محمد صلى الله عليه وسلم شخصيته وصفاته (8)

مفــتــاح شــخـصـيـة رسول الله صلى الله عليه وسلم

لكل إنسان مفتاح لشخصيته، وعندما يعرف المفتاح، يصبح من السهل التعامل مع هذا الشخص، بل إن مفتاح الشخصية يسهل علينا تفسير مواقفه وسلوكه في الظروف والأحوال المختلفة، بل وأن نتوقع ردود فعله في الأوضاع والأحداث التي يواجهها. والمفتاح يشبه مفتاح البيت من حيث أنه قد يكون صغيرا خفيفا، ولكنه يدخل بنا إلى منزل فسيح نتعرف فيه إلى كل موجوداته. وما لم يكن لدينا هذا المفتاح، يظل ما في المنزل سرا مغلقا لا نجد إلى معرفة ما فيه سبيلا، بل كل ما نستطيعه هو أن نخمن من غير دليل ولا إشارة. ومفتاح شخصية الإنسان يسهل علينا فهم سلوكه، حتى عندما يتصرف بطريقة يراها غيره شاذة.

إذا أردنا البحث عن مفتاح شخصية رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا بد لنا أن نبحث عنه في حياته قبل البعثة، وقبل تلقيه الوحي من الله عزّ وجلّ. فقبل الوحي كان محمد بن عبد الله يتصرف من تلقاء نفسه، لا يدري شيئا عن الرسالة السماوية التي سيحملها. أما بعد أن بدأ في تلقى الرسالة فقد كان له دور يختلف عن كل ما يقوم به الإنسان من أدوار، كما كان يسير بهدى من ربه جلّ وعلا. وغني عن القول إن مهمته ومسؤولياته وتصرفاته وأعماله سارت على ضوء هذا الهدى الرباني. وعندما كتب مؤلفون غير مسلمين عن حياة محمد في معزل عن هذه الحقيقة جاؤوا بتفسيرات لبعض أعماله لا يمكن لمسلم أن يقرها. ولا شك أن كتابات بعضهم كانت منصفة، بل إن بعضهم لا يتردد في التعبير عن إعجابه بشخصية رسول الله صلى الله عليه وسلم. إلا أن دراسة حياة النبي في إطار بشري بحت، دون اعتبار لما كان يتلقاه من هدى رباني، يثير بعض علامات الاستفهام على بعض تصرفاته، بل قد يصورها بأنها تحتاج إلى بيان وتفسير. فموقفه في المفاوضات مع قريش والتي أدت إلى توقيع صلح الحديبية بدا مستغربا حتى لأقرب أصحابه إليه. إذ لم يشاور أحدا منهم في شيء من أمور الصلح، خلافا لما عودهم عليه في كل أمور الدولة، وقبل كل الشروط التي فرضها العدو. ففي أي وضع إنساني بحت، ما الذي يمكن لأي مؤرخ، أو ناقد، أو محلل، أن يقوله عن مفاوض يعلن من قبل بدء المفاوضات – كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم – أنه سيقبل كل ما يعرضه الطرف الآخر، دون أن يطلب من خصمه أي تنازل في مقابل قبوله كل شروطه؟

ونحن عندما نبدأ البحث عن مفتاح شخصية محمد بن عبد الله، صلى الله عليه وسلم، في حياته قبل بدء الوحي إليه، لا نلبث أن ندرك أننا أمام مهمة تشتمل على قدر من الصعوبة، إذ إن الأخبار والروايات التي تتحدث عن تلك السنين من حياته المباركة لا تعطينا من التفاصيل ما يكفي، ثم إن صحتها قد تكون موضع نظر. بل إن الروايات التي ذكرها النبي نفسه أو أوردها بعض أصحابه المقربين عن الشطر الأول من حياته هي وحدها التي تثبت صحتها. فهناك على سبيل المثال رواية تذكر أنه عندما كان رضيعا عند حليمة السعدية كان يرضع من ثدي واحد فقط، ويعلل بعض كتاب السيرة ذلك بأنه ربما كان لأنه أحس أن له شريكا في لبنها، وهو ابن حليمة. وأنى لنا أن نتحقق من هذا طالما أننا لا نجد تأكيدا لهذه الرواية من جانب النبي صلى الله عليه وسلم، أو من جانب حليمة نفسها؟

والروايات التي يمكن الاعتماد عليها تشير إلى صفة أساسية يمكن أن نعتبرها مفتاح شخصية محمد، رسول الله صلى الله عليه وسلم، ألا وهي إحقاق الحق. فعندما ندرس تاريخ حياته الخاصة، نجد أن هذه الصفة تدور معه حيث دار، وتتضح باستمرار في شخصيته سواء قبل البعثة أو بعدها. بل إن هذه الصفة برزت وازدادت بالرسالة السماوية التي حملها وبلغها للبشرية. فلقد ذكرنا في الفصل الأول أن محمداً كان في العشرين عندما شارك في حلف الفضول، الذي تعهدت كل بطون قريش بموجبه على أن تقف متكاتفة في نصرة أي إنسان يتعرض لظلم في مكة، سواء كان من أهلها أو من غير أهلها. كان إبرام هذا الحلف لحظة مشرقة في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل الإسلام، وقد ذكر هذا الحلف بعد الرسالة مركزا على فضله، بل قال بعد هجرته إلى المدينة إنه ما يحب أن يكون له مقابل مشاركته في هذا الحلف شيء تطلع عليه الشمس، وقال إنه ملتزم به في الإسلام، بمعنى أنه إذا دعاه داع إلى نصرة مظلوم فإنه لن يتردد في ذلك. أما كون هذا الحلف قد عقد قبل الإسلام، وعلى أيدي أناس وثنيين، لا يقلل شيئا من قيمته الكبيرة وأنه حلف نبيل يهدف إلى العدل مع الجميع. وكلام النبي، صلى الله عليه وسلم، هذا يؤكد ما هو معروف في شخصيته من الإحساس بالشرف والاستقامة والعدل وهو الإحساس الذي يتمتع به من كان يعمل على مبدأ إحقاق الحق، ويطالب به.

ظل محمد طوال حياته يلتزم بمستوى عال جدا من النزاهة والخلق الرفيع. فلم يكذب قط في حياته. ونحن اليوم نجد الناس في كثير من المجتمعات لا ينظرون إلى الكذب بما يستحقه من احتقار وازدراء. صحيح أنه لا يباهي أحد بالكذب ولا يعتبره الناس عملا مشرفا، ولكن معظم الناس لا يترددون في تشجيع قريب أو صديق على الكذب من أجل أن يتخلص من مأزق أو ورطة. وفي المجتمع العربي الجاهلي، لم يكن الكذب يلقى كبير اهتمام. واليوم، تتوقع معظم المجتمعات أن يقول المرء الصدق في أي موقف له صفة رسمية، وعلى سبيل المثال إذا شهد شاهد أمام المحكمة شهادة كاذبة فإن كذبه يعتبر جناية يُحاكم عليها. أما في المسائل الصغيرة التي تعترض المرء في حياته اليومية، فإن الكثيرين من الناس لا يترددون لحظة واحدة في الكذب إن كان يخدم لهم مصلحة. بل إنهم يعترفون بالكذب ولا يتوقعون من أحد أن يقول لهم كلمة اعتراض، بل إن الكثيرين يسمعون للشخص الذي يتحدث عن كذبه وهم يضحكون أو يبينون موافقتهم على ما فعل. إلا أن محمدا، صلى الله عليه وسلم، كان معروفا بصدق الحديث في كل موقف، طوال حياته. والشهادات التي تؤكد على ذلك كثيرة ومتنوعة، يشهد بها الأصدقاء والأعداء معا.

في السنة الخامسة للبعثة أشار رسول الله صلى الله عليه وسلم على عدد كبير من أصحابه بالهجرة إلى الحبشة. وتخوفت قريش من عواقب هذه الهجرة فأرسلت وفدا إلى النجاشي تطلب منه تسليمهم إليها. وحاول وفد قريش بكل وسيلة أن يقنع النجاشي بأن يسلم المهاجرين إليهم دون أن يستمع إلى ما يقولون. ولكن النجاشي كان ملكا عادلا، فدعا المهاجرين المسلمين إليه وسألهم عن دينهم. فتحدث بالنيابة عنهم جعفر بن أبي طالب، فوصف حالهم وما كانوا عليه في الجاهلية، ثم قال: "فبعث الله إلينا رسولا منا نعرف صدقه وأمانته."[1]

لم يكن الذين خاصموا رسول الله صلى الله عليه وسلم وعادوه في مكة يترددون في القول إنه كان رجل صدق. وعندما جاءه الأمر بأن يعلن دعوته وينذر قومه، وقف على الصفا، في وسط مكة، ونادى على كل بطون قريش ليأتوا إليه إذ كان يريد أن يقول لهم أمرا هاما. فلما اجتمعوا له، سألهم: "أرأيتكم لو أخبرتكم أن خيلا بالوادي تريد أن تغير عليكم أكنتم مصدقيَّ؟" قالوا: "نعم، ما جربنا عليك إلا صدقا." قال: "فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد."[2]

يقول الأستاذ أبو الحسن علي الحسني الندوي: "كان العرب واقعيين عمليين. إنهم رأوا رجلا جربوا عليه الصدق والأمانة والنصيحة، قد وقف على جبل يرى ما أمامه، وينظر إلى ما وراءه، وهم لا يرون إلا ما هو أمامهم، فهداهم ذكاؤهم وإنصافهم إلى تصديق هذا المخبر الأمين الصادق، فقالوا: نعم. ولما تمت هذه المرحلة الطبيعية البدائية، وتحققت شهادة المستمعين، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد.[3]

ومن الأمثلة على شهادة الخصوم والأعداء: ما حدث عندما ذهب النبي وأصحابه إلى مكة في عمرة القضاء أو عمرة القضية. فكما ذكرنا في الفصل الثاني، نصت معاهدة الصلح في الحديبية والتي عقدت قبل سنة بين النبي والمشركين في مكة على أن يزور النبي وأصحابه مكة للعمرة فيقيموا فيها ثلاثة أيام، لا يحملون إلا سلاح الراكب، السيوف في أغمادها. وعندما استعد المسلمون لبدء رحلتهم من المدينة، أمر النبي بأخذ كمية كافية من السلاح والدروع، ليكونوا على حذر من أي محاولة من جانب قريش للغدر بهم. وعندما اقترب المسلمون من مكة، علم أهلها أن طليعة المسلمين تحمل هذا السلاح معهم. فأرسلت قريش مباشرة مكرز بن حفص مع عدد من أشرافهم للتأكد من نوايا النبي، فقال له مكرز: "يا محمد، ما عرفت صغيرا ولا كبيرا بالغدر! تدخل بالسلاح في الحرم على قومك، وقد شرطتَ لهم ألا تدخل إلا بسلاح المسافر، السيوف في القرب." فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إني لا أُدخل عليهم السلاحَ." فقال مكرز: "هذا الذي يعرف به البر والوفاء." ثم رجع سريعا بأصحابه إلى مكة، فقال: إن محمداً لا يدخل بسلاح، وهو على الشرط الذي شرط لكم.[4]

لقد اكتفى وفد قريش بكلمة من رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول فيها إنه لين يدخل السلاح عليهم في مكة، فعادوا يؤكدون لقومهم أنه ملتزم بشروط المعاهدة التي أمضاها معهم. لقد كان هؤلاء يحاربونه على مدى عشرين عاما، واتهموه خلالها بارتكاب كل شناعة، ولكنهم لم يترددوا في تصديقه عندما تحدث عن نيته أنه لن يدخل عليهم بسلاح.

والذي يسعى إلى إحقاق الحق يعني أن عليه أن تكون الأمانة صفة لازمة له في كل حال. وقد كان محمد بن عبد الله، صلى الله عليه وسلم، مؤتمنا في كل حياته، فلم يحدث أن اتهمه أحد في أي يوم من الأيام بأنه لم يكن أهلا للأمانة. بل على العكس من ذلك، فقبل الإسلام لقبه قومه بالأمين. ورأينا – على سبيل المثال – أنه كان في أوائل العشرينات عندما عهدت إليه أرملة ثرية تدعى خديجة بنت خويلد بتولي تجارتها التي ترسلها في قافلة قريش التجارية إلى الشام. وما كانت خديجة ولا أحد غيرها يمكن أن يعهد إليه بمهمة كهذه لولا أنها كانت على يقين أنه أهل لهذه الثقة. وقد بنت يقينها على تجربة سابقة، إذ كان قبل ذلك يتجر لها في أسواق مكة. ثم عندما تأكدت من أمانته وصدقه وتعففه عن كل ما لا يليق، كانت هي التي عرضت عليه الزواج، بعد أن رفضت من قبل عدد من الأشخاص المرموقين إذ لم تستطع أن تنفي عنهم الطمع في ثروتها، بينما رأت في محمد شخصا تتجسد فيه الأمانة كما لا تتجسد في رجل.

ذكرنا في الفصل السابق كيف أن قريشا تآمرت لقتل النبي صلى الله عليه وسلم كي تحول بينه وبين الهجرة، وتحرك كبراؤها فورا لتنفيذ خطتهم. ولكن كثيرين من المشركين كانوا يودعون لديه أشياءهم الثمينة لتكون في حرز آمن. وكان معظم المسلمين من أهل مكة قد هاجروا إلى المدينة، وتركوا ديارهم ومتاعهم فصادرها المشركون. ومعنى هذا أن ما كان عند رسول الله صلى الله عليه وسلم من ودائع كان لأشخاص هم في معسكر العدو، إذ لم يكن أي شك يخامر المشركين أن ما يودعونه لدى النبي صلى الله عليه وسلم يظل مأمونا، لأنهم يعرفون صدقه وأمانته. ومن عجب أن هؤلاء المشركين الذين كانوا يأتمنونه على أغلى ما لديهم لم يفكروا أن شخصا بهذه الأمانة والصدق والخلق الكريم لم يكن ليكذب على الله أو عليهم.

وواضح أن هذا الذي كان يفعله القرشيون من إيداع نفائسهم عند النبي، صلى الله عليه وسلم، لم يبدأ بعد النبوة، بل قبلها. وهذا يعني أن قومه ظلوا على رأيهم في صدقه وأمانته بعد أن بدأ يتلقى الوحي من لدن حكيم حميد. بل إنهم وجدوه أكثر أمانة وثقة بعدها. فماذا فعل النبي بهذه الودائع عند الهجرة؟ لقد عهد إلى ابن عمه علي بن أبي طالب ليردها إلى أصحابها. وهو إذ ردها إليهم بعد أن نجا من محاولتهم اغتياله ومطاردتهم له في الصحراء قد أكد مرة أخرى أنه موضع للثقة، وأنه لا يرقى شك إلى أمانته وعفته عن كل ما هو حرام. فلم يكن ليخطر له على بال أن يغير من أسلوبه شيئا رغم كل ما لقيه من قومه من عنت. فقد كان دائما يهفو إلى ما هو حق ويفعله ويؤديه على أكمل وجه. ولقد كان الحق أن يعيد إلى من وثقوا بأمانته ما استودعوه إياه عند مغادرته بلدتهم ولم يعد في مقدوره أن يحفظها لهم. أما أنهم كانوا يعادونه ولا يصدقون رسالته فلم يكن سببا ليغير من الحق شيئا.

إن السعي لإحقاق الحق يتطلب العدل والإنصاف في كل وضع يتخاصم فيه الناس، ولقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم حريصا على العدل وتحقيقه، أيا كان المتنازعون أمامه، فهو لا يقبل الظلم أبدا. كان هذا هدفه الذي اختاره لنفسه قبل البعثة، وظل هو هدفه بعدها، في كل خصومة عرضت عليه. ولقد ذكرنا في الفصل الأول كيف حكم في تنازع قريش وبطونها في أيهم يكون له شرف إعادة الحجر الأسود إلى مكانه، عندما جددت قريش بناء الكعبة. كان يمكن أن يختار النبي أحكاما شتى، إذ كان يمكن أن يختار قومه بني هاشم للقيام بهذا العمل المشرف، على اعتبار أن بني هاشم هم أشرف بطون قريش فهم يختصون بما يشرف من الأعمال. وكان يمكن أن يختار من البطون القرشية من كان له أقل نصيب في خدمة الكعبة والحجيج، ليعطيهم فرصة لتحسين وضعهم باكتساب بعض الشرف. وكان يمكن أن يختار شخصا محايدا، أو يحتج بأنه هو المحايد بعد أن ترك له الحكم في الأمر. ولكنه لم يفعل شيئا من هذا كله، بل أدرك أن الأمر يتطلب تحقيق الإنصاف الكامل، فاختار الطريقة التي تشارك فيها كل بطون قريش بالعمل مشاركة متكافئة، فجاء حكمة منصفا كل الإنصاف، وحقق الحق لكل الأطراف.

وعندما أصبح محمد، صلى الله عليه وسلم، نبيا ورسولا كان الحكم في كل نزاع ينشب ضمن الجماعة المسلمة، او بين المسلمين وغير المسلمين. وقد أعلن للناس جميعا أنه لا يستطيع أن يحكم إلا على أساس الأدلة التي يضعها المتخاصمون بين يديه، فقال يحذر الناس: "إنكم تختصمون إلي، ولعل بعضكم ألحنُ بحجته من بعض، فمن قضيت له بحق أخيه شيئا بقوله، فإنما أقطع له قطعة من النار، فلا يأخذها."[5]

والمؤمن الذي يسمع هذا الكلام من رسول الله صلى الله عليه وسلم يعرف أنه تحذير شديد، يضع المسؤولية على عاتق الناس، فهم أعرف بما لهم من حق وبما لهم أن يطالبوا به. فإن كان لديهم شك فعليهم أن يسعوا لإزالة أي شبهة ليكون الأمر على بينة. والحديث يحدد مستوى عاليا من المسؤولية يشترك فيه كل الناس، مما يؤدي إلى إحقاق الحق والعدل.

كان محمد قبل الإسلام حريصا على أن يكون عادلا ومنصفا مع الناس، فعندما كانت تعرض عليه مسألة كان يحكم فيها بالعدل، لأن الحق لا يتحقق إلا بالعدل. ثم عندما أصبح نبيا ارتفع بهذا المبدأ إلى مستوى أعلى. فمن أمثلة ذلك معاملته لليهود في المدينة. ولقد ذكرنا في الفصل الثاني أن اليهود لم يتقبلوا الإسلام على الإطلاق، إلا قلة منهم عرفوا أنه الرسالة الخاتمة التي بشر بها أنبياؤهم. ولذلك حاولوا بكل وسيلة أن يفسدوا على المسلمين أمرهم. بل لم يلتزموا بما عاهدوا عليه النبي والمسلمين وانحازوا إلى أعدائهم. ومع ذلك فعندما كان النبي صلى الله عليه وسلم ينظر في خصومة لأحد من اليهود مع بعض المسلمين لم يكن يحكم إلا بالحق والعدل، وضرب المثل الأعلى في تحقيق العدالة. فقد حدث أن سرقت درع لشخص من الأنصار يدعى رفاعة عندما كان في غزوة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه ابن أخيه قتادة بن النعمان. وحامت الشبهة حول رجل من بني أبيرق، فأتي صاحب الدرع للنبي يشكو له بشير بن أبيرق على أنه السارق. (وتشير بعض الروايات إلى أنه كان من أهل النفاق.) فعمد إلى إلقاء الدرع في منزل جار له يهودي اسمه زيد بن السمين، وقال لنفر من عشيرته إن الدرع موجودة في بيت فلان، فانطلقوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأكدوا له براءة صاحبهم وإن الذي سرق الدرع فلان، وطلبوا منه أن يعذر صاحبهم على رؤوس الناس، وأن يجادل عنه. فلما عرف النبي صلى الله عليه وسلم، أن الدرع وجدت في بيت اليهودي، قام فبرأ ابن أبيرق وعذره على رؤوس الناس. وقال النبي لقتادة بن النعمان: "عمدت إلى أهل بيت يذكر منهم إسلام وصلاح، وترميهم بالسرقة على غير ثبت ولا بينة." غير أن النبي صلى الله عليه وسلم نزل عليه الوحي يبين الأمر على حقيقته، ويبين للنبي وللمسلمين في كل العصور ما يجب عليهم أن يفعلوه. قال الله تعالى:

{إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله، ولا تكن للخائنين خصيما. واستغفر الله إن الله كان غفورا رحيما. ولا تجادل عن الذين يختانون أنفسهم، إن الله لا يحب من كان خوانا أثيما. يستخفون من الناس ولا يستخفون من الله وهو معهم إذ يبيتون ما لا يرضى من القول، وكان الله بما يعملون محيطا. ها أنتم هؤلاء جادلتم عنهم في الحياة الدنيا، فمن يجادل الله عنهم يوم القيامة، أم من يكون عليهم وكيلا؟ ومن يعمل سوءاً أو يظلم نفسه ثم يستغفر الله يجد الله غفورا رحيما. ومن يكسب إثما فإنما يكسبه على نفسه، وكان الله عليما حكيما. ومن يكسب خطيئة أو إثما ثم يرم به بريئا فقد احتمل بهتانا وإثما مبينا. ولولا فضل الله عليك ورحمته لهمت طائفة منهم أن يُضلوك، وما يضلون إلا أنفسهم، وما يضرونك من شيء. وأنزل الله عليك الكتاب والحكمة، وعلمك ما لم تكن تعلم. وكان فضل الله عليك عظيما}. (النساء 105-113)

يقول سيد قطب، رحمه الله: "لقد كان هناك أكثر من سبب للإغضاء عن الحادث، أو عدم التشديد فيه والتنديد به، وكشفه هكذا لجميع الأبصار. بل فضحه بين الناس على هذا النحو العنيف المكشوف. كان هناك أكثر من سبب، لو كانت الاعتبارات الأرضية هي التي تتحكم وتحكم. ولو كانت موازين البشر ومقاييسهم هي التي يرجع إليها هذا المنهج. كان هناك سبب واضح عريض.. أن هذا المتهم يهودي، من يهود التي لا تدع سهما مسموما تملكه إلا أطلقته في حرب الإسلام وأهله. يهود التي يذوق منها المسلمون الأمرّين في هذه الحقبة (ويشاء الله أن يكون ذلك في كل حقبة). يهود التي لا تعرف حقا ولا عدلا ولا نصفة، ولا تقيم اعتبارا لقيمة واحدة من قيم الأخلاق في التعامل مع المسلمين على الإطلاق.

"وكان هناك سبب آخر، وهو أن الأمر في الأنصار. الأنصار الذين آووا ونصروا، والذين قد يوجد هذا الحادث بين بعض بيوتهم ما يوجد من الضغائن. بينما أن اتجاه الاتهام إلى يهودي يبعد شبح الشقاق.

"وكان هناك سبب ثالث. هو عدم إعطاء اليهود سهما جديدا يوجهونه إلى الأنصار. وهو أن بعضهم يسرق بعضا، ثم يتهمون اليهود. وهم لا يدعون هذه الفرصة تفلت للتشهير بها والتغرير."[6]

لم يتردد النبي صلى الله عليه وسلم لحظة واحدة في إعلان براءة اليهودي، بل لم يعر أي انتباه لكل الاعتبارات التي كان يمكن أن تجعل غيره من الحكام يميل إلى الإغضاء عن الحادث، بل كان يعنيه أمر واحد، ألا وهو إحقاق الحق وإقامة العدل. بل أكد لكل أصحابه أن الظلم لا يأتي إلا بالهلاك والبوار للفرد والمجتمع، أما العدل فهو الذي يحفظ الحقوق ويمتن أواصر المجتمع. ونحن نرى كيف أن السعي لإحقاق الحق جعل محمد ينصف في حكمه قبل الإسلام ونرى كيف أن هذه الغاية نفسها جعلت نبي الإسلام يقيم العدل على أعلى المستويات.

يبدو أن السعي لإحقاق الحق كان طابعا أصيلا في شخصية محمد، صلى الله عليه وسلم، منذ نعومة أظفاره. وهذا واضح في لقائه مع راهب في الشام وهو لما يزل طفلا في الثانية عشرة من عمره، أو نحوها. ومع أن اللقاء مروي في مختلف كتب السيرة والتاريخ الإسلامي إلا أن صحته لا تثبت على وجه اليقين. وبعض المستشرقين يعتبرونه دليلا هاما يؤكدون به دعواهم أن محمدا التقى مع بعض الرهبان النصارى وتعلم منهم. ولسنا بصدد مناقشة هذه المزاعم، بل يكفي أن نقول إنه إذا كان هذا هو الدليل على ما يزعمون، فإن مزاعمهم تظل واهية.

تذكر الرواية أنه عندما كان محمد في الثانية عشرة وأراد عمه أن يسافر إلى الشام في رحلة قريش التجارية السنوية تعلق محمد به، فرقَّ له عمه وأخذه معه إلى الشام. وكان طريق القافلة يمر قريبا من صومعة راهب نصراني يدعى بحيرى، فدعا بحيرى رجال القافلة إلى طعام، وكان وهو يقدم لهم الطعام ينظر إلى محمد نظرة متفحصة، ثم أخذه جانبا وسأله عن نفسه. ثم سأله أمراً يستحلفه فيه باللات والعزى، فقال له محمد: لا تسألني باللات والعزى شيئا، فوالله ما أبغضت شيئا قط بغضهما. فأعاد بحيرى السؤال مرة أخرى يستحلفه فيها بالله، فأجابه محمد بشكل عادي. وبعد هذا الحوار سأل بحيرى أبا طالب عن محمد وقرابته له، وعندما تأكد أن أباه قد مات قبل ولادته، قال بحيرى لأبي طالب: "إرجع بابن أخيك إلى بلده، واحذر عليه يهود، فوالله لئن رأوه وعرفوا منه ما عرفت ليبغُنَّه شراً، فإنه كائن لابن أخيك هذا شأن عظيم، فأسرع به إلى بلاده."

والأمر الذي يعنينا هنا هو البغض الذي عبر عنه فتى في الثانية عشرة من عمره للأصنام التي يعبدها قومه، فهذا موقف ليس مبنيا على أي مبدأ ديني أو عقيدة. ففي ذلك الوقت لم يكن محمد قد عرف شيئا من التعاليم الدينية، باستثناء ما كان معروفا في مكة، ومعروف أن عقيدة أهل مكة كانت في مستوى متدن من الوثنية. كان عدد قليل من أهل مكة يرفضون عقيدة الوثنية، لكن أحدا منهم لم يفكر قط في البدء في الدعوة إلى دين جديد. بل إن الأشخاص الذين كانوا معروفين برفض الوثنية إما أنهم كانوا لا يزالون يبحثون عن دين يعتقدونه مثلما كان ورقة بن نوفل يفعل، أو أنهم كانوا لا يزالون صغارا عندها، مثل زيد بن عمرو. كان بغض محمد لللات والعزى بغضا فطريا، ولعله كان إنما يقوم على ملاحظته أن تلك الأوثان لم تكن سوى تماثيل يصنعها البشر.

ظل بغض الأصنام بغضا فطريا عند محمد، صلى الله عليه وسلم، طوال حياته، فقد كان رجلا عندما حدث ما ذكرناه في الفصل الأول من حضور يوم عيد الصنم المسمى بوابة. فقد رضخ، وهو المحب لأسرته، لضغوط عماته وحضر ذلك العيد، بالرغم من أنه لم يكن يحضر عيدا من تلك الأعياد من قبل، وما حضره تلك المرة إلا لأن عماته ألححن عليه أن حضوره يعني الكثير بالنسبة لأهله. ولكنه كلما اقترب من صنم من تلك الأصنام سمع صوتا يقول له ابتعد. كان ذلك أحد مظاهر الرعاية الربانية له كيلا يقترب من عبادة الأصنام بأي صورة من الصور. ولكن الأمر الأهم هنا هو أنه لم يكن يرضخ لضغط أهله في السنوات السابقة، مما يدل على أنه لم يكن مقتنعا على الإطلاق بعبادة الأصنام، لأنها لا تتفق مع معاييره في تحديد ما هو حق. فتلك الأوثان والأصنام كانت لا تزيد على كونها أشياء لا تضر ولا تنفع، يصنعها البشر، ثم يضعونها في أماكنها التي يحددونها لها، ثم يقدسونها. تلك كانت في نظره مسألة تافهة، بينما كان يتطلع دائما إلى ما هو حق.

هذان مثالان فقط من حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم التي كان فيها دائما يبتعد عن الوثنية وكل ما يتعلق بها. فلم يحدث في أي يوم من حياته قبل البعثة أن توجه إلى صنم من الأصنام التي كان قومه يعبدونها. ولم يلمس أيا منها أو يطلب منها البركة. بل ابتعد عن كل ما هو من شعائر الدين البدائي الذي كان قومه يمارسونه، ورفض كل ما فيه.

عندما ندرس حياة محمد قبل البعثة، نجد أنه رجل كثير الحب لأهله. فعندما فقد أحبابه كان الفراق شديدا عليه وحزن كثيرا لفقدهم. وعندما كفله عمه، تعامل مع أسرة عمه تعامل من يهتم بالأسرة وما تواجهه من أمور. وعندما كان في الثانية عشرة تعلق بعمه يريد السفر معه، لأنه لا يريد أن يفقده ولو لبضعة أسابيع. وعندما تزوج كان الزوج المثالي والأب العطوف. وشارك في كل ما هو نبيل من أمور أسرته وعشيرته وقبيلته، حتى أنه حارب إلى جانب أعمامه. ثم شارك في حلف الفضول الذي كانت غايته رفع الظلم عن المظلوم. ولذلك فإننا عندما نراه يتفاعل مع أسرته وعشيرته هذا التفاعل، نتساءل ما هو السبب الذي يدفعه إلى الغياب عن الاحتفالات الدينية التي كانت أسرته تعطيها الاهتمام الكبير. إن السبب الوحيد هو أن عبادة الأصنام والأوثان كانت تخالف إحساسه بالحق وسعيه الدائم أن يكون إلى جانب الحق.

عندما أصبح محمد في منتصف الثلاثينات من عمره، بدأ ينشد العزلة ملجأ يفزع إليه من الجوانب التي يستقذرها في حياة المجتمع المكي، مثل عبادة الأصنام والتحلل الخلقي. فكان يذهب إلى غار حراء، على مسافة بضعة كيلومترات من مكة، ويقيم فيه أياما بلياليها، يتحنث فيه، أي يتعبد، ولكن عبادته هذه لم يكن لها شكل أو طابع محدد. غار حراء غار صغير، ومعزول تماما. لا يتسع مدخله لأكثر من شخص واحد يقف أو يجلس أو يستلقي فيه، وإذا وقف المرء عند مدخله ووجهه إلى الغار فإنه يرى الكعبة من فتحة في آخره. وأمام الغار فسحة غير كبيرة تظللها من الشمس صخور كبيرة من جانبين، أما الجانب الرابع فمفتوح كلية، مما يعطي المكان نسمة منعشة. ذاك هو المكان الذي كان يتحنث فيه محمد. ولم يذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد الرسالة كيف كان يتعبد في الغار، ولكن الله تعالى بيّن في القرآن أنه لم يكن يتطلع إلى شيء محدد: "وما كنت ترجو أن يلقى إليك الكتاب إلا رحمة من ربك." (القصص 86)، ويقول الله تعالى: {وما كنت تتلو من قبله من كتاب ولا تخطه بيمينك}. (العنكبوت 48) بل إننا نقول: إن محمدًا لم يكن لديه مفهوم واضح عن الله عزّ وجلّ، لأن هذا المفهوم لم يكن موجودا في البيئة التي نشأ وعاش فيها، بل لم تكن هناك صورة قريبة لهذا المفهوم. كان زيد بن عمرو، أحد القرشيين الذين سعوا إلى معرفة الدين الذي يبين مفهوما واضحا عن الله يقول: "يا رب، إني لا أعرف كيف أعبدك كما تريد." ولعل محمد كان يحكي مثل هذا القول في تلك الفترة.

يقول بعض المؤرخين المسلمين: إن محمداً كان قبل البعثة يتعبد الله على دين إبراهيم. وكان العرب في الجاهلية يفاخرون بأنهم أحفاد إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام، ولكن الدين الذي كان أسلافهم يدينون به والذي تعلموه من نبي الله إسماعيل عليه السلام لم يبق منه سوى صورة باهتة، تتمثل في بعض الجوانب المتناثرة التي لا تشكل شيئا مميزا، وكان معظم ما بقي مما يتصل بأعمال الحج. بل إن أعمال الحج نفسها تعرضت لتحريف وتشويه كبيرين. ظل العرب يؤمنون بالله، خالق السموات والأرض، ولكنهم كانوا يرون أن الله بعيد عن الناس. ولذلك نراهم يقولون إنهم بحاجة إلى أن يعبدوا آلهة أخرى تقربهم إلى الله زلفى: "ألا لله الدين الخالص. والذين اتخذوا من دونه أولياء ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى." (الزمر 3) وعلى هذا فإن ما نفهمه من قولهم: إن النبي كان يعبد الله على دين إبراهيم في تلك الأيام التي يتحنث فيها في الغار هو أنه كان يناجي الله خالق السموات والأرض، دون أن يكون لديه مفهوم أو تصور واضح عن الله وكيف يعبد. بل كان تحنثه لا يزيد عن كونه محاولة لتكوين صورة أوضح بواسطة العزلة والتأمل. ولهذا نرى أن فترات العزلة هذه، والتي أخذت تزداد وتتكرر مع بلوغه أواخر الثلاثينيات، تتسق مع سعيه الدائم للتوصل إلى الحق وإحقاقه. فالذي كان يحرص عليه هو أن يكون لديه فهم صحيح للحياة والإنسان.

وكما رأينا في الفصل الأول جاءه الملَك لأول مرة ذات يوم وهو في خلوته في غار حراء، فكان ذاك هو اتصاله الأول بالملأ الأعلى. وما من إنسان يمكن أن يكون متهيئا لهذا الاتصال، ولذلك ارتجف محمد، صلى الله عليه وسلم، وأحس بالخوف. فهو لم يكن يدري طبيعة هذا الاتصال ولا طبيعة الملك الذي جاءه. ولم يكن يعرف كيف يفسر ما حدث. ولهذا نراه يغادر المكان مسرعا عائدا إلى بيته، ويطلب من أهله أن يزملوه ويدثروه. ولم تكن طمأنة زوجه الحنون لتعطيه أي شيء يقيني، فأنى له أن يستيقن وهي لا تعرف شيئا عن الأمر كله؟ ولكنها كانت تطمئنه على أساس ما كانت تعرفه من نبل شخصيته، ولذلك قالت له: "والله ما يخزيك الله أبدا. إنك لتصل الرحم، وتحمل الكَلّ، وتُكسِب المعدوم، وتُقري الضيف، وتعين على نوائب الحق." وقالت له أيضا إنه كان لا يقول إلا الصدق، ومن كانت هذه صفاته فإن الله لا يتخلى عنه ولا يخزيه.

لم تكن طمأنة خديجة كافية لمحمد، صلى الله عليه وسلم، فقد كانت تستند إلى حجة منطقية وكان بحاجة إلى أكثر ما هو من المنطق. ولذلك انطلقت به إلى ابن عمها ورقة بن نوفل، الذي كان رجلا مسنا قد عمي، وكان قد رحل رحلات كثيرة ينشد الدين الصحيح، ثم تنصّر وقرأ الانجيل ودرسه دراسة متعمقة. واستمع ورقة إلى رواية محمد لما جرى بكل تفصيلاتها، وما قاله له الملك، ثم قال له ما رآه من نتيجة: "والذي نفسي بيده، إنك لنبي هذه الأمة، ولقد جاءك الناموس الأكبر الذي جاء موسى." وأخبره ورقة أنه هو النبي الذي بشرت به كل الكتب السماوية، وأن مهمته ستكون ثقيلة: "ولتكذبنه، ولتخرجنه، ولتقاتلنه. ولئن أنا أدركت ذلك اليوم، لأنصرن الله نصرا يعلمه."[7] وتدل الروايات التي بين أيدينا أن ورقة لقي رسول الله صلى الله عليه وسلم أكثر من مرة في الأيام التالية وكان يطمئنه دائما، ثم ما لبث ورقة أن توفي.

تلك كانت حادثة فريدة، لم يعرف مثلها أحد من قومه، ولم يأت العرب نبي من قبل منذ أن كان إسماعيل عليه السلام يعيش بينهم. ومن ثم كان محمد يريد أن يتوصل إلى حقيقة الأمر، فكانت تلك هي الغاية من هذه اللقاءات مع ورقة بن نوفل، العالم المتبحر في أمور الدين. وعرف محمد منه طرفا مما تعنيه النبوة. ومن ثم أصبح أكثر فهما لما طمأنه به الملك في زياراته التالية، ثم ما لبث أن تجلى له وجه الحق في الأمر كله.

ومن ثم جاء الوحي في المرة التالية يطمئنه عن المستقبل، و يبين أنه بحاجة أن يستعد لمهمته الثقيلة. ولم يكن هذا الاستعداد سوى أن يقضي الساعات الطويلة من الليل في الصلاة والعبادة: "يا أيها المزمل قم الليل إلا قليلا، نصفه أو انقص منه قليلا، أو زد عليه ورتل القرآن ترتيلا. إنا سنلقي عليك قولا ثقيلا. إن ناشئة الليل هي أشد وطئا وأقوم قيلا. إن لك في النهار سبحا طويلا. واذكر اسم ربك وتبتل إليه تبتيلا. رب المشرق والمغرب، لا إله إلا هو، فاتخذه وكيلا." (المزمل 1-9)

وقام رسول الله صلى الله عليه وسلم – كما أمره ربه – فكان يقوم الساعات الطوال من الليل يتفرغ فيها للعبادة، وظل على هذه الحال سنة كاملة، إذ كان يعرف أن هذا واجبه، مما أعطاه مزيدا من الطمأنينة. لقد أدرك أن المهمة التي أسندت إليه مهمة صعبة وشاقة، لأنها تهدف إلى أن تضع البشرية على الصراط المستقيم، وتهديها السبيل في أهم مسائل حياتها، ودينها، وعبادتها. ذلك كان الحق المطلق الذي جاءه من المصدر الحق، من الله تعالى. ولم يعد محمد، صلى الله عليه وسلم، بحاجة إلى السعي لمعرفة الحق، لأن الحق سيأتيه في كل وضع من الأوضاع، وفي كل أمر من الأمور، في ما تبقى من حياته المباركة.

[1] ابن هشام، السيرة النبوية، بيروت، دار الفكر، (1/359)

[2] صحيح البخاري، كتاب التفسير، سورة الشعراء. ابن هشام، السيرة النبوية (1/280-281)

[3] أبو الحسن الندوي، السيرة النبوية، جدة، 1977، ص. 88.

[4] البيهقي، دلائل النبوة، (4/321)

[5] صحيح البخاري، كتاب الشهادات، الحديث رقم 2680.

[6] سيد قطب، في ظلال القرآن، المجلد 2، ص. 752-753.

[7] ابن هشام، السيرة النبوية، المجلد 1، ص. 254.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين