مختارات من تفسير من روائع البيان في سور القرآن (102)

(وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ) [البقرة:133]

السؤال الأول:

لماذا لا يُذكر سيدنا إسماعيل مع إبراهيم وإسحق ويعقوب في القرآن؟

الجواب:

1ـ هذا السؤال ليس دقيقاً؛ لأنه توجد في القرآن مواطن ذُكر فيها إبراهيم وإسماعيل ولم يُذكر إسحق، وهناك 6 مواطن ذُكر فيها إبراهيم وإسماعيل وإسحق، وهي قوله تعالى:

(أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ١٣٣) [البقرة:133].

(قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ١٣٦) [البقرة:136].

(أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطَ كَانُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ١٤٠) [البقرة:140].

(قُلْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَالنَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ٨٤) [آل عمران:84].

(ٱلۡحَمۡدُ لِلَّهِ ٱلَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى ٱلۡكِبَرِ إِسۡمَٰعِيلَ وَإِسۡحَٰقَۚ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ ٱلدُّعَآءِ) [إبراهيم:39].

(إِنَّآ أَوۡحَيۡنَآ إِلَيۡكَ كَمَآ أَوۡحَيۡنَآ إِلَىٰ نُوحٖ وَٱلنَّبِيِّ‍ۧنَ مِنۢ بَعۡدِهِۦۚ وَأَوۡحَيۡنَآ إِلَىٰٓ إِبۡرَٰهِيمَ وَإِسۡمَٰعِيلَ وَإِسۡحَٰقَ وَيَعۡقُوبَ وَٱلۡأَسۡبَاطِ وَعِيسَىٰ وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَٰرُونَ وَسُلَيۡمَٰنَۚ وَءَاتَيۡنَا دَاوُۥدَ زَبُورٗا) [النساء:163].

2ـ وكل موطن ذُكر فيه إسحق ذُكر فيه إسماعيل بعده بقليل أو معه، مثل قوله تعالى:

(فَلَمَّا ٱعۡتَزَلَهُمۡ وَمَا يَعۡبُدُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ وَهَبۡنَا لَهُۥٓ إِسۡحَٰقَ وَيَعۡقُوبَۖ وَكُلّٗا جَعَلۡنَا نَبِيّٗا) [مريم:49] و (وَٱذۡكُرۡ فِي ٱلۡكِتَٰبِ إِسۡمَٰعِيلَۚ إِنَّهُۥ كَانَصَادِقَ ٱلۡوَعۡدِ وَكَانَ رَسُولٗا نَّبِيّٗا) [مريم:54].

إلا في موطن واحد في سورة العنكبوت (وَوَهَبۡنَا لَهُۥٓ إِسۡحَٰقَ وَيَعۡقُوبَ وَجَعَلۡنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ ٱلنُّبُوَّةَ وَٱلۡكِتَٰبَ وَءَاتَيۡنَٰهُ أَجۡرَهُۥ فِي ٱلدُّنۡيَاۖ وَإِنَّهُۥ فِي ٱلۡأٓخِرَةِ لَمِنَ ٱلصَّٰلِحِينَ٢٧) [العنكبوت:27].

3ـ وفي قصة يوسف عليه السلام لا يصح أن يُذكر فيها إسماعيل؛ لأنّ يوسف من ذرية إسحق وليس من ذرية إسماعيل.

4ـ وقد ذُكر إسماعيل مرتين في القرآن بدون أن يُذكر إسحق:

آـ في سورة البقرة (وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ١٢٥ ) [البقرة:125].

ب ـ (وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ١٢٧) [البقرة:127] لأنّ إسحق ليس له علاقة بهذه القصة - وهي رفع القواعد من البيت- أصلاً.

السؤال الثاني:

بعض العلماء يقول: إنّ إسماعيل هو الذبيح، والبعض يعترض ويقول آخرون: (إسحق) فما المختار بين الرأيين؟

الجواب:

ليس هناك أثر صريح صحيح، لكنْ عندما ننظر في الآيات نجد التالي:

1ـ الآية في سورة هود (وَٱمۡرَأَتُهُۥ قَآئِمَةٞ فَضَحِكَتۡ فَبَشَّرۡنَٰهَا بِإِسۡحَٰقَ وَمِن وَرَآءِ إِسۡحَٰقَ يَعۡقُوبَ٧١) [هود:71] هذه المرأة هي زوجة إبراهيم عليه السلام التي كانت عاقراً وكانت كبيرة في السن، وهي امرأته الأولى بُشِّرت بإسحق.

وأمّا المرأة الثانية فهي زوجة إبراهيم وهي التي ولدت له هذا الذي أخذها وإياه وأسكنهما بواد غير ذي زرع عند البيت المحرم.

وعندما ننظر في الوقائع في الآيات نجد نوعاً من الترجيح أنه إسماعيل الذي ذهب إلى ديار العرب وتزوج منهم وعاش هناك؛ لأنّ الكلام الأول كان عن إسحق.

2ـ وعندما نأتي إلى الآيات في سورة الصافات (فَبَشَّرۡنَٰهُ بِغُلَٰمٍ حَلِيمٖ١٠١ فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ ٱلسَّعۡيَ قَالَ يَٰبُنَيَّ إِنِّيٓ أَرَىٰ فِي ٱلۡمَنَامِ أَنِّيٓ أَذۡبَحُكَ فَٱنظُرۡ مَاذَا تَرَىٰۚ قَالَ يَٰٓأَبَتِ ٱفۡعَلۡ مَا تُؤۡمَرُۖ سَتَجِدُنِيٓ إِن شَآءَ ٱللَّهُ مِنَ ٱلصَّٰبِرِينَ١٠٢) [الصافات:101-102] وبعد أنْ يمضي في القصة وبعد أنْ ينتهي من قصة الذبيح يقول تعالى: (وَبَشَّرۡنَٰهُ بِإِسۡحَٰقَ نَبِيّٗا مِّنَ ٱلصَّٰلِحِينَ١١٢) [الصافات:112] إذن جاءت البشارة بإسحق بعد البشارة بالذبيح، وإسحق ذكر اسمه في القرآن، وإسماعيل ذكر اسمه في القرآن، فالمرجح أنّ الذبيح هو إسماعيل وليس إسحق.

3ـ ونقول: الذبيح من الصابرين، وعندما ننتقل إلى الآيات (وَإِسۡمَٰعِيلَ وَإِدۡرِيسَ وَذَا ٱلۡكِفۡلِۖ كُلّٞ مِّنَ ٱلصَّٰبِرِينَ٨٥) [الأنبياء:85] (سَتَجِدُنِيٓ إِن شَآءَ ٱللَّهُ مِنَ ٱلصَّٰبِرِينَ) [الصافات:102] من الذي وُصِف بوصف الصبر؟ إسماعيل، بينما إسحق ما وصف بهذا وإنما قال: (وَٱمۡرَأَتُهُۥ قَآئِمَةٞ فَضَحِكَتۡ فَبَشَّرۡنَٰهَا بِإِسۡحَٰقَ وَمِن وَرَآءِ إِسۡحَٰقَ يَعۡقُوبَ٧١) [هود:71] لكن نقول: والمسألة لا يترتب عليها أمر من أمور الدين؛ فالخوض فيها غير مثمر.

4ـ إنه أحد ابني إبراهيم، وعندنا قوله تعالى: (وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ١٢٥ ) [البقرة:125].

5ـ وإبراهيم عليه السلام عنده ولدان: إسماعيل وإسحق،ومن ذرية إسحق أنبياء ورسل كثيرون، ومن ذرية إسماعيل نبيٌ واحد هوخاتم الأنبياء والمرسلين صلى الله عليه وآله وسلم.

6ـ من أولاد إسماعيل محمد صلى الله عليه وآله وسلم وهؤلاء أبناء عمومتهم "سأبعث من أبناء عمومتهم في فاران" (وفاران هو المكان الذي ترك فيه إبراهيم ولده إسماعيل، وهم يزعمون أنّ فاران في مكان آخر في فلسطين). لوصح الحديث «أنا ابن الذبيحين» لانتهى الحوار، لكنه لم يصح عن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم.

7 ـ إسماعيل: هو الإبن الأكبر لإبراهيم وهو ابن هاجر وُلد في أرض كنعان سنة 1910 قبل الميلاد وهو أكبر من إسحاق بثلاثة عشر عاماً ومعنى اسمه بالعبرية: سمع الله أي استجاب الله دعاءَ أمه توفي بمكة سنة 1773 قبل الميلاد ودُفن بالحجر حول الكعبة.

والله أعلم.

السؤال الثالث:

ما أهم الوقفات مع هذه الآية؟

الجواب:

(جَعَلْنَا الْبَيْتَ) البيت مأخوذ من البيتوتة وهو المأوى الذي تأوي إليه، ولذلك سُميت الكعبة بيتاً؛ لأنها المكان الذي يستريح إليه كل خلق الله.

(مَثَابَةً لِلنَّاسِ) يعني مرجعاً تذهب إليه وتعود، مثل شعور الناس بالشوق للرجوع إلى الكعبة، ولو ظلت جاذبية بيت الله في قلوب الناس مستمرة لتركوا كل شؤون الحياة ليبقوا بجوار البيت، ولذلك كان عمر رضي الله عنه حريصاً على أنْ يعود الناس إلى أوطانهم وأولادهم بعد انتهاء مناسك الحج مباشرة.

(وَأَمْنًا) يعني يؤمّن الناس فيه، حتى كان ذلك قبل الإسلام فيلقى أحدهم قاتل أبيه في بيت الله فلا يتعرض له إلا عندما يخرج، والله لا يخبرنا بأنّ البيت آمِنٌ، ولكنه يطلب منا أنْ نؤمّن من فيه، فالآية تشريع وليس خبراً.

4 ـ (مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ) مَقام: - بفتح الميم- اسم لمكان من قام، أمّا بضمها – مُقام- فهو اسم لمن أقام.

5ـ أمرنا الله أنْ نتخذ من مقام إبراهيم مصلى؛ لأنّ المسلمين كانوا يتحرجون عن الصلاة فيه، فلا يريدون أنْ يكون بينهم وبين الكعبة شيء، فيخلون ذلك المكان الذي فيه مقام إبراهيم.

وقد سأل عمر رضي الله عنه الرسول صلى الله عليه وآله وسلم: ألا نتخذ من مقام إبراهيم مصلى؟ فنزلت هذه الآية.

6ـ في الآية إقرار من الله بوجود مقام إبراهيم في مكانه بين المصلين خلفه وبين الكعبة؛ وذلك لأنّ مقام إبراهيم له قصة تتصل في العبادة (فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ) [آل عمران:97].

ومقام إبراهيم هو مكان قيامه عندما أمره الله برفع القواعد من البيت، والترتيب الزمني للأحداث هو أنّ البيت وُجد أولاً، ثم بعد ذلك رفعت القواعد ووضع الحجر الأسود في موقعه بيد إبراهيم عليه السلام.

7ـ الله سبحانه لا يريد أنْ يعطينا التاريخ بقدر ما يريد أنْ يعطينا العبرة.

8ـ البيت وُضع للناس، فالناس لم يضعوه ولكنّ الله سبحانه هو الذي حدده والملائكة هم الذين وضعوه بأمر الله، والله مع نزول آدم شرع التوبة وأعدّ هذا البيت ليتوب الناس فيه إلى ربهم وليقيموا الصلاة فيه.

9ـ عندما أراد إبراهيم أنْ يقيم القواعد من البيت كان يكفي أنْ يقيمها على قدر طول قامته، ولكنه لعشقه تكاليف ربه جاء بالحجر ليزيد القواعد بمقدار ارتفاع الحجر.

وإنّ الحجر الذي كان يقف عليه إبراهيم به حُفَرٌ على شكل قدميه، وهما بين قائل: أنّ الحجر تأثر تحت قدمي إبراهيم من خشية الله، وبين قائل: إنّ إبراهيم هو الذي قام بحفر مكانٍ في الحجر على هيئة قدميه ليساعده على توازنه عندما يرفع يده إلى الأعلى خلال العمل.

10ـ وقوله تعالى: (طَهِّرَا بَيْتِيَ) فيه دليل على أنّ البيت زالت معالمه تماماً وأصبح مثل سائر الأرض، فذُبحت فيه الذبائح وألقيت المخلفات، فأمر الله سبحانه أنْ يطهر هو وإسماعيل البيت من كل هذا الدنس ويجعله مكاناً لثلاث طوائف: الطائفين، العاكفين، والركع السجود.

11ـ نلاحظ في هذه الآية أنّ كلمة(لِلطَّائِفِينَ) وردت بألف صريحة لتدل على اتساع حركة الطائفين وظهورهم للناس بينما وردت كلمة(وَالْعَكِفِينَ) بألف متروكة لتوضح أنّ معنى الاعتكاف هو في مكان محدود. والله أعلم.

12 ـ قرأ نافع وهشام وحفص وأبو جعفر بفتح الياء من ( بيتيَ ) وصلاً وأسكنها الباقون.

13 ـ هذه الآية هي أول الآيات عن مناسك الحج والآيات الأربع التي تليها هي أول الآيات التي تتحدث عن بناء البيت الحرام وكونه مثابة للناس وامناً.

14 ـ قوله تعالى: (وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ) قيل في ذكر الركوع تخصيص للعرب الذين إنما شرع الركوع في دينهم.

السؤال الرابع:

ورد في الآية ذكر للطائفين والعاكفين والركع السجود وورد ذلك أيضاً في آية آل عمران: 43، وآية الحج[26 و 77]، وذكر فيها القائمين لكنْ مع التقديم والتأخير، فهل من توضيح لهذا الأمر؟

الجواب:

أولاً: استعراض الآيات:

(وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ١٢٥ ) [البقرة:125].

(يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ٤٣) [آل عمران:43].

(َإِذۡ بَوَّأۡنَا لِإِبۡرَٰهِيمَ مَكَانَ ٱلۡبَيۡتِ أَن لَّا تُشۡرِكۡ بِي شَيۡ‍ٔٗا وَطَهِّرۡ بَيۡتِيَ لِلطَّآئِفِينَ وَٱلۡقَآئِمِينَ وَٱلرُّكَّعِ ٱلسُّجُودِ٢٦) [الحج:26].

(يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱرۡكَعُواْ وَٱسۡجُدُواْۤ وَٱعۡبُدُواْ رَبَّكُمۡ وَٱفۡعَلُواْ ٱلۡخَيۡرَ لَعَلَّكُمۡ تُفۡلِحُونَ۩٧٧) [الحج:77].

ثانياً ـ ستكون دراسة الآيات من ناحيتين اثنتين وهما:

آ ـ دراسة الآيات من حيث التقديم والتأخيربحسب الكثرة والقلة.

ب ـ دراسة الآيات من ناحية تعاور أو تناوب المفردات.

الناحية الأولى:

تدرّج في ترتيب المذكورات من القلة إلى الكثرة، وقد قال في البقرة: (وَالْعَاكِفِينَ) [البقرة:125] وفي الحج (وَٱلۡقَآئِمِينَ) [الحج:26].

والعاكفون هم أهل البلد الحرام المقيمون أو الغرباء الذين عكفوا عنده، أي: أقاموا لا يبرحون وقيل هم المعتكفون فيه.

1ـ في آية البقرة [125] الكلام عن بيت الله الحرام، فالطائفون هم ألصق المذكورين بالبيت؛ لأنهم يطوفون حوله، وهم من يقصد البيت حاجاً أو معتمراً فبدأ بهم، ثم تدرّج إلى العاكفين في هذا البيت أو في بيوت الله عموماً، ثم الركع السجود الذين يتوجهون إلى هذا البيت في ركوعهم وسجودهم في كل الأرض، والراكعون أقل من الساجدين؛ وذلك لأنّ لكل ركعة سجدتين، إضافةً أنّ هناك سجوداً ليس له ركوع كسجود التلاوة وسجود الشكر، فتدرج من القلة إلى الكثرة.

2ـ في آية الحج: 77، بدأ بالركوع وهو أقل المذكورات، ثم السجود وهو أكثر، ثم عبادة الرب وهو أعم، ثم فعل الخير، فتدرج من القلة إلى الكثرة.

3 ـ في آية آل عمران:43، كان التدرج معكوساً من الكثرة إلى القلة، فبدأ بالقنوت وهو عموم العبادة، ثم السجود وهو أقل وأخص، ثم الركوع وهو أقل وأخص.

الناحية الثانية: دراسة الآيات من ناحية تعاور أو تناوب المفردات:

فقد قال في البقرة: (وَالْعَاكِفِينَ) [البقرة:125] وفي الحج (وَٱلۡقَآئِمِينَ) [الحج:26].

التعاريف:

العاكفون:

آـ هم أهل البلد الحرام المقيمون.والعكوف الإقبال على الشيء وملازمته والاقتصار عليه.

ب ـ الغرباء الذين عكفوا عنده وجاوروه.

القائمون:

آـ المصلون، أي: الركع السجود، أي: ذكر أهم أركان الصلاة القيام والركوع والسجود.

ب ـ المتمسكون بدين الله الثابتون عليه والعازمون المواظبون على ذلك.

الأدلة على معنى القائمين:

ـ التمسك: (مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ١١٣) [آل عمران:113].

ـ العزم:

(وَأَنَّهُۥ لَمَّا قَامَ عَبۡدُ ٱللَّهِ يَدۡعُوهُ كَادُواْ يَكُونُونَ عَلَيۡهِ لِبَدٗا١٩) [الجن:19] أي: لما عزم.

(إِذۡ قَامُواْ فَقَالُواْ رَبُّنَا رَبُّ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ) [الكهف:14] أي: عزموا فقالوا.

الأدلة على معنى العاكفين:

(فَأَتَوۡاْ عَلَىٰ قَوۡمٖ يَعۡكُفُونَ عَلَىٰٓ أَصۡنَامٖ لَّهُمۡۚ) [الأعراف:138] أي: يقيمون.

(ظَلۡتَ عَلَيۡهِ عَاكِفٗاۖ ) [طه:97] أي: مقيماً.

(وَأَنتُمۡ عَٰكِفُونَ فِي ٱلۡمَسَٰجِدِۗ) [البقرة:187] أي مقيمون في المساجد لا يخرجون إلا لضرورة.

آيات البقرة: 126-129

(﴿وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ قَالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ١٢٦وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ١٢٧رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ١٢٨رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ١٢٩)

جاءت في سياق ذكر أهل البلد الحرام وذرية إبراهيم وإسماعيل، ومن هؤلاء السكان المقيمين في البلد الحرام بُعث النبي الأمين صلى الله عليه وآله وسلم الذي دعا به إبراهيم وإسماعيل فناسب ذكر العاكفين وهم أهل البلد الحرام المقيمون أو المجاورون وعموم من لزم المسجد الحرام.

آية الحج: 26

1ـ ذكر فيها القائمين ولم يذكر العاكفين، ذلك أنه قال قبلها في الآية: [25] (وَٱلۡمَسۡجِدِ ٱلۡحَرَامِ ٱلَّذِي جَعَلۡنَٰهُ لِلنَّاسِ سَوَآءً ٱلۡعَٰكِفُ فِيهِ وَٱلۡبَادِۚ ) [الحج:25] فجعل العاكفَ فيه وغيرَه سواءً؛ فليس من المناسب أنْ يفرد العاكفين فقال: (وَٱلۡقَآئِمِينَ) والقائمون قد يكونون من العاكفين وغيرهم.

2ـ وذكر بعدها فريضة الحج والحجاج الذين يأتونه من كل فج عميق، ولم يذكر أهل البلد الحرام فقال: (وَأَذِّن فِي ٱلنَّاسِ بِٱلۡحَجِّ يَأۡتُوكَ رِجَالٗا وَعَلَىٰ كُلِّ ضَامِرٖ يَأۡتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٖ٢٧ لِّيَشۡهَدُواْ مَنَٰفِعَ لَهُمۡ وَيَذۡكُرُواْ ٱسۡمَ ٱللَّهِ فِيٓ أَيَّامٖ مَّعۡلُومَٰتٍ عَلَىٰ مَا رَزَقَهُم مِّنۢ بَهِيمَةِ ٱلۡأَنۡعَٰمِۖ فَكُلُواْ مِنۡهَا وَأَطۡعِمُواْ ٱلۡبَآئِسَ ٱلۡفَقِيرَ٢٨ ثُمَّ لۡيَقۡضُواْ تَفَثَهُمۡ وَلۡيُوفُواْ نُذُورَهُمۡ وَلۡيَطَّوَّفُواْ بِٱلۡبَيۡتِ ٱلۡعَتِيقِ٢٩ ) [الحج:27-28-29].

ومن هؤلاء المذكورين من سيعود إلى أهليهم بعد قضاء فريضة الحج فلا يناسب ذلك ذكر العُكوف والإقامة، وإنما يناسبه القيام الذي من معانيه القيام بأمر الدين والاستمساك به؛ ومن ذلك القيام بالصلاة ومناسك الحج وغيرها من الطاعات.

فناسب ذلك ذكر العاكفين في سورة البقرة والقائمين في سورة الحج، والله أعلم.

فائدة:

قال تعالى في آية البقرة: (لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ١٢٥) [البقرة:125].

وقال في آية الحج: (لِلطَّآئِفِينَ وَٱلۡقَآئِمِينَ وَٱلرُّكَّعِ ٱلسُّجُودِ) [الحج:26].

ولسهولة ضبطهما احفظ ( لا اعتكاف في الحج ).

السؤال الخامس:

ما الفرق بين سُجّد وسجود؟ولِمَ قال: (وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ) ولم يقل: (الركع السُجّد)؟

الجواب:

1ـ الوزن (فُعّل) نحو: رُكَّع وسُجَّد وضُرَّب يدل على الحركة الظاهرة.

2ـ السجود في الأصل مصدر كالخشوع والخضوع، وهو يتناول السجود الظاهر والباطن وهو يطلق على وضع الجبهة بالأرض وعلى الخشوع، كما في آية البقرة (والركع السجود) ولو قال: (السُجّد) لم يتناول إلا المعنى الظاهر، ومنه قوله تعالى: (تَرَىٰهُمۡ رُكَّعٗا سُجَّدٗا) [الفتح:29] وهو من رؤية العين التي تتعلق بالظاهر فقط فقصد بذلك الرمز إلى السجود المعنوي والصوري، بخلاف الركوع فإنه ظاهر في أعمال الظاهر دون أعمال القلب.

3ـ وردت كلمة (السُجّد) في القرآن في أحد عشر موطناً، كلها للدلالة على الحركة الظاهرة وهي الآيات:

(تَرَىٰهُمۡ رُكَّعٗا سُجَّدٗا) [الفتح:29].

(وَخَرُّواْ لَهُۥ سُجَّدٗاۖ ) [يوسف:100].

(وَٱلشَّمَآئِلِ سُجَّدٗا لِّلَّهِ) [النحل:48].

(وَٱدۡخُلُواْ ٱلۡبَابَ سُجَّدٗا) [البقرة:58] ـ [الأعراف:161].

(يَخِرُّونَۤ لِلۡأَذۡقَانِۤ سُجَّدٗاۤ) [الإسراء:107].

(فَأُلۡقِيَ ٱلسَّحَرَةُ سُجَّدٗا) [طه:70].

(وَٱلَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمۡ سُجَّدٗا وَقِيَٰمٗا) [الفرقان:64].

(خَرُّواْۤ سُجَّدٗاۤ وَبُكِيّٗا۩٥٨) [مريم:58].

(خَرُّواْۤ سُجَّدٗاۤ) [السجدة:15].

وكل هذه الآيات بلفظ (السُجّد) للدلالة على الحركة الظاهرة.

4ـ لم يرد لفظ السجود (جمع ساجد) إلا في موضعين هما البقرة 125، والحج 26 للدلالة على السجود الحقيقي؛ وهو الخشوع، وهو مناسب للتطهير في الآية، فإنّ الخشوع يدل على طهارة الباطن وهو مناسب لطهارة البيت وليس المراد به السجود الظاهري.

ومثل ذلك قوله تعالى: (فَلَآ أُقۡسِمُ بِٱلۡخُنَّسِ١٥ ٱلۡجَوَارِ ٱلۡكُنَّسِ١٦) [التكوير:15-16]فالخُنَّس والكُنَّس هن اللاتي يخنسن ويختفين كثيراً لا مرة واحدة. والله أعلم.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين