محمد حبش.. والتجنِّي على الشرع والحقيقة

محمد حبش

والتجنِّي على الشرع والحقيقة

 

طالعنا مقابلةً أُجريت مع الدكتور محمد حبش في موقع "الحل. نت"، وبها مقولاتٌ متسرعة، بل متجنِّية على ما تواضع أهلُ العلم بالدين الإسلامي على كونه مسلَّماتٍ فيه، ونستعرض أهمَّ تلك المقولات ونوضح خطَلَها كما يأتي:

1- (قوله: إن نصوص القرآن التي تحضُّ على الجهاد تُلهم الحركات الجهادية الإرهابية).

 إن الآيات هي في الأساس موجهة لحضِّ المظلومين على التصدِّي للظالمين الذين يستخدمون العنف ولا يرحمون الأبرياء، فالدعوة إلى الرحمة والتسامح والغفران للظالمين دعوة لإقرار الظلم، لأن أولئك لا يفهمون إلا لغة القوة. لقد لبث رسولُ الله يدعو أهل مكة أكثر من نصف عمر الدعوة دون قتال، ثم أمره الله بقتالهم، وحضَّ المؤمنين على ذلك فكان ما كان من علوِّ دين الإسلام ودحض الحال الذي ساد العالم آنئذٍ من تسلُّط الطغاة والبغاة. وقد ظهر الخوارجُ في عهد الصحابة فقاتلوهم ولم يشكِّكوا في نصوص القرآن بل استخدموها لوأد فتنتهم.

2- (قوله: إن العبرة بخصوص السبب لا بعموم المعنى).

لقد جاء الرسول بشرًا لإنزال المبادئ الإلهية السامية على الواقع المعاشي، وإعطاء أمثلة حيَّة عن تطبيق تلك المبادئ، فقام الفقهاءُ باستنباط المعاني والمبادئ من وراء هذا التطبيق. أليس التجريدُ من الرياضيات؟ أم أن علينا التزام المذهب الظاهري في قصر الأحكام على الوقائع المحدودة التي نزلت فيها وإبقاء الوقائع المتجددة خاليةً من أي رأي شرعي فيها؟!

3- (زعمه: أن النصوص تأمر بقتال أمم الأرض كلها).

ولو كلَّف محمد حبش نفسَه قراءة فقه الجهاد كما كتب الدكتور هيكل والدكتور البوطي لصحَّح رأيه، ولعلم أن الجهاد يجب أن يكون تحت راية نظامية. فالعلَّة هنا في عدم النظر إلى المعاني والأخذ بظاهر خصوص السبب كما يدعو هو. ومن لا يلتزم قواعدَ فهم النصوص ولا يقيِّد الاجتهادَ بقيوده ويؤوِّل ما لا يحتاج إلى تأويل سيصل إلى أبعدَ مما ذهب إليه.

4- (زعمه: أن النسخ يمكن عمله بواسطة البشر).

النسخُ هو حكم من الله ليغيِّر الحكمَ المؤقت نوعيًّا أو كميًّا أو كيفيًّا، علامةً على انتهاء المرحلة الانتقالية ذات الخصوصية، وتنزيل الحكم الصالح للأزمان المتعاقبة باستمرار. فالزعم بأن النسخ يمكن عمله بواسطة البشر، إنما هو محضُ افتراء على الله.

5- (نقده: عبارة الإسلام صالح لكل زمان).

هذه العبارة نتجت عن كون الإسلام يشتمل على قِيَم فُصِّلت على حسَب خلق الإنسان، بما فيه من روح وغرائز وأشواق وتطلعات، وقد علمها الله وجهلها بعض الملائكة فظنوا أن الإنسان سيُفسِد في الأرض ويقتل. فدواء ما توقعوه هو هذا الدينُ الكامل الذي يجعل الإنسان أسمى من بعض الملائكة. وإذا جرَّدناه من القِيَم عاد كما توقعوه أحطَّ من الحيوانات.

ولمَّا كانت رسالةُ الاسلام خاتمةَ الرسالات كان لا بدَّ من تضمينها ما يحتاج إليه الإنسان بعد انقطاع الوحي من قِيَم، ويكون تنزيلها على الأمم المختلفة والبيئات المتعدِّدة بأسلوب مشابه لما فعله الرسول الكريم في سنَّته صلى الله عليه وسلم. فمن اتبع تلك الخُلاصات المركزة لتجارِب الرسل السابقين فلا يضلُّ عن الصراط المستقيم، ولا يترك المحَجَّة البيضاء. ومن اتبع السُّبل الأُخرى تتفرق به عن سبيله المذكور. ثم إننا نسمع عبارة: (مبادئ فوق دستورية)؛ وهي من وضع بشرٍ مثلنا، وهي لا تخضع للتصويت لأسباب أدنى بكثير من أسباب وضع القيم الإلهية، ولم يستنكرها من أشار إليهم ببعض (المنكرين) لصلاحية قيم الإسلام لكلِّ زمان ومكان!

6- (زعمه: أن فهمنا للنصوص يؤدِّي إلى تراجع مجتمعاتنا سياسيًّا واقتصاديًّا واجتماعيًّا).

وهي نغمةُ وَصْم المتديِّنين بأنهم رجعيُّون! إن التقدم ليس حسنًا إلا إذا انضبط بالقيم الأخلاقية والمُثُل العليا التي تحمي المظلومين من الظلم والاستغلال. وإن الطاغية إذا استبدلَ بالسيف القنبلةَ الذرِّية ليس تقدميًّا بل هو أخطر على البشرية.

إن الطغاة يسخِّرون أدوات التقدم العلمي والمعلوماتي لتعزيز قبضتهم وظلمهم، وسخَّروا وسائل الاعلام لجعل المنكر معروفًا والمعروف منكرًا؛ فصار الفلسطينيون المقاومون إرهابيين بنظرهم. لقد انطبق عليهم وصفُ الآمرين بالمنكر والناهين عن المعروف، وقد نسُوا الله وحذفوا ذكرَه من قاموس قيمهم فهل الانصياع لما يدعوننا إليه تقدُّم في أي منحى؟! إنهم انقلبوا إلى حياتنا يطلبون منا تغييرها لتلائم مقاصدَهم، فإن أجبناهم خسرنا الدنيا والآخرة، وإلا اعتبرونا متخلِّفين. وما دعَوات السيد حبش وأمثاله إلا ترديد لدعَواتهم وترويج لمقالاتهم الرامية إلى إخضاعنا وترويضنا.

7- (تفريقه: بين الخطاب الوعظي في المساجد والفقهي في مجالس الحكم).

بداية نوضح أن الدين له مكوِّنات ثلاثة: الإيمان والإسلام والإحسان، فالمكوِّن الأول يقوم به مختصون بالعقيدة فاهمون لها، وليس كما وصفهم بأنهم سطحيُّو القراءة مهتمون بإعادة إنتاج فهم السلف لها! والعقيدة أخبار ولا نسخَ فيها ولا تعديل إنما تحريف. ثم الفقهاء من يضع التشريعات والأحكام المشتقَّة من الكتاب والسنَّة لتعليمنا التصرُّف الصحيح للمسلم الذي يطيع الله تعالى. ثم المزكُّون الذين يصفهم بالوعَّاظ يبحثون عن تزكية النفوس الأمَّارة بالسوء، يحثُّونها على نبذ الجبن والشُّح والكسل، ويربُّونها بالقيم ويحضُّونها على الالتزام بالأحكام التزامًا نابعًا من الضمير وليس شكليًّا في الظاهر وتحللًا منها في الخلوة.

وما مثال الحدود الذي ساقه إلا أحدُ الأمور التي تبيِّن تراخي الناس عن الاستفادة من وصفها الشرعيِّ المحفز والمثبِّط لفعل الصحيح وعدم ارتكاب الخطيئة. وثمة أمورٌ أكثر وأخطر، هي ضمن التشريع المدني مما حادَ عن القواعد الفقهية الإسلامية جاء نتيجةً للتراجع عن مبدأ الخضوع لأحكام الله والتأثُّر بالقيم الغربية المبتعدة عن الدين والتدين، المؤلِّهة لأصنام التنمية والتقدُّم المادي، والرافضة والمستبعدة للتدخُّل الإلهي في السلوك البشري. فما نفاه من تقديس النصِّ الديني الذي يطلب حذفه، يأتي في هذا السياق واستجابةً لطلبات تلك القيم الغربية للتحلُّل من القيم الإسلامية.

8- (زعمه: أنه يمكن نقدُ النص القرآني دون معاداته).

إن نقد أديب لأديب أمرٌ مفهوم ومقبول لتكافئِهما، أما نقد عبد للربِّ فهو الكفر بعينه. فلنطبِّق مثال الأدب: يقول الناقد لعبارة أديب: لو قال مثلًا لفظةَ كذا بدل كذا لكان أحسن. فيقول له الأديب: ما قلتَه يخالف ما أقصده، ولا يسعني امتثال اقتراحك، فهو ينبع من ذائقتك التي تختلف عن ذوقي. هما متكافئان وليسا متقاربين، وهذا طبيعي والاختلاف مفهوم. أما عندما يقول العبدُ لله تعالى: لو غيَّرتَ حُكمَ الحدود لتكون ألطفَ وأرأفَ بحسَب القيم التي قرَّرتها الأمم المتحدة، فماذا يكون افتراضيًّا الجواب: أأنت أعلم مني؟ أأنت أرأف بعبادي مني؟ بل هذا قد وردَ في حديث شريف بحاكم غيَّر في حدٍّ من حدود الله، فسأله الله عن ذلك فاعتذر بمثل ما ذكرنا فأجابه بنحو ما ذكرنا.

والفقهاء الذين قال إنهم كانوا أشدَّ جرأة، هو يصفِّق لهم إن أرادَ استخدام بعض مفاهيمهم لتأكيد فكرته، ويشتمهم إن وقفوا ضدَّ محاولاته! لقد كانوا متأدِّبين مع النص المقدَّس واستفرغوا الوسعَ في فهم مضامينه ومدلولاته، ووقفوا عند حدوده ولم يتجرؤوا على نقده. النسخ قد انقطع بعد انقطاع الوحي فما كان للمؤمنين أن يقدِّموا بين يدي الله ورسوله. والمتشابه هو من المناطق المتروكة عمدًا لأجل الخِصب الفقهي. والحلول والمخارج ما زالت مفتوحةً للاستثمار فيما يواكب الواقع من خلال الاجتهاد وليس ما دعاه (بعقلنة النص) أي إخضاع النص للهوى المدعو عقلًا. وهو كما قلنا مما يخادع به الطغاةُ عقول المستضعَفين.

9- (إعجابه: بالغرب الذي حدَّث دنياه ولم يحدِّث دينه).

إن الغرب نحَّى الدين جانبًا وكفَّه عن التدخُّل في شؤون الحياة، فلا حاجةَ له بذلك التحديث بعد أن حاصره وأبطل مفعوله. في حين مطلب المؤلف تشويه الدين بتأويل مقتضَياته لتوافقَ الأهواء. مع أنه بعد قليل يقول: (العقل يجب أن يتغيَّر)، وهو الذي يدعو لجعل العقل حكمًا، فما رأيكم بحَكَم يتغير ويتلوَّن؟!

ثم نسفَ كل قواعد الأصوليين ليضعَ قاعدتين مستحدثتَين بناء على ذلك العقل الهوائيِّ:

 أ- (لنذهب بالعبادات إلى حيثُ أمرنا النص) لماذا لا ننقدها أيضًا؟

ب- (لنذهب بالمعاملات إلى ما نفهمه من نصِّ: أنتم أعلم بأمور دنياكم). لماذا ننصاع لهذا النص أيضًا وهو مخصوص بسببه؟! وما الدائرةُ التي سنقف عندها في اتباعه؟ وبماذا نضبط الحلال والحرام عندئذ؟ وبماذا نضبط سائرَ الأحكام؟ وهل سنعتبر ذلك دينًا؟ وما فائدةُ دين يتغيَّر ويتبدَّل؟

10- (دعوته: إلى نسخ الشريعة الكاملة مع الدعوة إلى العودة إلى الديانات المنسوخة).

ويحقُّ لنا أن نتساءل أخيرًا: كيف نوفِّقُ بين الدعوة إلى نسخ الشريعة الكاملة والدعوة إلى العودة إلى الديانات المنسوخة؟! أهو المضي في عكس التاريخ أو تشبُّث بأمور فقدَت التوثيق العلمي وغلبت عليها - لو صحَّت - المرحلية والمحلِّية؟!

ونتساءل أيضًا كيف يؤتمَنُ من ينادي بتلك الأفكار المتقدِّمة على تدريس الفقه الإسلامي في كلية شريعة في بلاد إسلامية؟

 

 ملاحظة: كانت أسماء كفتارو زوجة السيد محمد حبش بصفتها عضوَ المجلس النسائي الاستشاري لمبعوث الأمم المتحدة إلى سوريا من أجل وضع دستور جديد، قد أدلت بتصريح لمنظمة "نيكستب" التي تعقد جلسات في القامشلي بالتعاون مع منظمة NVNV الفرنسية للحوار، عن هذا الدستور فقالت: إن اتفاقية "سيداو" تهدِفُ إلى بناء أسرة سليمة معافاة على الرغم من محاربة بعض الأطراف السورية لها، وهي تؤيِّد إزالة التحفظات الراهنة عليها، وترى أن التحدِّيَ الأكبر هو في ترسيخ مواثيق مثلها في مجتمعنا، كونها تتوافق مع روح الإسلام، وينبغي نشر الفهم الصحيح لها!


وكتبه: مأمون عارف الجويجاتي

دمشق، أواخر أيلول عام 2022.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين