محمد صلى الله عليه وسلم شخصيته وصفاته (7)

خلاصة لأحـداث السـيرة النبوية -5-

شهدت السنة السابعة للهجرة نشاطا واسعا في الدعوة إلى الإسلام بين القبائل العربية. فقد أصبح أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قادرين على التحرك بسلام وزيارة القبائل العربية. ويذكر المؤرخون المسلمون أن السنتين اللتين أعقبتا صلح الحديبية شهدتا إسلام عدد كبير من الناس، فكل من خاطبه المسلمون يدعونه إلى الإسلام ونظر فيه نظرة متعقلة منصفة لم يلبث أن نطق بالشهادتين. ويتأكد ذلك من أن الذين كانوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديبية ثم في غزوة خيبر كانوا يعدون ألفا وأربعمئة، وبعد سنتين كان الجيش الذي سار مع رسول الله صلى الله عليه وسلم لفتح مكة قوامه عشرة آلاف.

أمر آخر حدث بعد صلح الحديبية بمدة قصيرة كانت له آثار زادت وتنامت مع مرور الأيام، وهو وصول أبي بصير، عتبة بن أسيد، إلى المدينة، قادما من مكة. كان أبو بصير مسلما، ولكن قريشا حبسته ومنعته من الهجرة، غير أنه استطاع الهرب بعد الحديبية وجاء مهاجرا. فبعث أزهر بن عبد عوف والأخنس بن شريق إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يطلبان رده، وبعثا رجلا من بني عامر بن لؤي لاسترداده، فلم يكن أمام النبي، صلى الله عليه وسلم، خيار إلا أن يسلمه إليه. ولكن بعد أن سار أبو بصير مسافة غير بعيدة من المدينة مع الرجل العامري وغلامه استطاع أبو بصير أن يمسك بسيف العامري فقتله، ولكنه لم يتعرض إلى غلامه بسوء. غير أن الغلام عاد فزعا إلى المدينة وروى للنبي ما حدث. وأصبح أبو بصير في وضع حرج، فلا هو يستطيع أن ينضم إلى جماعة المسلمين في المدينة ولا يستطيع العودة إلى مكة، فهرب إلى الصحراء وأقام في مكان قريب من طريق قوافل قريش التجارية، وبدأ يغير على هذه القوافل ويسبب لقريش إزعاجا كبيرا. وما لبث أن انضم إليه عدد من المسلمين الذين استطاعوا الفرار من مكة. فتشكلت منهم قوة أخذت تهاجم قوافل قريش فأصبحت طريقها التجارية غير آمنة. فلم يلبث رؤساء مكة أن ناشدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يضم هؤلاء المقاتلين إليه، وبذلك تخلت قريش عن الشرط الذي كانت أصرت عليه في صلح الحديبية، وهو أن يعيد النبي إليها من جاءه مسلما من قريش دون إذن وليه.

وفي الشهر العاشر من تلك السنة كان رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه على موعدهم لزيارة مكة في عمرة القضاء، أو عمرة القضية، حسب نصوص المعاهدة التي عقدت في الحديبية. وسار النبي وأصحابه وساقوا معهم الهدي. غير أنهم أخذوا معهم بعض السلاح تحسبا من أي غدر يمكن أن يقع. فقد كانت شروط المعاهدة تنص على أن لا يدخلوا مكة إلا بسلاح الراكب، السيوف في أغمادها. وأبقى رسول الله صلى الله عليه وسلم السلاح الزائد على مسافة من مكة وترك مئتين من أصحابه هناك، فلما أتم عمرته مع من دخل معه، أرسل عددا منهم ليتبادلوا المهمة مع إخوانهم الذين تخلفوا مع السلاح، فيستطيع هؤلاء أن يؤدوا عمرتهم. وعندما بدأ النبي وأصحابه يطوفون بالبيت ويؤدون شعائر العمرة، تفاوت موقف أهل مكة، فالرؤساء الذين كانوا مصرين على عداء الإسلام ذهبوا إلى الجبال القريبة كيلا ينظروا إلى محمد وأصحابه في عبادتهم، ولكن غالبية أهل مكة كانوا أحرص على مشاهدة المسلمين. وقد تأثروا كثيرا بما رأوه، فقد شاهدوا جماعة من قبائل مختلفة ومتعددة ولكن الآصرة التي تربط بينهم وتوحدهم كانت أقوى من كل روابط القبيلة والدم. وكانت محبتهم العظيمة للنبي، صلى الله عليه وسلم، واضحة تماما، فقد كان كل مسلم على استعداد دائم أن يفعل ما يأمره به النبي وهو في غاية السعادة. وعندما كان المسلمون يتحدثون إلى أهل مكة كانوا يحدثونهم بمودة صادقة، فيبينون لهم ما أحدثه الإسلام في حياتهم من تغيير. ومن جهة أخرى التقى كثيرون من المهاجرين بأقاربهم من أهل مكة وتحدثوا إليهم يشجعونهم على أن ينظروا إلى الإسلام نظرة عقل وموضوعية. وشعر أشراف مكة أن زيارة المسلمين لمكة تنذر بأن تزيح العوائق التي سعوا جاهدين إلى إقامتها كي يبعدوا أهل مكة عن الإسلام، ولذلك فعندما انتهت الأيام الثلاثة طلبوا من النبي وأصحابه أن يغادروا مكة. فطلب منهم النبي أن يعيدوا النظر في الأمر، واقترح أن يدعو أهل مكة إلى طعام، ولكنهم رفضوا دعوته هذه دون تردد، وطلبوا منه الرحيل. ولم يحدث قط أن أخل الرسول صلى الله عليه وسلم بوعد قطعه لأحد، ولذلك أمر أصحابه بالرحيل.

الأمر الذي كان رؤساء مكة يحاذرونه أشد الحذر بدأ يتحقق فعلا، وهو أن عددا كبيرا من أهل مكة، بكل فئاتهم وطبقاتهم، بدؤوا يعيدون التفكير في موقفهم من الإسلام. ورأى هؤلاء أن مفهوم الإله خالق الكون، المتفرد بالألوهية والربوبية، أسمى من كل معتقداتهم. وفي غضون أسابيع قليلة كان ثلاثة من الشباب ذوي المكانة العالية في المجتمع المكي، يتخذون طريقهم إلى المدينة ليبايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم على الإسلام، وهم خالد بن الوليد، وعمرو بن العاص، وعثمان بن طلحة.

كان ملك بصرى الغساني ليس إلا حاكما يعينه الامبراطور البيزنطي ليدير شؤون إقليم من أقاليم امبراطوريته المترامية الأطراف، وعندما قتل ملك بصرى رسول النبي، صلى الله عليه وسلم، المبعوث إليه منتهكا العرف العالمي بأن الرسل لا تقتل، كانت فعلته تمثل وقاحة نادرة يبادر بها النبي والدولة الإسلامية، ولم يكن النبي ليدعه يفلت بها. ولذلك جهز النبي في الشهر الخامس من السنة الثامنة للهجرة جيشا قوامه ثلاثة آلاف رجل لمحاربة هذا الملك. وسمى رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثة من كرام أصحابه لقيادة الجيش، اثنان منهم من المهاجرين وواحد من الأنصار، بحيث يأخذ التالي إن أصيب الذي قبله. وعند رحيل الجيش أوصاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن لا يقتلوا شيخا ولا امرأة ولا طفلا ولا راهبا، وأن لا يقطعوا شجرة، وأن لا يقتلوا حيوانا إلا لطعام. وسار الجيش في مهمته، وعندما علم ملك بصرى بمسيره جهز جيشا قوامه مئة ألف رجل، وأمده امبراطور الروم بتعزيزات كبيرة.

التقى الجيشان عند مؤتة، في جنوب الأردن، وكان واضحا أن الجيش الإسلامي كان يواجه قوة أضخم منه بعشرات المرات، وما كان في مقدوره أن يحقق انتصارا. والواقع أن قادته الثلاثة قتلوا الواحد بعد الآخر. وعندما قتل الثالث منهم، اختار الجيش، حسب تعليمات رسول الله صلى الله عليه وسلم قائدا آخر، وهو خالد بن الوليد الذي أسلم قبل مدة قصيرة، ولكنه كان قائدا عسكريا موهوبا. وأدرك خالد أنه إذا استمرت المعركة حتى نهايتها، فإن الجيش الإسلامي سيتعرض لخسائر كبيرة في الأرواح، كما أدرك أن النصر بعيد المنال. ولذلك وضع خطة عبقرية، فبعد انتهاء اليوم الأول من القتال، بدل خالد مواقع جنده، فجعل الميمنة على الميسرة ليعطي العدو انطباعا بأن تعزيزات جديدة وصلت إلى جيش المسلمين. وعندما التقى الجيشان في اليوم التالي، أخذ القلب من جيش المسلمين يتراجع تراجعا بطيئا، بينما كانت الميمنة والميسرة تقاتل مستبسلة، ثم عمد خالد إلى نقل الضغط على جنده من وحدة إلى أخرى، كي يستطيع أن يتراجع ببطء، وظن العدو أن المسلمين يستدرجونهم نحو الصحراء، ولم يكن لدى الجيش الشامي أي خبرة في قتال الصحراء، ولذلك قرر قادته أن لا يقع جيشهم في هذا الفخ الذي تصوروه، فلم يتعقبوا جيش المسلمين في تراجعه. وبذلك استطاع خالد أن ينزاح بالجيش، مقللا الخسائر في صفوفه إلى أدنى حد. وأثنى رسول الله صلى الله عليه وسلم على صنيعه هذا.

نصَّت معاهدة صلح الحديبية على أن أي قبيلة عربية تستطيع أن تدخل في حلف أي من طرفي المعاهدة، فانضم بنو بكر إلى حلف قريش، بينما تحالفت خزاعة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم. وكان بين هاتين القبيلتين نزاع وثارات قديمة تعود إلى أيام الجاهلية، وظلت بكر تسعى إلى فرصة تثأر بها لقتل بعض رجالها على أيدي خزاعة. وسنحت لهم فرصة جديدة، فقام رجال من بني بكر، يعاونهم بعض أشراف قريش بالإغارة ليلا على خزاعة فقتلوا عشرين من أبنائها. فأرسلت خزاعة وفدا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، يريي له ما حدث ويستنصره على المعتدين. واعتبر رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الغارة خرقا فاضحا لمعاهدة الصلح، ووعد خزاعة بالتأييد الكامل.

وفي مكة تداولت قريش في موقفها وأدركت أنها ارتكبت عملا لا يمكن تبريره، وأن عليها أن تقوم بعمل عاجل كي تتلافى أن يقوم المسلمون بعمل ينتقمون فيه لحلفائهم، ولذلك ذهب زعيم مكة، ابو سفيان، إلى المدينة يحاول استرضاء المسلمين. غير أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يقبل منه ما حاول أن يغطي به على ما فعلت قريش. أما أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد قالوا له صراحة إنه ملتزمون بما يأمرهم به النبي ولا يحيدون عنه، ولا يمكن أن يتخذ أي منهم مبادرة شخصية في أمر من أمور الدولة. فعاد أبو سفيان إلى مكة وقد فشل في تحقيق غرضه من رحلته.

بعد رحيل أبي سفيان أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالتعبئة، ولكنه حرص أشد الحرص على كتمان الأمر حتى لا تعلم به قريش. ثم أرسل إلى كل القبائل التي أسلمت حديثا يطلب منها الانضمام إلى جيش المسلمين، فأرسلت كل قبيلة فرقة من مقاتليها. فاجتمع أكبر جيش من المسلمين شهدته الجزيرة العربية، إذ كان زهاء عشرة آلاف. وسار الجيش بهدوء شديد، دون أن يعرف بمسيره أحد، لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا الله أن يعمي عنه عيون قريش. فلما وصل الجيش إلى مر الظهران، القريبة من مكة، أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يُضعف معنويات قريش إلى أدنى حد، ولذلك أمر الجيش بأن يشعل أكبر عدد ممكن من النيران خلال الليل. ولذلك فعندما خرج أبو سفيان مع اثنين من وجهاء قريش يستطلعون الأخبار ورأوا هذه النيران شعروا بقلق شديد. ثم التقوا بعد ذلك بالعباس بن عبد المطلب، عم رسول الله صلى الله عليه وسلم، الذي خرج من معسكر المسلمين يبحث عن شخص يحمله رسالة إلى قريش ليأتوا ويصالحوا رسول الله صلى الله عليه وسلم. فأخذ العباس أبا سفيان إلى النبي، صلى الله عليه وسلم، حيث دار بينهما حديث كان غاية في الصراحة، ثم انتهى بأن أعلن أبو سفيان إسلامه. فبعثه النبي يعلن لأهل مكة أن من دخل البيت الحرام فهو آمن، ومن دخل بيت أبي سفيان فهو آمن، ومن أغلق عليه باب بيته فهو آمن.

دخل جيش النبي صلى الله عليه وسلم مكة من جهاتها الأربع، وأعطى قواد الفرق الأربع أوامر مشددة أن لا يقاتلوا أحدا إلا من بدأهم بقتال. ودخل الجيش مكة واستسلم أهلها له. وحدث اشتباك بين بعض المشركين والفرقة التي كان يقودها خالد بن الوليد. ثم طاف رسول الله صلى الله عليه وسلم مع عدد كبير من أصحابه بالبيت الحرام، وفي يده عصا. وكانت قريش قد وضعت حول الكعبة عددا كبيرا من الأصنام التي كانوا يعبدونها. فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدفع كل صنم، أو يشير إليه بعصاه، فكان إذا دفع الصنم في ظهره يقع على وجهه، وإن لامسته عصاه في وجهه يقع على ظهره. ثم أمر فأزيلت كل هذه الأصنام وكل شارات الوثنية من الكعبة المشرفة، لتعود الكعبة إلى الأبد رمز الإسلام وعقيدة التوحيد الخالص.

بعد يومين من دخوله مكة خطب النبي في أهلها ثم قال لهم: "ما تظنون أني فاعل بكم؟" قالوا: "خيرا، أخ كريم وابن أخ كريم." فقال: "اذهبوا فأنتم الطلقاء". وكان النبي قبل دخوله مكة قد أمر بقتل حوالي عشرين شخصا، حيثما وجدوا. غير أن الذي حدث هو أنه من جاء إلى النبي بنفسه، أو من جاء به أي من أصحابه، يرجو منه العفو، عفا عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلم يقتل من الذين سماهم النبي سوى أربعة. وغني عن القول إن هؤلاء الذين سماهم النبي ليقتلوا كانوا أشد الناس عداوة للاسلام، ومع ذلك عفا النبي عن معظمهم.

بدأ أهل مكة ينظرون إلى الإسلام والمسلمين نظرة جديدة، ولم تكن معتقداتهم الوثنية لتقارن بعقيدة الإسلام. كما أن من كان منهم له أقارب من المسلمين أخذوا يحدثونهم عما أحدثه الإسلام من تغيير في حياتهم، فما لبث هؤلاء أن أدركوا أن خير ما يفعلوه هو أن يتابعوا أقاربهم، وابتدأ أهل مكة يأتون إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فرادى أو جماعات، يعلنون إسلامهم. ومع أن بعض أهل مكة لم يصلوا بعد إلى هذا الاقتناع، فإن التغيير بدأ يتمكن وتترسخ جذوره في مكة لتصبح مسلمة.

لم يكن تحول مكة إلى معسكر الإسلام يعنى زوال الخطر كله من قِبَل العرب الوثنيين، بل ظلت بعض القبائل العربية الكبيرة على وثنيتها، وكانت تفكر في مهاجمة الدولة الإسلامية. وعرف رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في مكة أن هوازن، وهي من أكبر القبائل العربية، تحشد جيشا لقتاله، تساندها في ذلك قبيلة كبيرة أخرى، وهي ثقيف، التي تعيش في الطائف. وكان جيش المسلمين جاهزا، لم يخض معركة بعد، فتحرك لملاقاة هوازن، وسار معه حوالي ألفين من مكة، كان معظمهم من الذين أسلموا بعد فتح مكة، وكان بعضهم لا يزال على الشرك، ولكنهم جاؤوا مع الجيش يأملون أن يحقق المسلمون نصرا سهلا، مما يعطيهم الفرصة للحصول على حصة من الغنائم.

والتقى الجيشان عند وادي حنين، وكانت هوازن قد سبقت إليه، وأكثر معرفة به وبالمنطقة من حوله، فتمركز المشركون واتخذوا مواقعهم قبل وصول المسلمين. كان مدخل الوادي ضيقا ولا بد للمسلمين من اجتياز ذلك المدخل الضيق، وكان قائد جيش هوازن قد وضع أفضل رماته على مشارف المدخل، فعندما صارت مقدمة جيش المسلمين في المدخل، قبل الفجر، أمطرها الرماة المشركون بوابل من سهامهم، فقتلوا عددا من الجنود، مما أحدث ارتباكا في صفوف المسلمين، وبدأت بعض الوحدات في التراجع، فاصطدمت بالوحدات المتقدمة، مما أدى إلى ارتباك كبير. غير أن النبي صلى الله عليه وسلم، ثبت مع قدد قليل من أصحابه، من بينهم عمه العباس الذي كان جهير الصوت، فأمره النبي أن ينادي على الأنصار والمهاجرين، فما أن سمعوا النداء حتى خفوا يتقدمون نحو الصوت، فما لبثت أن تجمعت وحدة صغيرة من الجيش حول النبي، وأخذ الناس ينضمون إليها. واستطاعت هذه الوحدة أن تصمد لهوازن وهجومها المركز، ومع ازدياد عددها أجبرت هوازن على التراجع. ومع أن المسلمين تعرضوا لنكسة في بداية المعركة، غير أن النبي صلى الله عليه وسلم استطاع أن يعيد التوازن إلى الجيش وأن يحدث ارتباكا في صفوف هوازن. وكان مالك بن عوف، قائد هوازن قد ارتكب حماقة كبيرة أثناء الاستعداد للمعركة، إذ لم يستمع إلى نصح الناصحين، بل أمر كل من كان معه أن يأتوا بنسائهم وأطفالهم وماشيتهم ليكونوا مع الجيش، ظنا منه أن جنده سيقاتلون بشكل أشد وأعتى إذ هم يدافعون عن أهليهم وممتلكاتهم. ولكن عندما مني جيش هوازن بالهزيمة، أخذ جنده يفرون، لا يلوون على شيء، وخلفوا نساءهم وأطفالهم وماشيتهم وأموالهم غنيمة للمسلمين.

ثم حاصر النبي الطائف، المدينة التي تسكنها ثقيف، والتي تحالفت مع هوازن، فكان لا بد من تحييدها. غير أن الحصار لم يسفر عن نتيجة حاسمة. وتبين للنبي أن أهل الطائف كانوا يستطيعون الصمود طويلا للحصار، فمزارعهم ومياههم كانت خلفهم، ولذلك قرر أن ينهي الحصار دون أن يتوصل إلى نتيجة حاسمة. وكان يأمل أن يغير أهل الطائف موقفهم بعد أن يتدارسوا أوضاعهم. ولذلك أمر جيشه بالرحيل.

حرص كثيرون من جنود جيش النبي، ولا سيما من كان منهم حديث عهد بالاسلام، أن يقسم رسول الله صلى الله عليه وسلم غنائم حنين بينهم دون تأخير. فالقاعدة التي يحددها الإسلام أن خمس الغنائم تعود للدولة لتنفقها على الفقراء والمحتاجين، بينما تقسم أربعة أخماس الغنائم على المقاتلين. قال الله تعالى: "واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل" (الأنفال 41). غير أن النبي أراد أن يؤخر تقسيم الغنائم، ولا سيما الأسرى، إذ كانت بينهم أعداد من النساء والأطفال. وحسب التقاليد المتعارف عليها عالميا آنذاك فإن هؤلاء يسترقون. وكان النبي حريصا أن لا يحدث هذا. فانتظر حتى جاءه وفد هوازن يناشدونه أن يحسن إليهم في ما غنم منهم. ويذكرونه بما كان له من قرابة معهم، إذ إن مرضعته حليمة كانت من بني سعد بن بكر، أحد فروع هوازن. فقال له رجل منهم يدعى أبا صُرَد: "يا رسول الله، إنما في الحظائر عماتك وخالاتك وحواضنك اللاتي كن يكفلنك، ولو أنا ملَحْنا (أي أرضعنا) للحارث بن أبي شمر أو للنعمان بن المنذر، ثم نزل منا بمثل الذي نزلت به رجونا عطفه وعائدته (أي معروفه) علينا. وأنت خير المكفولين". فخيرهم رسول الله بين أموالهم وبين أبنائهم ونسائهم، فاختاروا أبناءهم ونساءهم، فبين لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يقولون وسعى حتى تحرر كل أبنائهم ونسائهم وأعيدوا إليهم. واحتفظ المسلمون بالمال والماشية، فقسمها رسول الله بين الجند، وأعطى من الخمس الذي هو له عطايا كبيرة لرؤساء مكة ورؤساء القبائل العربية من غير مكة، تألفا لقلوبهم وتثبيتا لهم على الإسلام.

لم يكن هناك شيء من هذه العطايا الكبيرة السخية لأحد من المهاجرين أو الأنصار، فوجد الأنصار في نفوسهم شيئا من ذلك، ففاتح زعيمهم سعد بن عبادة النبي صلى الله عليه وسلم بما أحس به الأنصار، فجمعهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وذكرهم أنهم جند الإسلام الذي توطدت دعائمه على أيديهم، وبتضحياتهم، ثم وضع الأمر في إطاره الصحيح، فوصف ما أعطاه لأولئك النفر من العطايا الكبيرة بأنها "لعاعة من الدنيا"، أما هم فقد وكلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى إسلامهم. ذاك أمر لا يحتمل المقارنة، واختتم حديثه إليهم بقوله: "ألا ترضون يا معشر الأنصار أن يذهب الناس بالشاة والبعير وترجعوا برسول الله إلى رحالكم؟ فوالذي نفس محمد بيده لولا الهجرة لكنت امرءاً من الأنصار، ولو سلك الناس شِعبا وسلكت الأنصار شِعبا لسلكت شعب الأنصار، اللهم ارحم الأنصار وأبناء الأنصار وأبناء أبناء الأنصار." فبكى القوم حتى أخضلوا لحاهم وقالوا: "رضينا برسول الله قَسْما وحظا." كان تصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا كله موافقا لاتفاقهم الأول معه، فعندما بايعوه عند العقبة في منى، البيعة الثانية، قبل ثمانية أعوام، وتعاهدوا معه على أن ينصروه ويجيروه ويدافعوا عنه حتى يبلغ رسالة ربه، كما يدافعون عن نسائهم وأطفالهم، سألوه: "فما لنا إن وفينا؟" قال لهم: "الجنة". فهو لم يعدهم بأي أجر أو جزاء في هذه الحياة الدنيا.

عاد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة بعد أن عين عتاب بن أسيد، الذي كان في العشرين من عمره، واليا على مكة، وجعل راتبه في كل يوم درهما. وكانت عودة النبي في أوائل السنة التاسعة للهجرة (630 م)، ثم جاءته وفود القبائل العربية، فبعضها يبايعه على الإسلام وبعضها يريد معرفة المزيد عن الإسلام ليعودوا إلى منازلهم فيتشاوروا مع قومهم. وفي صيف تلك السنة طلب رسول الله صلى الله عليه وسلم من أصحابه أن يتجهزوا للمسير لقتال الروم. إذ جاءته أخبار عن طريق التجار الأنباط من الشام أن الروم البيزنطيين بدؤوا تجهيز جيش كبي للسير إلى الجزيرة العربية. وكانت هذه هي المرة الأولى التي يصرح بها رسول الله صلى الله عليه وسلم بوجهته ومن هو العدو الذي يريد قتاله. إذ كان من عادة رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يكني عن هذه الأمور. وكان السبب في تصريحه بوجهته أن العرب كانوا دائما يعتبرون الامبراطورية الرومية البيزنطية قوة عظمى وكانوا يتهيبونها جدا. بل لم يكونوا يجرؤون أن يقفوا منها موقف المعارضة السافرة. ومن جهة أخرى كان الوقت صيفا وقطع مسافة كبيرة في الصحراء وفي الحر الشديد كان أمرا صعبا. وكان المسلمون في حال فقر برغم كل ما أصابوه من خير، إذ لم تكن أرضهم تنتج ما يكفي ليكون مجتمعهم مجتمعا غنيًّا. وفي إطار كل هذه الظروف كان الإعلان عن مهمة صعبة يجعل كل من كان في قلبه نفاق يحاول أن يجد الأعذار، حتى وإن كانت واهية، لتجنب المسير. وعلى هذا كان إعلان رسول الله صلى الله عليه وسلم عن وجهته ونيته امتحانا لكل فرد، إذ لن ينضم إلى الجيش إلا من كان قوي الإيمان. ودعا رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه إلى التبرع بسخاء للمجهود الحربي. فجاء الكثيرون من أصحابه، ولا سيما السابقون الأولون رضوان الله عليهم، بتبرعات سخية، بل إن عددا منهم جاء كل منهم بنصف ما يملك، وكان التبرع الأكبر هو تبرع عثمان بن عفان رضي الله عنه إذ تبرع بثلاثمئة من الإبل مجهزة تجهيزا كاملا.

قدر عدد الجيش الذي سار مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذه الغزوة بثلاثين ألفا، فكان بذلك أكبر جيش سلك طرق الجزيرة العربية في تاريخها. انخرط فيه الغالبية العظمى من المسلمين في المدينة، وإلى جانبهم أعداد كبيرة من المسلمين من مكة والقبائل العربية التي اعتنقت الإسلام. كان هذا إشارة واضحة إلى أن العرب أصبحوا أمة واحدة ولم يعودوا مجموعة من القبائل التي تنفرد كل منها عن الأخرى وتتقاتل معها. كانت الرحلة شاقة على المسلمين، وعندما وصل الجيش إلى تبوك (القريبة من الحدود السعودية الأردنية) كان كل من فيه قد تحمل مشقة كبيرة. ولكن المسلمين لم يجدوا أثرا للروم في المنطقة، ولا في المناطق المجاورة. وتأكد النبي أنه لم يكن هناك ما يدعو إلى القلق أو التخوف، فأرسل وحدات من جيشه إلى بعض الأنحاء في شمال الجزيرة العربية يدعو أهلها إلى الإسلام وعقد معاهدات مع عدد منها. وقد حققت هذه الغزوة بعض الأهداف الهامة، فهي قد فضحت المنافقين الذين كانوا دائما يعملون على تخريب المجتمع الإسلامي من الداخل، وضمنت أن المناطق الشمالية من الجزيرة بدأت تعرف أن أفضل ما يناسبها هو أن تكون مسالمة للدولة المسلمة، ومتنت الأواصر والعرى في المجتمع الإسلامي، إذ أظهرت أن أهل الغنى لا ينسون إخوانهم الفقراء.

عندما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه إلى المدينة عرفوا أن الدولة الإسلامية أصبحت أكثر أمنا وسلاما. بدأت رحلتها دولة في مدينة واحدة، ولكنها الآن أصبحت تضم أراض شاسعة من الجزيرة العربية، وكانت وفود القبائل التي تقطن أماكن بعيدة تصل متتابعة إلى المدينة تعلن إيمانها بالاسلام. رحب رسول الله صلى الله عليه وسلم بهذه الوفود وسر بها كثيرا، فكان يحرص على أن تسمع القرآن يتلى وأن تتعرف على الإسلام ومبادئه وقيمه. وكان يعطي جائزة لكل فرد من كل وفد من الوفود التي جاءته. وجاء وفد من ثقيف، بعد أن بدا لهم أن موقف الحرب والخصومة مع النبي لا يخدم لهم مصلحة، وأرادوا أن يعيشوا بسلام مع الدولة الإسلامية. ولكنهم كانوا يأملون في إقناع النبي بأن يتنازل لهم عن بعض الأمور التي يؤكد عليها الإسلام. فطلبوا أولا أن يحتفظوا بصنمهم، اللات، وطلبوا أن يبيح لهم الزنى، وشرب الخمر، والربا. فقال لهم النبي، صلى الله عليه وسلم، إنهم لن يتوقعوا منه تنازلا عن أي أمر من أمور الدين. فما حرمه الله لا يمكن لأي إنسان أن يحله، وما طلبوه إنما يختص بتحليل ما حرم الله. كان التنازل الوحيد الذي أعطاهم إياه هو أنه سمح لهم أن لا يهدموا اللات بأيديهم، بل يرسل بعض أصحابه لهدمها. فلما لم يجد وفد ثقيف فائدة من هذه المساومات قبلوا شروط النبي وأعلنوا إسلامهم. وأرسل النبي عددا من أصحابه فهدموا اللات كما كانوا هدموا كل الأصنام من قبل.

عندما اقترب موسم الحج عند نهاية السنة التاسعة للهجرة، أرسل النبي أبا بكر الصديق أميرا على الحج. فسافر أبو بكر مع عدد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم بعد ذهابهم بوقت قصير، نزلت على النبي سورة التوبة تعلن إنهاء المعاهدات المعقودة مع المشركين من العرب، وبما أن هذا الإعلان كان موجها إلى كل العرب، كان لابد من إبلاغهم به يوم الحج الأكبر، كما تبين السورة في مطلعها. ولذلك أرسل النبي ابن عمه علي بن أبي طالب بهذا الإعلان، على عادة العرب بأن يكون المبلغ من أهل بيت من يقوم بالإعلان. تفتتح السورة بالإيات التالية:

براءة من الله ورسوله إلى الذين عاهدتم من المشركين. فسيحوا في الأرض أربعة أشهر، واعلموا أنكم غير معجزي الله وأن الله مخزي الكافرين. وأذان من الله ورسوله إلى الناس يوم الحج الأكبر أن الله بريء من المشركين ورسوله، فإن تبتم فهو خير لكم وإن توليتم فاعلموا أنكم غير معجزي الله، وبشر الذين كفروا بعذاب أليم. إلا الذين عاهدتم من المشركين ثم لم ينقصوكم شيئا ولم يظاهروا عليكم أحدا فأتموا إليهم عهدهم إلى مدتهم. إن الله يحب المتقين. فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم وخذوهم واحصروهم واقعدوا لهم كل مرصد، فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم. إن الله غفور رحيم. (التوبة 1-5)

كان هذا الإعلان يعنى أن المسلمين ملتزمون بالمعاهدات التي عقدوها مع المشركين حتى نهاية مدتها، شريطة أن يكون الطرف قد التزم بما يترتب عليه من أمور حسب نصوص هذه المعاهدات. أما الذين لم يلتزموا بواجباتهم التي تفرضها هذه المعاهدات فإن هذا الإعلان يعطيهم إخطارا بإلغاء هذه المعاهدات. كما يعطي إخطارا بإلغاء المعاهدات التي لم تحدد أجلا لانتهائها. وفي كلتا الحالتين يعطيهم الإخطار مهلة أربعة أشهر، ينظرون في أمورهم خلالها، فإما أن يسلموا أو يغادروا الجزيرة العربية ليعيشوا خارجها. مما يعني أن الإعلان يجعل الجزيرة العربية أرضا للاسلام، لا مكان فيها للوثنية أو الوثنيين.

قام علي بن أبي طالب وأبو بكر الصديق، رضي الله عنهما، بإبلاغ الناس بهذا الإعلان في يوم عرفة حيث يجتمع كل الحجيج في صعيد واحد، ثم أعلناه مرة أخرى في اليوم التالي، يوم النحر، الذي يكون فيه الحجيج يؤدون شعائر حجهم. وأرسل أبو بكر منادين إلى مخيمات كل القبائل يرددون الإعلان، وبذلك ضمن أن يعرفه كل من كان في الحج، وهذا يعني أن كل القبائل سمعته وعرفته بمجرد عودة حجاجها. وأعلن في ذلك الموسم كذلك أنه لا يحج بعد ذلك العام مشرك، وأنه لا يطوف بالبيت عريان، كما كانت قريش تفرض على من يزور البيت من خارج مكة، إذ إنها في الجاهلية جعلت لنفسها امتياات خاصة، وحرفت شعائر الحج عما كانت عليه أيام نبي الله إبراهيم عليه السلام.

كان هذا الإعلان في الأيام الأخيرة من السنة التاسعة للهجرة (631 م.)، أما السنة العاشرة فتعرف باسم عام الوفود، إذ تتابعت وفود القبائل العربية قادمة إلى المدينة تعلن إيمانها بالاسلام. تقاطرت هذه الوفود من كل أنحاء الجزيرة العربية، من اليمن وعمان ومن المناطق الوسطى والشرقية، مما يعني أن الجزيرة العربية كلها اصبحت تدين بالاسلام. كان هذا خاتمة رائعة لجهود النبي صلى الله عليه وسلم، إذ لم يستغرق الأمر أكثر من اثنين وعشرين عاما حتى أصبح الإسلام الدين الذي يؤمن به عرب الجزيرة كلهم. صحيح أنه ظلت هناك أديان أخرى في الجزيرة، إذ كان اليهود يعيشون في خيبر وبعض المناطق الشمالية، وكان هناك نصارى في نجران في الجنوب الغربي من الجزيرة، لأن الإعلان لم ينطبق على هؤلاء، بل كان يعني الوثنيين العرب وحدهم، وكان لابد من تطهير الجزيرة العربية من الوثنية كلها.

ومع اقتراب السنة العاشرة من ختامها، حلَّ موسم الحج، والحج من أهم شعائر العبادة في الإسلام إذ هو فرض على كل مسلم، مرة في العمر، إن توافرت له الاستطاعة. وما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يستطيع الحج في السنوات السابقة، لأن قريشا حالت دون دخول المسلمين الحرم، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يستطيع الحج في السنة السابقة، ولكنه كره أن يرى المشركون يطوفون عرايا بالبيت الحرام. أما في السنة العاشرة، فلم يعد ذلك موجودا، فأعلن رسول الله صلى الله عليه وسلم عزمه على الحج عامه ذاك. وأرسل إلى القبائل المختلفة يخبرها بنيته، فتوافدت على المدينة أعداد كبيرة من المسلمين الذين يريدون أن يحجوا مع النبي، ومع انطلاق النبي من المدينة كان يسير معه عدد كبير تتفاوت تقديراتهم بين تسعين ألفا ومئة وثلاثين ألفا. وكان ينتظره في مكة عدد لا يقل عنهم، وقد جاء معظمهم من المناطق الجنوبية ومن مكة وحواليها.

يشتمل الحج على سلسلة من الشعائر التي تؤدى في أماكن معينة في مكة والمنطقة القريبة منها، وأعلن النبي في الناس أن عليهم أن يأخذوا عنه مناسكهم. وطوال هذه الرحلة المباركة كان النبي، صلى الله عليه وسلم، قد حدد هدفا ثانيا إلى جانب تعليم الناس مناسكهم، وهذا الهدف هو أن يجعل الحج سهلا على الناس وييسر عليهم، فالتيسير طبيعة هذا الدين، وما جعل الله فيه من حرج. وبما أن أعدادا ضخمة من الناس تتحرك من مكان إلى آخر لتؤدي شعائر العبادة في غضون مدة زمنية محدودة، فإن إلزام الناس بترتيب دقيق ومحدد يسبب لهم حرجا وعنتا. ولذلك حرص النبي، صلى الله عليه وسلم، على أن يعطي الناس أكبر قدر من الفسحة في كل جانب من جوانب الحج، مع الحرص على تبيان الطريقة الصحيحة والمدة التي يؤدى بهما كل واجب من واجبات الحج.

خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم في الناس مبينا لهم المبادئ الأساسية التي يقوم الإسلام عليها، وألغى كل المعاملات الربوية التي كانت بين الناس قبل اعتناقهم الإسلام، مبتدئا بربا عمه العباس، كما وضع كل ما كان في الجاهلية من ثأر، مبتدئا بمقتل أحد أبناء عمومته، فكان بذلك القدوة الصحيحة لكل المسلمين.

ركز النبي، صلى الله عليه وسلم، في خطبته على خمسة مبادئ أساسية في برنامج العمل الإسلامي، اثنان منها على الصعيد الفردي، ويشير الأول منهما إلى أن المسلم عليه أن يقطع كل صلة له مع الجاهلية بأوثانها وممارساتها، وتعاملاتها المالية، ومعاملاتها الربوية، وما يتصل بها. ذلك لأن اعتناق الإسلام يعني بداية حياة جديدة للمسلم تختلف كل الاختلاف عن الممارسات الخاطئة والضالة التي كان يمارسها في ماضيه. أما المبدأ الثاني فيقتضي من المسلم أن يجتنب كل ما هو إثم. وأوضح رسول الله صلى الله عليه وسلم انه لا يعني بالاثم العودة إلى عبادة الأصنام، ولكنه إنما كان يشير إلى ما هو دون ذلك مما يبعد الناس عن المنهج الإسلامي. أما المبادئ الثلاثة الأخرى فتبين القاعدة التي يقوم عليها المجتمع الإسلامي. أولها رابطة الأخوة الإسلامية التي هي أساس العلاقة بين المسلمين جميعا. فهذه الرابطة تجعل من كل مسلم وليا لكل مسلم آخر. أما المبدأ الثاني فهي مد يد العون للضعفاء كيلا يؤدي ضعفهم إلى إضعاف المجتمع كله. ومن الجدير بالتأمل أن النبي، صلى الله عليه وسلم، كان يصر دائما ويكرر ضرورة الإحسان إلى النساء، إذ إنهن العنصر الأضعف في المجتمع البشري. أما المبدأ الأخير من هذه المبادئ الخمسة فهو التعاون بين الحكومة الإسلامية وأبناء المجتمع الإسلامي في تطبيق الشريعة الإسلامية التي تهدف إلى التخلص من كل ما هو شر ومنكر واستبداله بما هو خير ومعروف.

وفي خطابه كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكرر سؤال مستمعيه إن كان قد بلغهم رسالة ربهم، وفي كل مرة سألهم هذا السؤال كانوا يجيبون "اللهم نعم"، فيدعو الله أن يكون شاهدا على ذلك. كان تكرار هذا السؤال وما يأتي بعده بادرة عاطفية تبين حرصه الشديد أن يكون بكل ما بذله من جهد قد استطاع أن يؤدي ما عليه من تبليغ رسالة ربه إلى من تعنيهم هذه الرسالة وتخاطبهم، ألا وهم الناس جميعا.

ومع انتهاء الحج، كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أتم مهمته، فبلغ الرسالة ودعا الناس إلى دين الله ليسلموا أنفسهم إليه سبحانه. وعلمهم كيف يؤدون كل ما افترضه الله عليهم، وبين لهم كيف يعيشون حياة إسلامية كي يفوزوا برضوان الله فينالوا ثوابه وهو الجنة. وفي خلال أيام الحج أنزلت عليه الآية التي تقول: "اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا." (المائدة 3)

ثم عاد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، فلم يلبث فيها إلا أقل من ثلاثة أشهر انتقل بعدها إلى الرفيق الأعلى، بعد أن أكمل مهمته على خير وجه وأعطى الانسانية دينا يضمن لها السعادة في كل مجتمع يقيم تعاليمه ويمارس آدابه.

جزى الله رسوله خير الجزاء على ما أعطاه للحياة الإنسانية من خير هو أكبر من كل ما عرفته في تاريخها الطويل.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين