محمد صلى الله عليه وسلم شخصيته وصفاته (4)

خلاصة لأحـداث السـيرة النبوية -2-

شهدت السنة الحادية عشرة للبعثة (620م) تحولا كبيرا في مسيرة الإسلام والدعوة الإسلامية. ففي هذا العام أسري برسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بيت المقدس، إذ جاءه جبريل عليه السلام ومعه البراق، فركبه إلى بيت المقدس حيث جمع الله جلّ وعلا له إخوانه الرسل والأنبياء السابقين، بمن فيهم أولو العزم نوح وإبراهيم وموسى وعيسى فصلى بهم صلاة ترمز إلى وحدة الرسالة السماوية التي دعوا إليها جميعا، والتي اكتملت وتمت بتنزيل القرآن الكريم، الكتاب الذي تكفل الله تعالى بحفظه وبأنه لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه. وبعد ذلك أخذه الملك إلى السماء حيث رأى من آيات ربه الكبرى، وشاهد بعض ما ينتظر أصحاب الجحيم من عذاب وبعض ما يلقاه أهل الجنة من نعيم ورضوان. وفي هذه الرحلة فرضت الصلاة خمس مرات في اليوم والليلة. ثم عاد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مكة، واستغرقت كل هذه الرحلة ساعات قليلة من الليل، عاد منها عند الفجر.

بعض العلماء يعتبر هذه الرحلة رحلة روحيَّة فقط، ويقول آخرون: إنها كانت رؤيا في المنام. ولكننا نقول: إنه ليس هناك ما يدعونا إلى القول بشيء من هذا، فالله سبحانه وتعالى على كل شيء قدير. فهو إن أراد فإنه يأخذ نبيه محمدا، صلى الله عليه وسلم، أو أي عبد من عباده، في رحلة تعتبر معجزة في أذهان الناس، وذلك على الله يسير، مثلما أنه يرسل الريح، وينزل المطر، ويجعل الأرض ملائمة لحياة الناس، ومثلما أنه يعطي مخلوقاته حواسهم من السمع والبصر، وقدرتهم على الكلام واكتساب اللغة. وقد يقول البعض إن هذه من أمور الطبيعة وتحدث وفقا لقوانين الطبيعة، ولكن أنى لهذه القوانين أن تعمل لولا أن الله سبحانه هو الذي وضعها وطريقة عملها؟ وما يبدو لنا أنه أمر معجز إنما نعتبره كذلك لأنه غير مألوف لنا. والواقع أن كل شيء في الحياة معجزة، وكل ما في الكون معجز، ولكنها كل ما هو معجز يسير على الله تعالى.

كان عدم تردد رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث عن مسراه ومعراجه، مع معرفته بطبيعة مستمعيه العدائية، دلالة بينة على زيادة ثقته التي لا تتزعزع في أن رسالته هي الحق. وقد ظل رسول الله صلى الله عليه وسلم يبشر بدعوته، مع زيادة في نشاطه وحماسه. ومع اقتراب موسم الحج حرص رسول الله صلى الله عليه وسلم على تبليغ رسالة الله إلى القادمين إلى مكة من مختلف أنحاء الجزيرة العربية، برغم تزايد الصعوبات التي كانت توضع في طريقه. غير أن موسم الحج في تلك السنة جاءه ببارقة أمل جديدة، إذ التقى بستة نفر من يثرب (التي ستصبح من بعد مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم وتعرف بالمدينة). كان غالب أهل المدينة مزارعين، ويعيشون إلى جانب قبائل يهودية، وكان اليهود يفخرون بديانتهم القائمة على توحيد الله عزّ وجلّ ويستفتحون على العرب المشركين يقولون إن نبيا سيبعث ويؤذن له بقتال أعدائه. وعندما كانت الفتنة تشتعل بين العرب واليهود في يثرب كان اليهود يهددون العرب قائلين إنهم سيتبعون النبي الجديد ويقاتلون العرب معهم فيلحقون بهم الهزائم الشنعاء. وعندما التقى أولئك النفر الستة من عرب يثرب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم واستمعوا منه إلى ما كان يدعو الناس إليه، وقرأ عليهم القرآن، أسلموا. كان عرب المدينة يشكلون قبيلتين هما الأوس والخزرج، وكثيرا ما كان القتال يشب بينهما. فقال أولئك النفر لرسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنا قد تركنا قومنا ولا قوم بينهم من العداوة والشر ما بينهم، وعسى أن يجمعهم الله بك، فسنقدم عليهم فندعوهم إلى أمرك، ونعرض عليهم الذي أجبناك إليه من هذا الدين، فإن يجمعهم الله عليه فلا رجل أعز منك." ثم انصرفوا على وعد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يلقوه في العام القادم. أما أسماؤهم فهم أسعد بن زرارة، وعوف بن الحارث، ورافع بن مالك، وقطبة بن عامر، وعقبة بن عامر، وجابر بن عبد الله بن رئاب، وكلهم من الخزرج.

وعادوا مرة أخرى على الموعد، ومعهم ستة آخرون، منهم من الخزرج معاذ بن الحارث، وذكوان بن عبد قيس، وعبادة بن الصامت، ويزيد بن ثعلبة، ومن الأوس أبو الهيثم مالك بن التيِّهان، وعويم بن ساعدة. وفي هذا اللقاء الثاني شهد الجميع شهادة الحق، مؤمنين بالاسلام، وبايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بيعة العقبة الأولى. قال عبادة بن الصامت مبينا شروط البيعة: "كنت فيمن حضر العقبة الأولى، وكنا اثني عشر رجلا، فبايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على بيعة النساء، وذلك قبل أن يفترض علينا الحرب، على أن لا نشرك بالله شيئا، ولا نسرق، ولا نزني، ولا نقتل أولادنا، ولا نأتي ببهتان نفتريه من بين أيدينا وأرجلنا، ولا نعصيه في معروف. فإن وفيتم فلكم الجنة، وإن غشيتم من ذلك شيئا فأمركم إلى الله عزّ وجلّ، إن شاء غفر، وإن شاء عذب." وقد جرى في هذا الاجتماع الثاني بحث احتياجات الجماعة المسلمة الجديدة في يثرب، فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم معهم مصعب بن عمير، رضي الله عنه، يعلمهم القرآن ومبادئ الإسلام. وكانت مهمة مصعب تشمل أيضا تنظيم جهود الدعوة إلى الإسلام في يثرب. وقد حقق مصعب نجاحا باهرا في كل جوانب مهمته، وأخذ الإسلام ينتشر بسرعة بين أهل يثرب، إذ كانت أحياء كاملة من أهلها تقبل على اعتناق الإسلام معا. وعندما عاد مصعب إلى مكة بعد عشرة أشهر، قدم تقريرا إلى النبي عن مهمته وأنه وجد المدينة يمكن أن توفر قاعدة طيبة للإسلام.

شهد موسم الحج التالي، أي السنة الثالثة عشرة للبعثة النبوية (622 م) حدثا لم يسبق له مثيل في الجزيرة العربية، فقد التقى النبي صلى الله عليه وسلم مع ثلاثة وسبعين رجلا وامرأتان من أهل يثرب، آمنوا بالإسلام وجاؤوا مع آخرين من قومهم يحجون البيت الحرام. وتحت جنح الليل تسلل هؤلاء من خيامهم في منى ليلتقوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم. فبايعوه على النصرة وقالوا إنهم مستعدون لقتال أي فئة تحاول إسكات الدعوة إلى الله. كما طلبوا أن يهاجر وأصحابه المسلمون من أهل مكة إليهم في يثرب حيث يمكن أن يكونوا جميعا أمة تجمعها رابطة الدين. واشترطوا شرطا واحدا فقط، وهو أن ما التزموا به من حماية رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما يبدأ من وصوله إليهم في يثرب.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين