مختارات من تفسير من روائع البيان في سور القرآن (101)

(وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ١٢٤) [ البقرة: 124 ]

السؤال الأول:

ما الدروس المستفادة من هذه الآية؟

الجواب:

1ـ (إذ) معناها اذكر وقت أنْ ابتلى اللهُ إبراهيم بكلمات.

2ـ الابتلاء هو الامتحان، والابتلاء ليس شراً ولكنه مقياس لاختبار الخير والشر وهو من أسس التربية.

3ـ الابتلاء هنا بكلمات، والكلمات جمع كلمة، والكلمة قد تطلق على الجملة، كقوله تعالى: (مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلَا لِآبَائِهِمْ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا) [الكهف:5].

4ـ قال العلماء: إنّ الابتلاءات كانت عشرة، وقالوا: أربعين، منها عشرة في سورة التوبة (الآية112)، وعشرة في سورة المؤمنون (الآيات 1ـ10) وعشرة في الأحزاب (الآية 35) وعشرة في المعارج (الآيات 22ـ34 ).

ونخرج من هذا الجدل بأنْ نقول: إنّ الله ابتلى إبراهيم عليه السلام بكلمات تكليفية (افعل كذا ولا تفعل كذا) فقد ابتلاه في النار فلم يجزع، فأتاه جبريل عليه السلام فيقول: ألك حاجة؟ فيرد إبراهيم: أمّا إليك فلا، وأمّا إلى الله فعلمه بحالي يغنيه عن سؤالي، وابتلي بذبح ابنه الوحيد وهو شيخ كبير فيطيع بنفس مطمئنة. وقيل:هي خصال الفطرة العشرة: المضمضة ـ الاستنشاق ـ السواك ـ قص الشارب ـ غسل البراجم ( عُقد الأصابع ) ـ تقليم الأظافر ـ نتف الإبط ـ حلق العانة ـ الختان ـ غسل مكان البول والغائط.

وكون إبراهيم أدى جميع التكليفات بعشق وحب وزاد عليها من جنسها فقد نجح في الابتلاء ووفّى (وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى) [النجم:37] فكان الله أعز عليه من نفسه وأهله وولده.

5ـ كافأه الله بقوله: (قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا) [البقرة:124] أي: إماماً للبشر، فاستقبل إبراهيم هذه البشرى وأراد أنْ ينقل الإمامة إلى أولاده وأحفاده حتى لا يحرموا من القيم الإيمانية خلال حياتهم، فردّ الله على إبراهيم بقضية إيمانية أيضاً فيها تقريع لليهود الذين تركوا القيم وعبدوا المادة فقال: (قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ) [البقرة:124] وعهد الله هو الفاعل الذي يجذب صاحبه.

6ـ في الآية استقراء للغيب أنه سيأتي من ذرية إبراهيم من سيفسق ويظلم، والمقصود بذلك اليهود.

7ـ الرسالة ليست ميراثاً، ومن العجائب أنّ موسى وهارون عليهما السلام كانا رسولين، والرسول الأصيل موسى وجاء هارون ليشد أزره، وشاءت مشيئة الله أنْ تستمر الرسالة في ذرية هارون وليس في ذرية موسى.

8ـ الأنبياء اصطفاؤهم اصطفاء قيم، وأبناؤهم هم الذين يأخذون منهم هذه القيم، وليسوا الذين يأخذون الجنس والدم واللون، وانظر إلى قصة نوح عليه السلام مع ابنه لتتحقق من ذلك.

9ـ إمامة الناس عطاء ألوهية لا يناله إلا المؤمن، أمّا الرزق فعطاء ربوبية يناله المؤمن والكافر؛ لأنّ الله هو الذي استدعانا للحياة جميعاً وكفل لنا الرزق جميعاً.

10 ـ ( إبراهيم ) اسم أعجمي معناه: أبٌ رحيم أو أبو الأمم ينتسب إلى سام بن نوح عليه السلام وُلد حوالي 2000 قبل الميلاد في الأهواز أو (أور ) الكلدانية ثم انتقل به والده إلى حُوران ثم إلى بابل أرض النمرود وتزوج سارة وهاجر بها إلى مصر بسبب الجفاف والقحط الذي أصاب البلاد وأهدى له ملك مصر ( هاجر ) أم إسماعيل وقيل تُوفي إبراهيم سنة 1773 قبل الميلاد وجميع الطوائف من اليهود والنصارى والعرب تعتز بنسبها وصلتها بخليل الرحمن وكلها تؤمن به وبدعوته ورسالته.وقد جاء محمد عليه السلام بما جاء به إبراهيم عليه السلام.

السؤال الثاني:

ما دلالة تأخير لفظ (ربه) فى قوله تعالى (وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ) [البقرة:124]؟

الجواب:

الابتلاء هو الاختبار، فإن كلّفت شخصاً بشيء فما يكون تكليفك له متضمناً معنى اختيار فعله أو تركه.

وابتلاء الله لإبراهيم تكليف له؛ لأنّ الله كلفه بأوامر ونواهٍ. وفي هذه الآية تقديم ما حقه التأخير، فـ (إِبْرَاهِيمَ) مفعول به، وقد تقدّم على الفاعل (رَبُّهُ) فما الهدف من هذا التقديم؟

المقصود من هذا تشريف سيدنا إبراهيم عليه السلام بإضافة اسم ربه إلى اسمه وهو الهاء في قوله (رَبُّهُ) أي: رب إبراهيم.

السؤال الثالث:

لم سمى الله عز وجل إبراهيم إماماً فى الآية؟

الجواب:

سمّى الله تعالى إبراهيم في هذه الآية إماماً، وقصد بإمامته أنه رسول، فلِمَ عدل عن تسميته رسولاً إلى تسميته إماماً؟

والجواب: ليكون ذلك دالاً على أنّ رسالته تنفع الأمة المرسَل إليها بالتبليغ وتنفع غيرهم من الأمم بطريق الامتداد، لاسيما وأنّ إبراهيم عليه السلام قد طوّف بالآفاق.

السؤال الرابع:

قوله تعالى (قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي ) [البقرة:124] (من) للتبعيض،فلِمَ خصّ إبراهيم بالدعاء بعض ذريته؟

الجواب:

قال: (وَمِنْ ذُرِّيَّتِي) [البقرة:124] ولم يقل: ذريتي؛ لأنه يعلم أنّ حكمة الله تعالى تقتضي ألا يكون جميع أبناء الرجل ممن يصلحون لأن يُقتدى بهم، ولذلك لم يسأل الله تعالى ما هو مستحيل عادة، لأنّ ذلك ليس من آداب الدعاء، ولم يجعل الدعاء عاماً شاملاً لكل الذرية بحيث يقول: (وذريتي).

السؤال الخامس:

لماذا نصبت كلمة الظالمين في الآية (قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ) [البقرة:124]؟

الجواب:

الظالمين مفعول به والعهد الفاعل، الظالمين مفعول به منصوب بالياء؛ لأنه جمع مذكر سالم.

السؤال السادس:

وردت كلمة (إِبْرَاهِيمَ) في القرآن كله بالياء إلا في سورة البقرة جاءت بدون الياء (إِبْرَاهِمَ) فما دلالة ذلك؟

الجواب:

وردت كلمة (إبراهيم) في القرآن الكريم 69 مرة، منها 15 مرة في سورة البقرة كلها بدون الياء، والباقي 54 مرة بالياء.

وهذا من خط المصحف، والقاعدة تقول: خط المصحف لا يقاس عليه.

والمصحف كتبه عدد كبير من الكتبة، فمرة يرسم حرف العلة ومرة لا يرسم، وأحيانا يكون الرسم لاختلاف القراءات، فيوضع الرسم الذي يجمع القراءات المتواترة، مثل (ملك) في سورة الفاتحة بدون ألف؛ لأنه ورد قراءة متواترة ( ملك يوم الدين) وشروط القراءة الصحيحة أنْ تكون موافقة لرسم المصحف.

وكلمة (إبراهيم) في سورة البقرة ورد فيها قراءتان متواترتان: إحداهما (إبراهام) بدون ياء، والثانية بالياء، فكتبت بالشكل الذي يحتمل القراءتين. والله أعلم.

السؤال السابع:

هل من تفصيل أكثر وأوسع للسؤال السابق؟

الجواب:

كلمة (إبراهيم) اسم أعجمي، والعرب كانت تتصرف في الاسم الأعجمي، وورد في «زاد المسير» أنه في إبراهيم ست لغات، وهي: إبراهيم ـ وهي أشهرها ـ إبراهُم ـ إبراهَم ـ إبراهِم ـ إبراهام ـ إبرهم.

1ـ لقد وردت كلمة (إبراهيم) في القرآن الكريم 69مرة، اختلف القراء في 33 موضعاً منها 15مرة في سورة البقرة كتبت كلها بدون الياء (إبراهم) وذلك في الآيات التالية:

(124ـ125ـ125ـ126ـ127ـ130ـ132ـ133ـ135ـ136ـ140ـ258ـ258ـ 258ـ260).

والباقي 54 مرة موزعة على 24 سورة أخرى غير سورة البقرة مكتوبة بالياء إبراهيم وذلك حسب الجدول التالي:

المجموع: 69 مرة، وعدد السور25 سورة.

2ـ حذفوا ياء (إبراهيم) في سورة البقرة فقط، وكتبوها (إبراهم) مع وضع إشارة ياء صغيرة فوق الكلمة لتدل على وجود قراءتين متواترتين.

3ـ رسمت كلمة إبراهيم بلا ياء في المصاحف العراقية والشامية وفي مصحف الإمام، أمّا في باقي المصاحف فرسمت بياء.

وبالتالي فإنّ رسمها بلا ياء في سورة البقرة ليس مجمعاً عليه، ولكنّ المصحف المنتشر برواية حفص ترسم فيه بحذف الياء في سورة البقرة.

قال الإمام الشاطبي رحمه الله في «عقيلة أتراب القصائد»:

والحذفُ في ياءِ ابراهيمَ قيل هنا=شامٌ عراقٌ ونِعمَ العِرقُ ما انتشـرا

أي: حُذِفت ياء (إبراهيم) من الرسم الشامي والكوفي والبصري.

4ـ وسبب ذلك بشكل عام هو وجود قراءتين، لكن بشكل عام نجد أنّ:

آ ـ خط المصحف لا يقاس عليه.

وللعلم فقد حصل تطور في تاريخ الكتابة منذ زمن النبي صلى الله عليه وآله وسلم فبدأت الكتابة العربية تستقر، ولذلك نرى أكثر من رسم للكلمة، مثل كلمة (لكيلا) فيمكن كتابتها موصولة أو مفصولة، (لكي لا) وكلاهما جائز عند العرب.

ب ـ الإمام عبد الله بن عامر الشامي هو أحد القراء السبعة المشهورين لدى علماء القراءات، ولابن عامر راويان هما: هشام بن عمار الدمشقي، والآخر أحمد بن ذكوان الدمشقي.

أمّا هشام فقرأ كلمة (إبراهيم) بالألف في ثلاثة وثلاثين موضعاً، منها جميع ما في سورة البقرة أي: قرأها (إبراهام) أي: بإبدال الياء ألفاً وأمّا ابن ذكوان فقرأها بالألف وبالياء.

وفي سورة البقرة فقط اجتمع الراويان بالألف هشام وابن ذكوان، فكتبت بدون ياء في سورة البقرة مع وضع ياء صغيرة فوقها للدلالة على القراءة الأخرى.

لذلك نرى أنّ قراءة الياء في المرسوم بها قياسية، وفي محذوفها اصطلاحية كما في كلمة (إسرائيل) و(الداع).

ج ـ كتابة مصحف ابن عامر ومصحف المدينة رواية حفص عن عاصم متقاربة.

د ـ هكذا وصلت إلينا صيغة الكتابة من الصحابة رضوان الله عليهم الذين كتبوا القرآن ولم ينكشف سر ذلك لأحد، والله سبحانه علام الغيوب، والرسم بُني على حكمة ذهبت بذهاب كتبته.

5ـ (للعلم فإنّ التوراة تذكر في الإصحاح السابع عشر من سفر التكوين أنّ سيدنا إبراهيم عليه السلام كان اسمه ( إبراهم ) وكان عمره 86 سنة لما ولدت هاجر ابنه إسماعيل عليه السلام ولمّا بلغ إبراهيم 99 سنة تكلم الله معه وقال له: إنه سيكون أباً لجمهور من الأمم فلا يدعى اسمه بعد ( إبراهم ) بل سيكون اسمه ( إبراهيم ) لأنه سيكثر نسله ويجعله أمماً وبشره بإسحق عليه السلام وبارك له في إسماعيل وإسحق....

ونخلص من ذلك أنّ سيدنا إبراهيم عليه السلام كان له اسمان هما ( إبراهم) وذلك قبل أن يرزقه بالولد وعندما رزقه الله بالولد إسماعيل وإسحق جعل اسمه ( إبراهيم ) بزيادة الياء لأنّ زيادة المبنى تدل على زيادة المعنى. وهناك لفتة لطيفة أنّ اسم ( إبراهم) بدون ياء هو في سورة البقرة فقط أي في بداية القرآن الكريم وهو ما يتمشى مع بداية عُمر سيدنا إبراهيم عليه السلام ).

من كتاب( إعجاز رسم القرآن ) لمحمد شملول.

والله أعلم.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين