مختارات من تفسير من روائع البيان في سور القرآن (124)

( وَمِنۡ حَيۡثُ خَرَجۡتَ فَوَلِّ وَجۡهَكَ شَطۡرَ ٱلۡمَسۡجِدِ ٱلۡحَرَامِۚ وَحَيۡثُ مَا كُنتُمۡ فَوَلُّواْ وُجُوهَكُمۡ شَطۡرَهُۥ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيۡكُمۡ حُجَّةٌ إِلَّا ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنۡهُمۡ فَلَا تَخۡشَوۡهُمۡ وَٱخۡشَوۡنِي وَلِأُتِمَّ نِعۡمَتِي عَلَيۡكُمۡ وَلَعَلَّكُمۡ تَهۡتَدُونَ١٥٠ ) [البقرة: 150]

السؤال الأول:

قوله تعالى (وَحَيۡثُ مَا كُنتُمۡ فَوَلُّواْ وُجُوهَكُمۡ شَطۡرَهُۥ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيۡكُمۡ حُجَّةٌ) [البقرة:150] لِمَ قال:( لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ) [البقرة:150] ولم يقل: لئلا يكون للمشركين؟

الجواب:

ذكر تعالى (الناس) معرّفة بـ(أل)؛ وذلك حتى تستغرق هذه الكلمة الناس جميعاً مهما اختلفت مِلَلُهم، ولم يقتصر على ذكر المشركين الذين اعترضوا في ذلك الوقت على تحوُّلِ القِبلةِ وشكَّكوا في النبيِّ ﷺ بسبب ذلك، وكأنّ هذه الكلمةَ (لِلنَّاسِ) قد دلّت على أنّ استقبال القبلة سيدحَضُ أيُّ دعوة يزعمها إنسان في عصر من العصور بأنّ هذا الدين مُقتبسٌ من أيِّ دين قد سبقه، فالتوجه إلى الكعبة المشرفة مُبطِلٌ لمزاعم الناس المشكِّكين كُلِّهم في كُلِّ زمانٍ وكُلِّ مكانٍ.

السؤال الثاني:

ذكر تعالى الياء في قوله: (وَٱخۡشَوۡنِي) في آيةِ البقرةِ [150] وحذَفَها فقال: (وَٱخۡشَوۡنِ) في آيتي المائدة [3]،[44]؟

الجواب:

1ـ هذا التعبير له نظائرُ في القرآنِ: (َٱتَّبِعۡنِيٓ) [مريم:43]، (ٱتَّبَعَنِۗ) [آل عمران:20]، (فَكِيدُونِي) [هود:55]، (كِيدُونِ) [الأعراف: 195]، (أَخَّرۡتَنِيٓ) [المنافقون: 10]، (أَخَّرۡتَنِ) [الإسراء:62].

أمّا (وَٱخۡشَوۡنِي) أو (وَٱخۡشَوۡنِ) فوردت الأولى في آية سورة البقرة 150، والثانية وردت في آيتي المائدة [3]، [44].

وعندما تحذِّرُ أحدهم التحذيرَ يكون التحذير بحسب الفِعلةِ؛ فقد تكون فِعلةً شديدةً، فمثلاً لو اغتاب أحدهم آخر تقول له: اتَّقِ ربَّك، وإنْ كان يريد أن يقتل شخصاً تقول له: اتَّقِ اللهَ.

فالتحذير يختلفُ بحسبِ الفعل، إذا كان الفعلُ كبيراً كان التحذير أشدَّ، وعندما يُظهِر الياء يكون التحذير أشدَّ في جميع القرآنِ و يكون الأمرُ أكبرَ.

2ـ عندنا في آية البقرة (وَٱخۡشَوۡنِي) [البقرة:150] الياء موجودة إذن التحذير أكبرُ، ولننظر السياق في الآية: (وَمِنۡ حَيۡثُ خَرَجۡتَ فَوَلِّ وَجۡهَكَ شَطۡرَ ٱلۡمَسۡجِدِ ٱلۡحَرَامِۚ وَحَيۡثُ مَا كُنتُمۡ فَوَلُّواْ وُجُوهَكُمۡ شَطۡرَهُۥ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيۡكُمۡ حُجَّةٌ إِلَّا ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنۡهُمۡ فَلَا تَخۡشَوۡهُمۡ وَٱخۡشَوۡنِي وَلِأُتِمَّ نِعۡمَتِي عَلَيۡكُمۡ وَلَعَلَّكُمۡ تَهۡتَدُونَ١٥٠ ) [البقرة:150] هذه في تبديل القِبلة فجاءت (اخشوني) بالياء؛ لأنه صار هناك كلام كثير ولغط وإرجاف بين اليهود والمنافقين حتى ارتدّ بعض المسلمين، وهذا حصل عند تبديل القِبلة (وَمَاجَعَلۡنَا ٱلۡقِبۡلَةَ ٱلَّتِي كُنتَ عَلَيۡهَآ إِلَّا لِنَعۡلَمَ مَن يَتَّبِعُ ٱلرَّسُولَ مِمَّن يَنقَلِبُ عَلَىٰ عَقِبَيۡهِۚ وَإِن كَانَتۡ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى ٱلَّذِينَ هَدَى ٱللَّهُۗ وَمَا كَانَ ٱللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَٰنَكُمۡۚ إِنَّ ٱللَّهَ بِٱلنَّاسِ لَرَءُوفٞ رَّحِيمٞ١٤٣ ) [البقرة:143] وهو أمر كبير لذا قال: (وَٱخۡشَوۡنِي) [البقرة:150].

3ـ الآية الأخرى في سورة المائدة: (حُرِّمَتۡ عَلَيۡكُمُ ٱلۡمَيۡتَةُ وَٱلدَّمُ وَلَحۡمُ ٱلۡخِنزِيرِ وَمَآ أُهِلَّ لِغَيۡرِ ٱللَّهِ بِهِۦ وَٱلۡمُنۡخَنِقَةُ وَٱلۡمَوۡقُوذَةُ وَٱلۡمُتَرَدِّيَةُ وَٱلنَّطِيحَةُ وَمَآ أَكَلَ ٱلسَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيۡتُمۡ وَمَا ذُبِحَ عَلَى ٱلنُّصُبِ وَأَن تَسۡتَقۡسِمُواْ بِٱلۡأَزۡلَٰمِۚ ذَٰلِكُمۡ فِسۡقٌۗ ٱلۡيَوۡمَ يَئِسَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مِن دِينِكُمۡ فَلَا تَخۡشَوۡهُمۡ وَٱخۡشَوۡنِۚ ) [المائدة:3] هذا يأس وذاك إرجاف، هذا الموقف ليس مثل ذاك، هؤلاء يائسون ؛ من أجل هذا صار التحذير أقل.

4ـ وفي الآية الثانية: (إِنَّآ أَنزَلۡنَا ٱلتَّوۡرَىٰةَ فِيهَا هُدٗى وَنُورٞۚ يَحۡكُمُ بِهَا ٱلنَّبِيُّونَ ٱلَّذِينَ أَسۡلَمُواْ لِلَّذِينَ هَادُواْ وَٱلرَّبَّٰنِيُّونَ وَٱلۡأَحۡبَارُ بِمَا ٱسۡتُحۡفِظُواْ مِن كِتَٰبِ ٱللَّهِ وَكَانُواْ عَلَيۡهِ شُهَدَآءَۚ فَلَا تَخۡشَوُاْ ٱلنَّاسَ وَٱخۡشَوۡنِ وَلَا تَشۡتَرُواْ بِ‍َٔايَٰتِي ثَمَنٗا قَلِيلٗاۚ وَمَن لَّمۡ يَحۡكُم بِمَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ فَأُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡكَٰفِرُونَ٤٤) [المائدة:44] ليس فيها محاربة ولا مقابلة فقال: (وَٱخۡشَوۡنِ) [المائدة:44] بدون ياء.

5ـ إذن المواطن التي فيها شِدَّةٌ وتحذيرٌ شديدٌ أظهرَ الياء، والحذفُ في قواعدِ النحوِ يجوز، والعربُ تخفِّفُ من الياء، لكنّ الله سبحانه وتعالى قرنها بأشياءَ فنية.

السؤال الثالث:

قوله تعالى في الآية: (إِلَّا ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنۡهُمۡ) [البقرة:150] كيف يكونُ للظالمين من اليهود أو غيرهم حُجَّةٌ على المؤمنين؟

الجواب:

المعنى هو: إلا أنْ يقولوا ظلماً وباطلاً، فسمَّى الله باطلَهم حُجَّةً لمشابَهَتِه الحجة في الصورة، كما قال تعالى في سورة الشورى: (حُجَّتُهُمۡ دَاحِضَةٌ ) [الشورى:16] أي: باطلة، وقال: (فَرِحُواْ بِمَا عِندَهُم مِّنَ ٱلۡعِلۡمِ) [غافر:83].

وقيل: إنّ المراد به قول المشركين: قد عاد محمد إلى قبلتنا، لعلمه أنّ ديننا حق وسوف يعود إلى ديننا.

السؤال الرابع:

ما إعراب (لِئَلَّا) في الآية؟

الجواب:

أصل الكلمة (لأن لا )،اللام حرف جر، وقيل للتعليل، و(أنْ) حرف مصدري ونصب، و(لا) حرف نفي.

لمزيد من التفصيل انظر التفصيل في آية الحديد 29.

السؤال الخامس:

ما أهم دلالات هذه الآية؟

الجواب:

هذا هو الأمر الثالث بوجوب التوجه إلى الكعبة في الصلاة:

1ـ قوله تعالى: (وَمِنۡ حَيۡثُ خَرَجۡتَ فَوَلِّ وَجۡهَكَ شَطۡرَ ٱلۡمَسۡجِدِ ٱلۡحَرَامِۚ) تأكيد ثانٍ، وكرّر الكلام لتأكيد أمر تحويل القبلة من بيت المقدس نحو الكعبة المشرفة.

2ـ قوله تعالى: (وَحَيۡثُ مَا كُنتُمۡ فَوَلُّواْ وُجُوهَكُمۡ شَطۡرَهُۥ) تأكيد ثالث لئلا تبقى للمعاندين حجة في نظرهم ينفذون منها، أو ثغرة يتسربون إلى الإرجاف عن طريقها.

3 ـ الفاء في (فَلَا تَخۡشَوۡهُمۡ) تسمّى فاء الفصيحة.

4 ـ قوله تعالى: (إِلَّا ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنۡهُمۡ) هم المشركون ومن كتموا ما عرفوا من الحق من اليهود والنصارى، وصدّوا الناس عن دين الحق.

5 ـ اقترن هذا الأمر بثلاث نقاط رئيسية:

آ ـ قطعُ دابر الفتنة بإزالة حجة المخالفين.

ب ـ من تمام النعمة الاستقلال عن اليهود في القبلة.

ج ـ من تمام النعمة الإرشاد إلى الصواب الذي ضلّ عنه غيرُنا.

6 ـ الفرق بين الآيات الثلاث السابقة:

آ ـ الأمر الأول: بالتوجه إلى الكعبة في الصلاة، استجابة لرغبة النبي عليه السلام،وفيه ذكر لأهل الكتاب.

ب ـ الأمر الثاني: فيه بيان أنّ ذلك هو الحق الثابت من عند الله،ولا عبرة بتشكيك المضلين.

ج ـ الأمر الثالث: فيه قطع لحجة المعترضين من اليهود والمنافقين والمشركين على تحويل القبلة.

وقد وُجه الأمر بالتوجّه إلى الكعبة إلى الرسول خاصة، ثم إلى الأمة عامة، وفي هذا قطع لأطماع أهل الكتاب من اتباع الرسول قبلتهم. والله أعلم.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين