مختارات من تفسير من روائع البيان في سور القرآن (108)

( أَمۡ كُنتُمۡ شُهَدَآءَ إِذۡ حَضَرَ يَعۡقُوبَ ٱلۡمَوۡتُ إِذۡ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعۡبُدُونَ مِنۢ بَعۡدِيۖ قَالُواْ نَعۡبُدُ إِلَٰهَكَ وَإِلَٰهَ ءَابَآئِكَ إِبۡرَٰهِ‍ۧمَ وَإِسۡمَٰعِيلَ وَإِسۡحَٰقَ إِلَٰهٗا وَٰحِدٗا وَنَحۡنُ لَهُۥ مُسۡلِمُونَ) [البقرة: 133]

السؤال الأول:

ما الفرق من الناحية البيانية بين فعل (حضر، وجاء) في القرآن الكريم مع الموت؟

الجواب:

من الناحية اللغوية:

فعل (حضر):الحضور في اللغة: يعني الوجود، وليس معناه بالضرورة المجيء إلى الشيء، يقال: كنت حاضراً إذ كلّمه فلان، بمعنى (شاهد وموجود)، وهو نقيض الغياب, ويقال: كنت حاضراً مجلسهم، وكنت حاضراً في السوق، أي: كنت موجوداً فيها.

أما المجيء: فهو الانتقال من مكان إلى مكان، فالحضور إذن غير المجيء، ولهذا نقول: الله حاضر في كل مكان، وهو دليل وجوده في كل مكان.

وفي القرآن يقول تعالى: (فَإِذَا جَآءَ وَعۡدُ رَبِّي جَعَلَهُۥ دَكَّآءَۖ) [الكهف:98] بمعنى: جاء الأمر، وكذلك قوله تعالى: (حَتَّىٰٓ إِذَا جَآءَ أَمۡرُنَا وَفَارَ ٱلتَّنُّورُ) [هود:40]. إذن الحضور معناه الشهود، والمجيء معناه الانتقال من مكان إلى مكان.

من الناحية البيانية:

أمّا من الناحية البيانية ففى قوله تعالى في سورة البقرة: (أَمۡ كُنتُمۡ شُهَدَآءَ إِذۡ حَضَرَ يَعۡقُوبَ ٱلۡمَوۡتُ إِذۡ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعۡبُدُونَ مِنۢ بَعۡدِيۖ قَالُواْ نَعۡبُدُ إِلَٰهَكَ وَإِلَٰهَ ءَابَآئِكَ إِبۡرَٰهِ‍ۧمَ وَإِسۡمَٰعِيلَ وَإِسۡحَٰقَ إِلَٰهٗا وَٰحِدٗا وَنَحۡنُ لَهُۥ مُسۡلِمُونَ١٣٣) [البقرة:133] وفي المؤمنون: (حَتَّىٰٓ إِذَا جَآءَ أَحَدَهُمُ ٱلۡمَوۡتُ قَالَ رَبِّ ٱرۡجِعُونِ٩٩) [المؤمنون:99].

القرآن الكريم له خصوصيات في التعبير، وكلمتا (حضر) و(جاء) لكل منها خصوصية أيضاً، فأمّا التعبير (حضر الموت) فيستعمل للكلام عن أحكام ووصايا بوجود الموت حاضراً مع الشهود، وأمّا التعبير (جاء) فيستعمل مع فعل الموت إذا كان المراد الكلام عن الموت وأحوال الشخص في الموت.

فحضور الموت يُستعمل في القرآن الكريم في الأحكام والوصايا كما في آية سورة البقرة، وكأنّ الموت هو من جملة الشهود، والقرآن هنا لا يتحدث عن الموت نفسه أو أحوال الناس في الموت، فالكلام هو في الأحكام والوصايا (إِن تَرَكَ خَيۡرًا ٱلۡوَصِيَّةُ) [البقرة:180] ووصية يعقوب لأبنائه بعبادة الله الواحد.

أمّا مجيء الموت في القرآن فيستعمل في الكلام عن الموت نفسه أو أحوال الناس في الموت كما في آية سورة المؤمنون، حيث يريد هذا الذي جاءه الموت أنْ يرجع ليعمل صالحاً في الدنيا، فالكلام إذن يتعلق بالموت نفسه وأحوال الشخص الذي يموت.

ويستعمل الفعل (جاء) مع غير كلمة (الموت) أيضاً كالأجل (فَإِذَا جَآءَ أَجَلُهُمۡ) [الأعراف:34] وسكرة الموت (وَجَآءَتۡ سَكۡرَةُ ٱلۡمَوۡتِ بِٱلۡحَقِّ) [ق:19] ولا يستعمل هنا (حضر الموت)؛ لأنه كما أسلفنا (حضر الموت) تستعمل للكلام عن أحكام ووصايا بوجود الموت حاضراً مع الشهود، أمّا (جاء) فيستعمل مع فعل الموت إذا كان المراد الكلام عن الموت وأحوال الشخص في الموت.

السؤال الثاني:

ما دلالة تقديم المفعول به مع ذكر الموت (إِذۡ حَضَرَ يَعۡقُوبَ ٱلۡمَوۡتُ ) [البقرة:133] وما الفرق بين (حضر) و(جاء) و(أدرك) و(أصاب)؟

الجواب:

1ـ جاء لفظ الموت فاعلاً في 11 موضعاً في القرآن الكريم كله، ويقول العلماء: إنّ تقديم المفعول به وإبعاد الفاعل، هو إمّا للاهتمام بالمقدَّم والتلهف لمعرفة الفاعل، أو لإبعاد شبح الموت، وهو شيء مكروه لكل البشر فالكل لا يحب قدومه.

2ـ انظر الجدول التالي للأفعال التي جاءت مع الموت في القرآن:

المجموع: 11 موضعاً

الفعل (حَضَرَ)

فعل (حضر) هو من الحضور وهو نقيض الغياب، وقولك: كنت حاضراً معهم، أي: موجوداً، ولهذا نقول: (الله حاضر في كل مكان)، ونلمس بالفعل (حضر) شدة القرب.

واستعمل القرآن الكريم في الآيات حضور الموت للأحكام والوصايا، وكأنّ الموت من جملة الشهود، والقرآن لا يتحدث في آيات (حضر) عن الموت نفسه أو أحوال الناس في الموت، لكنّ الكلام هو في الأحكام والوصايا (إِن تَرَكَ خَيۡرًا ٱلۡوَصِيَّةُ) [البقرة:180] ووصية يعقوب لأولاده.

الفعل (جَآءَ)

فيه معنى القرب الشديد وتحقق الوقوع، والفعل (جاء) معناه الانتقال من مكان إلى مكان، وفي القرآن (فَإِذَا جَآءَ وَعۡدُ رَبِّي جَعَلَهُۥ دَكَّآءَۖ) [الكهف:98] بمعنى( لم يكن موجوداً، وإنما جاء الأمر) وكذلك (فَإِذَا جَآءَ أَمۡرُنَا وَفَارَ ٱلتَّنُّورُ) [المؤمنون:27].

و مجيء الموت في القرآن يستعمل في الكلام عن الموت نفسه أو أحوال الناس في الموت كما في آية المؤمنون [99] وآية الأنعام [61].

وكذلك يستعمل فعل (جاء) مع غير كلمة الموت كالأجل (فَإِذَا جَآءَ أَجَلُهُمۡ) [الأعراف:34] وسكرة الموت (وَجَآءَتۡ سَكۡرَةُ ٱلۡمَوۡتِ بِٱلۡحَقِّۖ) [ق:19].

الفعل: (يُدۡرِكُ)

أدرك: أي: لحق به وقبض عليه، وفيه صورة الملاحقة، كما في آية النساء( 78 )، حيث تصور الآية من ينتقل من مكان لآخر هرباً من الموت، والموت يسعى وراءه حتى يدركه ولو كان متحصناً في بروج مشيدة. (أَيۡنَمَا تَكُونُواْ يُدۡرِككُّمُ ٱلۡمَوۡتُ وَلَوۡ كُنتُمۡ فِي بُرُوجٖ مُّشَيَّدَةٖۗ) [النساء:78]

الفعل: (يَأۡتِيَ)

إتيان الموت: المراد به إتيان أسبابه من وسائل التعذيب و الكلام عن المعذَّب بنار جهنم، كما في آية إبراهيم: (وَيَأۡتِيهِ ٱلۡمَوۡتُ مِن كُلِّ مَكَانٖ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٖۖ ) [إبراهيم:17].

الفعل: (يَتَوَفَّى ):

كلمة (توفّى) تأتي في القرآن على ثلاثة ألوان:

(ٱللَّهُ يَتَوَفَّى ٱلۡأَنفُسَ حِينَ مَوۡتِهَا) [الزُّمَر:42].

(قُلۡ يَتَوَفَّىٰكُم مَّلَكُ ٱلۡمَوۡتِ) [السجدة:11].

(تَوَفَّتۡهُ رُسُلُنَا) [الأنعام:61].

فهو سبحانه ينسب الموت له ولملك الموت ولرسله، فأخذ الأرواح وقبضها إلى الله أمراً، وإلى ملك الموت وسيلة وواسطة، وإلى الرسل تنفيذاً.

السؤال الثالث:

لماذا لا يُذكر سيدنا إسماعيل مع إبراهيم وإسحق ويعقوب في القرآن؟

الجواب:

انظر الجواب في السؤال الأول في الآية [125].

السؤال الرابع:

ما الفرق في الاستعمال القرآني بين الوالد والأب؟

الجواب:

يستعمل القرآن لفظة (الوالدان) للأب المباشر، أي: أبو الولد وأمه، بينما تأتي لفظة (الأب) بمعنى أشمل من الوالد، إذ يندرج في تضاعيفه معنى: الجد والعم والأب الوالد، كما في آية البقرة [133] (أَمۡ كُنتُمۡ شُهَدَآءَ إِذۡ حَضَرَ يَعۡقُوبَ ٱلۡمَوۡتُ إِذۡ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعۡبُدُونَ مِنۢ بَعۡدِيۖ قَالُواْ نَعۡبُدُ إِلَٰهَكَ وَإِلَٰهَ ءَابَآئِكَ إِبۡرَٰهِ‍ۧمَ وَإِسۡمَٰعِيلَ وَإِسۡحَٰقَ إِلَٰهٗا وَٰحِدٗا وَنَحۡنُ لَهُۥ مُسۡلِمُونَ١٣٣) [البقرة:133].

لذلك نجد أنّ الأبوة بمعناها الشامل تضمنت: الجد إبراهيم، والعم إسماعيل، والأب الوالد: إسحق.

السؤال الخامس:

في الآية متعاطفان (قَالُواْ نَعۡبُدُ إِلَٰهَكَ وَإِلَٰهَ ءَابَآئِكَ) [البقرة:133] فما أهم أقسام العطف في اللغة ؟

الجواب:

المتعاطفان يكونان على أقسام:

1ـ عطف الشيء على مغايره،وهو الأصل، نحو: رأيت محمداً وخالداً.

2ـ عطف الشيء على مرادفه، نحو:هذا كذب وافتراء.

3ـ عطف العام على الخاص، آية الحجر 87، ونحو: اشتريت رماناً وفاكهة.

4ـ عطف الخاص على العام: آية البقرة 98، ويأتي لبيان الأهمية، فإنّ جبريل وميكال هم رؤساء الملائكة وليسوا كعمومهم، ومثله آية البقرة 238، وآية الرحمن 68.

5ـ عطف الشيء على نفسه لزيادة الفائدة، كما في آية البقرة 133.

6ـ عطف الصفات بعضها على بعض والموصوف واحد: سورة الأعلى الآيتان 1ـ4، ونحو: مررت برجل فقيه وشاعر وكاتب.

7ـ عطف الاسم على الفعل وبالعكس، والأصل أنْ يعطف الاسم على الاسم والفعل على الفعل.

8ـ قد يعطف الاسم المشبه بالفعل كاسم الفاعل على الفعل وبالعكس، كما في آية الملك 19، وآية الأنعام 95، حيث عطف اسم الفاعل ( وَمُخۡرِجُ) على الفعل ( يُخۡرِجۡ )، وكذلك في آيتي سورة العاديات (3 ـ4) ( فَٱلۡمُغِيرَٰتِ صُبۡحٗا٣ فَأَثَرۡنَ بِهِۦ نَقۡعٗا٤ ).

السؤال السادس:

ما أهم النقاط في هذه الآية ؟

الجواب:

1ـ لمّا حكى الله عن إبراهيم عليه السلام في الآية السابقة أنه بالغ في وصية بنيه في الدين والإسلام، ذكر في هذه الآية أنّ يعقوب وصّى بنيه بمثل ذلك تأكيداً للحجة على اليهود والنصارى، وزيادة في البيان.

2ـ ( أمْ ) هي للاستفهام أو العطف، وتأتي متصلة بما قبلها، وتأتي منقطعة بمعنى ( بل ) على الأغلب.

3 ـ قوله تعالى: (إِذۡ حَضَرَ يَعۡقُوبَ ٱلۡمَوۡتُ إِذۡ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعۡبُدُونَ مِنۢ بَعۡدِيۖ) (إذ ) الأولى وقت الشهادة و( إذ ) الثانية وقت الحضور.

4 ـ الآية دالة على اهتمام الأنبياء بأولادهم وشفقتهم عليهم:

آ ـ فقد سألهم عن ميراث الدين لا الدنيا.

ب ـ سكرات الموت لم تنس يعقوب عليه السلام الدعوة للتوحيد , فقد كان يطمئنُّ على أعظم اهتماماته: مستقبل التوحيد في قلوبهم.

ج ـ ما ألطف جوابهم على أبيهم , أثنوا عليه بالتوحيد, و بروه بالثناء على آبائه أيضا, (قَالُواْ نَعۡبُدُ إِلَٰهَكَ وَإِلَٰهَ ءَابَآئِكَ إِبۡرَٰهِ‍ۧمَ وَإِسۡمَٰعِيلَ وَإِسۡحَٰقَ إِلَٰهٗا وَٰحِدٗا وَنَحۡنُ لَهُۥ مُسۡلِمُونَ) وكان يمكن أن يقولوا: نعبد الله.

د ـ من واجب الآباء تفقد سلامة العقيدة في نفوس أبنائهم , لتكون العقيدة حاجزاً بينهم وبين الانحرافات المختلفة وخاصة الفكرية , والأولاد هم يمثلون المشروع الذي تعيش من أجله وستظهر بصماته حتى في اللحظات الأخيرة من الحياة، ولله درالنفوس الكبيرةالتي تظل تعطي حتى آخر قطرة من اناء الحياة.

5 ـ قوله تعالى: (مَا تَعۡبُدُونَ مِنۢ بَعۡدِيۖ) لفظ ( ما ) لغير العقلاء، فكيف أطلقه في المعبود الحق ؟ والجواب: لفظ ( ما ) عام في كل شيء , والمعنى: أي شيء تعبدون ؟

ولفظة ( ما ) يمكن أن تستعمل للسؤال عن ذات غير العاقل مثل: ما هذا؟ هذا حصان، ما تأكل؟ آكل كذا، وتستعمل أيضاً لصفات العقلاء مثل:من هذا؟ تقول: خالد، ما هو؟ تقول: تاجر، شاعر.

وفي القرآن:

ـ قوله تعالى: (فَٱنكِحُواْ مَا طَابَ لَكُم مِّنَ ٱلنِّسَآءِ) هذا صفة عاقل، أي: انكحوا الطيّب من النساء.

ونظير ذلك قوله تعالى: (وَنَفۡسٖ وَمَا سَوَّىٰهَا٧) [الشمس:7] والذي سواها هو الله، وقوله (وَمَا خَلَقَ ٱلذَّكَرَ وَٱلۡأُنثَىٰٓ٣) [الليل:3] من الخالِق؟ الله هو الخالق.

ـ و (ما) قد تكون للسؤال عن حقيقة الشيء (قَالُواْ وَمَا ٱلرَّحۡمَٰنُ) [الفرقان:60] يسألون عن حقيقته، وفرعون قال: (قَالَ فِرۡعَوۡنُ وَمَا رَبُّ ٱلۡعَٰلَمِينَ٢٣ ) [الشعراء:23] يتساءل عن الحقيقة.

ـ وقد يؤتى بها للتفخيم والتعظيم، والتعظيم قد يكون في الخير أو في السوء أو ما يصيبه من السوء.

قال تعالى: (ٱلۡقَارِعَةُ١ مَا ٱلۡقَارِعَةُ٢ وَمَآ أَدۡرَىٰكَ مَا ٱلۡقَارِعَةُ٣ ) [القارعة:1-2-3] وقال: (وَأَصۡحَٰبُ ٱلۡيَمِينِ مَآ أَصۡحَٰبُ ٱلۡيَمِينِ٢٧ ) [الواقعة:27] وقال: (وَأَصۡحَٰبُ ٱلشِّمَالِ مَآ أَصۡحَٰبُ ٱلشِّمَالِ٤١) [الواقعة:41].

6 ـ لمّا تقدّم ذكر ( الإله ) في إضافتين:( قَالُواْ نَعۡبُدُ إِلَٰهَكَ وَإِلَٰهَ ءَابَآئِكَ إِبۡرَٰهِ‍ۧمَ وَإِسۡمَٰعِيلَ وَإِسۡحَٰقَ) بينوا أنّ المُراد فيهما واحداً تحقيقاً للبراءة من الشرك فقالوا: (إِلَٰهٗا وَٰحِدٗا)

والله أعلم

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين