةَ): إصابة الحقِّ بالعلم والعقل، وأصل (حَكَم): المنع من الظُّلم. والإحكام هو الفصل والتمييز والفرق والتحديد الذي به يتحقَّق الشيء ويحصُل إتقانه؛ ولهذا دخل فيه معنى المنْع كما دخَل في الحدِّ، فالمنع جزءُ معناه لا جميع معناه. والحِكمة اسمٌ للعَقل، وإنَّما سُمِّي حِكمة؛ لأنَّه يمنع صاحبه من الجَهل، وقيل: المقصود بها هنا: السُّنة.

(الشُّكر): {وَٱشۡكُرُواْ لِي}: ظهورُ أثَر نِعمة الله على لسانِ عبده: ثناءً واعترافًا، وعلى قلبه: شهودًا ومحبَّةً، وعلى جوارحِه: انقيادًا وطاعةً، وأصلُه: الثناءُ على صانعِ المعروف، وهو ضدُّ الكُفر.

(الكُفْر): {وَلَا تَكۡفُرُونِ}:السِّتر والتَّغطية، وهو ضدُّ الشُّكر، وكُفر النِّعمة: ستْرُها ونسيانُها بترك أداء شُكرها.

السؤال الثاني:

ما أهم دلالات هاتين الآيتين؟

الجواب:

الآية 151:

في هذه الآية ذكر الله سبحانه امتنانه على هذه الأمة برسالة النبي عليه السلام، ووصفه بعدة أوصاف:

1 ـ قوله تعالى: { كَمَآ أَرۡسَلۡنَا فِيكُمۡ رَسُولٗا مِّنكُمۡ} لفظ (رَسُولاً)فيه تنكيرُ (الرسول) للتعظيم؛ ولتجري عليه الصِّفات التي كلُّ واحدةٍ منها نِعمةٌ خاصَّة.

{ يَتۡلُواْ عَلَيۡكُمۡ ءَايَٰتِنَا} القرآن والسنة لبيان الحق من الباطل، والهدى من الضلال، وإذا كانت هذه وظيفة الرسول الأولى {يَتۡلُواْ عَلَيۡكُمۡ ءَايَٰتِنَا}، فما وظيفتنا ودورنا ومسؤوليتنا مع كتاب الله؟

3 ـ قوله تعالى: {يَتۡلُواْ عَلَيۡكُمۡ ءَايَٰتِنَا وَيُزَكِّيكُمۡ وَيُعَلِّمُكُمُ ٱلۡكِتَٰبَ وَٱلۡحِكۡمَةَ}تكرر في القرآن عدة مرات ليؤكد معالم التربية القرآنية تلاوة وتزكية وعلماً وليس حفظا مجرداً.

4 ـ {وَيُزَكِّيكُمۡ} أي: يطهركم من الشرك والذنوب، ويربيكم على الأخلاق الحميدة.

{وَيُعَلِّمُكُمُ ٱلۡكِتَٰبَ} التعليم غير التلاوة، فالرسول يعلمكم ألفاظ القرآن تلاوة وتدبراً، وعلماً وعملاً.

{وَٱلۡحِكۡمَةَ} وهي السُنّة الموضحة للقرآن ومعرفة أسرار الشريعة.

7 ـ {وَيُعَلِّمُكُم مَّا لَمۡ تَكُونُواْ تَعۡلَمُونَ١٥١} عن طريق الوحي من أخبار الأمم السابقة والحوادث المستقبلة، وبالعلم يتمكن العبد من عبادة الله عبادة تزكي نفسه.

8 ـ قوله تعالى: {يَتۡلُواْ عَلَيۡكُمۡ ءَايَٰتِنَا وَيُزَكِّيكُمۡ وَيُعَلِّمُكُمُ ٱلۡكِتَٰبَ وَٱلۡحِكۡمَةَ وَيُعَلِّمُكُم مَّا لَمۡ تَكُونُواْ تَعۡلَمُونَ} فيه تكرار الفعل (يُعلّم)؛ ليدلَّ على أنه جِنسٌ آخَر.

9 ـ في قوله تعالى عن لسان إبراهيم عليه السلام:{رَبَّنَا وَٱبۡعَثۡ فِيهِمۡ رَسُولٗا مِّنۡهُمۡ يَتۡلُواْ عَلَيۡهِمۡ ءَايَٰتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ ٱلۡكِتَٰبَ وَٱلۡحِكۡمَةَ وَيُزَكِّيهِمۡۖ إِنَّكَ أَنتَ ٱلۡعَزِيزُ ٱلۡحَكِيمُ} [البقرة:129] طلب إبراهيم عليه السلام توافر أربعة أشياء على هذا الترتيب:

آ ـ يتلو عليهم آياته.

ب ـ ويعلمهم الكتاب.

ج ـ والحكمة.

د ـ ويزكيهم.

فكانت إجابة دعائه في هذه الآية (151) بتقديم التزكية، لأهمية التزكية، ولأنّ التخلية تكون قبل التحلية، فقدّم ذلك على تعليم الكتاب والحكمة.

وبمعنى آخر: قدّم في آية البقرة (151) {وَيُزَكِّيكُمۡ} على {وَيُعَلِّمُكُمُ}ﱠ خلاف ما ورد في آية البقرة السابقة رقم (129) في حِكاية قول سيدنا إبراهيم عليه السَّلام: {وَيُعَلِّمُهُمُ ٱلۡكِتَٰبَ وَٱلۡحِكۡمَةَ وَيُزَكِّيهِمۡۖ} [البقرة: 129]؛ لأنَّ المقام هنا في الآية (151) للامتنان على المسلمين؛ فقُدِّم فيها ما يُفيد معنى المنفعة الحاصلة من تلاوة الآيات عليهم، وهي منفعة تزكية نفوسهم؛ اهتمامًا بها، وبعثًا لها بالحِرص على تحصيل وسائلها، وتعجيلًا للبشارة بها، وأمّا في دعوة إبراهيم فقد رُتِّبت الجُمَلُ على حسب ترتيب حصولِ ما تضمَّنتْه في السياق، إضافة إلى ما في ذلك التخالف من التفنُّن البلاغي. والله أعلم.

الآية 152:

1ـ في هذه الآية وما بعدها وجّه الله سبحانه وتعالى عباده أربع توجيهات لتربية النفوس المؤمنة لمواجهة الأحداث الجسام:

التوجيه الأول: المداومة على ذكر الله تعالى وذكره (آية البقرة 152).

التوجيه الثاني: الاستعانة على المتاعب بالصبر والصلاة (آية البقرة 153).

التوجيه الثالث: تربية النفوس على حب الشهادة في سبيل الله (آية البقرة 154).

التوجيه الرابع: مواجهة الخوف والجوع ونقص الأموال والأنفس والأرزاق بالصبر والرضا والتفويض (آية البقرة 155).

2 ـ التوجيه الأول يهدف إلى الاعتراف بنعم الله عن طريق ذكره بالطاعة والعبادة، وشكره بالقول والعمل، والتحذير من كفر الله وجحد نعمه.

3ـ وسائل الذكر:

ـ ذكر اللسان: بالتسبيح والتحميد والثناء والتمجيد.

ـ ذكر الجوارح: بالاستغراق بالطاعات والعبادات.

ـ ذكر القلب: بالتفكر في وحدانية الله وعظمته.

وللذكر مزايا منها:

الذاكر يكون في معية ربه ـ الذاكرون هم الموحدون السابقون للخيرات ـ الذاكر يبقى لسانه رطباً بذكر الله ـ الذاكر يكون في ساحة الرحمة والغفران ـ الذاكرون الله لا يشقى جليسهم ـ ثواب الله عظيم للذاكرين والذاكرات.

4 ـ الفاء في قوله تعالى: {فَٱذۡكُرُونِيٓ} فاء الفصيحة.

5 ـ وجوبُ الشُّكر لله؛ لقوله تعالى: {وَٱشۡكُرُواْ لِي}ﱠ ؛ و(الشُّكر) يكون بالقلب، وباللِّسان، وبالجوارح؛ ولا يكون إلَّا في مقابلة نِعمة.

6 ـ قوله تعالى: {وَلَا تَكۡفُرُونِ}ﱠ [البقرة: 152] فيه إيجازٌ بالحذْف؛ لأنَّه من كُفر النِّعمة، أي: ولا تكفروا نعمتي، ولو كان من الكفر الذي هو ضدُّ الإيمان، لكان: ولا تكفروا، أو ولا تكفروا بي، والنون نون الوِقاية، حُذفت ياء المتكلم بعدَها تخفيفًا؛ لتناسُب الفواصل.

والله أعلم.

 

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين