مختارات من تفسير من روائع البيان في سور القرآن (105)

 

(رَبَّنَا وَٱبۡعَثۡ فِيهِمۡ رَسُولٗا مِّنۡهُمۡ يَتۡلُواْ عَلَيۡهِمۡ ءَايَٰتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ ٱلۡكِتَٰبَ وَٱلۡحِكۡمَةَ وَيُزَكِّيهِمۡۖ إِنَّكَ أَنتَ ٱلۡعَزِيزُ ٱلۡحَكِيمُ) [ البقرة:129 ]

السؤال الأول:

ما دلالة الفرق في الترتيب بين آية سورة البقرة (رَبَّنَا وَٱبۡعَثۡ فِيهِمۡ رَسُولٗا مِّنۡهُمۡ يَتۡلُواْ عَلَيۡهِمۡ ءَايَٰتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ ٱلۡكِتَٰبَ وَٱلۡحِكۡمَةَ وَيُزَكِّيهِمۡۖ إِنَّكَ أَنتَ ٱلۡعَزِيزُ ٱلۡحَكِيمُ١٢٩) [البقرة:129] وآية سورة الجمعة (هُوَ ٱلَّذِي بَعَثَ فِي ٱلۡأُمِّيِّ‍ۧنَ رَسُولٗا مِّنۡهُمۡ يَتۡلُواْ عَلَيۡهِمۡ ءَايَٰتِهِۦ وَيُزَكِّيهِمۡ وَيُعَلِّمُهُمُ ٱلۡكِتَٰبَ وَٱلۡحِكۡمَةَ وَإِن كَانُواْ مِن قَبۡلُ لَفِي ضَلَٰلٖ مُّبِينٖ٢) [الجمعة:2]؟

الجواب:

أولا:

وردت في القرآن الكريم مثل هذه الآيات أربع مرات، ثلاثاً منها عن الله تعالى، ومرة على لسان إبراهيم عليه السلام، وهي الآيات التالية:

1. سورة البقرة: (كَمَآ أَرۡسَلۡنَا فِيكُمۡ رَسُولٗا مِّنكُمۡ يَتۡلُواْ عَلَيۡكُمۡ ءَايَٰتِنَا وَيُزَكِّيكُمۡ وَيُعَلِّمُكُمُ ٱلۡكِتَٰبَ وَٱلۡحِكۡمَةَ وَيُعَلِّمُكُم مَّا لَمۡ تَكُونُواْ تَعۡلَمُونَ١٥١) [البقرة:151].

2. آل عمران: (لَقَدۡ مَنَّ ٱللَّهُ عَلَى ٱلۡمُؤۡمِنِينَ إِذۡ بَعَثَ فِيهِمۡ رَسُولٗا مِّنۡ أَنفُسِهِمۡ يَتۡلُواْ عَلَيۡهِمۡ ءَايَٰتِهِۦ وَيُزَكِّيهِمۡ وَيُعَلِّمُهُمُ ٱلۡكِتَٰبَ وَٱلۡحِكۡمَةَ وَإِن كَانُواْ مِن قَبۡلُ لَفِي ضَلَٰلٖ مُّبِينٍ١٦٤ ) [آل عمران:164].

3. سورة الجمعة: (هُوَ ٱلَّذِي بَعَثَ فِي ٱلۡأُمِّيِّ‍ۧنَ رَسُولٗا مِّنۡهُمۡ يَتۡلُواْ عَلَيۡهِمۡ ءَايَٰتِهِۦ وَيُزَكِّيهِمۡ وَيُعَلِّمُهُمُ ٱلۡكِتَٰبَ وَٱلۡحِكۡمَةَ وَإِن كَانُواْ مِن قَبۡلُ لَفِي ضَلَٰلٖ مُّبِينٖ٢) [الجمعة:2].

وعلى لسان إبراهيم عليه السلام:

4. سورة البقرة: (رَبَّنَا وَٱبۡعَثۡ فِيهِمۡ رَسُولٗا مِّنۡهُمۡ يَتۡلُواْ عَلَيۡهِمۡ ءَايَٰتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ ٱلۡكِتَٰبَ وَٱلۡحِكۡمَةَ وَيُزَكِّيهِمۡۖ إِنَّكَ أَنتَ ٱلۡعَزِيزُ ٱلۡحَكِيمُ١٢٩) [البقرة:129].

وهذا يعود إلى ترتيب الأولويات والأهمية في الخطابين، فعندما دعا إبراهيم عليه السلام ربه أنْ يرسل رسولاً أخَّرَ جانب تزكية الأخلاق إلى آخر مرحلة بعد تلاوة الآيات وتعليمهم الكتاب والحكمة.

أمّا في آية سورة الجمعة وسورة البقرة:151 وسورة آل عمران: فالخطاب من الله تعالى بأنه بعث في الأميين رسولاً يتلو عليهم آياته ويزكيهم قبل مرحلة يعلمهم الكتاب والحكمة؛ لأنّ الجانب الخُلُقي يأتي قبل الجانب التعليمي، ولأنّ الإنسان إذا كان غير مزكّى في خلقه لن يتلقى الكتاب والحكمة على مُراد الله تعالى، والرسول صلى الله عليه وآله وسلم من أهم صفاته أنه على خلق عظيم كما شهد له رب العزة بذلك في قوله: (وَإِنَّكَ لَعَلَىٰ خُلُقٍ عَظِيمٖ٤) [القلم:4].

والتزكية هي ربع المهمّة المحمدية (تلاوة الآيات، تعليم الكتاب، تعليم الحكمة، التزكية).

ثانياً ـ هذا الترتيب في الآية؛ لأنّ آيات القرآن تعلمنا التفكير والمنطق ودقة اللفظ وترتيب الأفكار، والله سبحانه وتعالى رتب هذه الصفات على حسب ترتيب وجودها؛ لأنّ أول تبليغ الرسالة القرآن ثم يكون تعليم معانيه، كما في قوله في موضع آخر: (فَإِذَا قَرَأۡنَٰهُ فَٱتَّبِعۡ قُرۡءَانَهُۥ١٨ ثُمَّ إِنَّ عَلَيۡنَا بَيَانَهُۥ١٩ ) [القيامة:18-19] فإذا ما حصلت على علم القرآن انتقلت إلى المرحلة الأخيرة وهي التزكية.

السؤال الثاني:

ما دلالة قوله تعالى: (رَبَّنَا وَٱبۡعَثۡ فِيهِمۡ رَسُولٗا مِّنۡهُمۡ) [البقرة:129] في الآية؟

الجواب:

كلمة (رَسُولٗا مِّنۡهُمۡ) [البقرة:129] تَرُدُّ على اليهود الذين أحزنهم أنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من العرب، وأنّ الرسالة كان يجب أن تكون فيهم.

ونحن نقول لهم: إنّ جدنا وجدكم إبراهيم، وأنتم من ذرية يعقوب بن إسحاق، ومحمد صلى الله عليه وآله وسلم من ذرية إسماعيل بن إبراهيم وأخ لأسحاق، ولا حجة لما تدّعونه من أن الله فضّلكم واختاركم على سائر الشعوب، إنما أراد الله أنْ يسلب منكم النبوة؛ لأنكم ظلمتم في الأرض وعهدُ الله لا يناله الظالمون.

ثم قال الله: (وَمَن يَرۡغَبُ عَن مِّلَّةِ إِبۡرَٰهِ‍ۧمَ إِلَّا مَن سَفِهَ نَفۡسَه ) [البقرة:130] فهو سفيه لا يملك عقلاً يميز بين الضار والنافع.

ثم قال: (وَلَقَدِ ٱصۡطَفَيۡنَٰهُ فِي ٱلدُّنۡيَاۖ وَإِنَّهُۥ فِي ٱلۡأٓخِرَةِ لَمِنَ ٱلصَّٰلِحِينَ١٣٠) [البقرة:130] فقد اصطفاه الله في الدنيا بالمنهج وبأنْ جعله إماماً وبالابتلاء، وهو في الآخرة من الصالحين، أي: من الفائزين.

وقد يظن كثير من الناس أنّ مقامات الناس في الدنيا وزخرفها مبرر لأنْ يعتقدوا أنّ لهم منزله عالية في الآخرة.

نقول: لا، فمنازل الدنيا لا علاقة لها بالآخرة، ولذلك قال الله: (وَلَقَدِ ٱصۡطَفَيۡنَٰهُ فِي ٱلدُّنۡيَاۖ) وأضاف: (وَإِنَّهُۥ فِي ٱلۡأٓخِرَةِ لَمِنَ ٱلصَّٰلِحِينَ) لنعلم أنّ إبراهيم عليه السلام له منزلة عالية في الدنيا والآخرة معاً.

السؤال الثالث:

قوله تعالى في هذه الآية [129] (رَسُولٗا مِّنۡهُمۡ) ) بينما قال في آية آل عمران [164]: (مِّنۡ أَنفُسِهِمۡ) وفي آية التوبة: 128 (مِّنۡ أَنفُسِكُمۡ ) فلماذا؟

الجواب:

آية البقرة في سياق دعاء إبراهيم عليه السلام وهو عام.

أمّا في آل عمران والتوبة فهما في سياق ذكر المِنَّة على المؤمنين، فناسب ذكر (مِّنۡ أَنفُسِهِمۡ) لمزيد الحنُوِّ والمنة، وكذلك{ بِٱلۡمُؤۡمِنِينَ رَءُوفٞ رَّحِيمٞ١٢٨} [التوبة: ١٢٨]

السؤال الرابع:

ما الحكمة في ذكر إبراهيم عليه السلام مع محمد عليه الصلاة والسلام في في الصلوات الإبراهيمية في التشهد الأخير في كل صلاة؟

الجواب:

1ـ إنّ إبراهيم عليه السلام دعا لمحمد عليه السلام حيث قال: (رَبَّنَا وَٱبۡعَثۡ فِيهِمۡ رَسُولٗا مِّنۡهُمۡ يَتۡلُواْ عَلَيۡهِمۡ ءَايَٰتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ ٱلۡكِتَٰبَ وَٱلۡحِكۡمَةَ وَيُزَكِّيهِمۡۖ إِنَّكَ أَنتَ ٱلۡعَزِيزُ ٱلۡحَكِيمُ١٢٩) [البقرة:129] فلمّا وجب للخليل على الحبيب حقّ دعاءه له قضى الله تعالى عنه حقه بأن أجرى ذكره على ألسنة أمته إلى يوم القيامة.

2ـ إنّ إبراهيم عليه السلام سأل ذلك ربه بقوله: {وَٱجۡعَل لِّي لِسَانَ صِدۡقٖ فِي ٱلۡأٓخِرِينَ٨٤}[الشعراء: 84] يعني: أبق لي ثناء حسناً في أمة محمد صلى الله عليه وسلم فأجابه الله تعالى إليه وقرن ذكره بذكر حبيبه إبقاء للثناء الحسن عليه في أمته.

3ـ إبراهيم عليه السلام كان أب الملة: {مِّلَّةَ أَبِيكُمۡ إِبۡرَٰهِيمَۚ} [الحج: 78] ومحمد عليه السلام كان أب الرحمة: {بِٱلۡمُؤۡمِنِينَ رَءُوفٞ رَّحِيمٞ١٢٨} [التوبة: 128].

4 ـ إبراهيم عليه السلام كان منادي الشريعة في الحج: {وَأَذِّن فِي ٱلنَّاسِ بِٱلۡحَجِّ} [الحج: 27] وكان محمد عليه السلام منادي الدين: {سَمِعۡنَا مُنَادِيٗا يُنَادِي لِلۡإِيمَٰنِ} [آل عمران: 193] فجمع الله بينهما في الذكر الجميل.

وفي الحديث: ( أنا دعوة أبي إبراهيم وبُشرى أخي عيسى ورؤيا أمي ) أخرجه الحاكم والبيهقي. والله أعلم.

 

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين