محل العقل من العلم (3)

والأصل عند المتكلمين قولهم: (نحكم العقل بصحيح النقل، ونقرأ النقل بصريح العقل) وهم قد فسروا العقل بأنه العلم كما هو منصوص الشيخ أبي الحسن وأتباعه، قالوا: وجميع المعلومات؛ بحس وغيره، مرجعها إلى العقل، وهو يميزها ويقضي عليها، وحجته مأخوذة من قبل الله سبحانه بخلقه ذلك في الإنسان، ودعوة العقلاء للتعقل والتدبر، وإلا فأي فرق بين العاقل والبهيمة.

فالمتكلمون لا يقولون ما حكاه ابن تيمية عنهم أنَّ النقل إن عارض العقل سقط، أو أنَّ تقديم النقل يفضي للقدح في العقل، بل يقولون: لا يتصور تعارض النقل الصحيح مع العقل الصريح، وإن قُدِّر تعارضهما فإنما هو في الظاهر أو في ذهن من توهم التعارض لا في نفس الأمر.

وعلى التنزل، فهذا المعارض النقلي إن كان خبراً متواتراً: فلا يخلو أن يكون الخطأ في ذهن من فرض المعارضة، إذ لا يتَّجه البتة تصور وجود معارضة بين نقل قطعي وحكم عقلي صريح، وعليه يلزم البحث عن وجه الموافقة بينهما، ولا يقول أحد من متكلمي الإسلام إنه يلزم أن يُتوقَّف عن العمل بالقاطع، لأن صحَّته حتم، فإطلاق البحث من ابن تيمية دون تفريق بين نقل ونقل موهم.

وإن كان خبر آحاد صحيح وعارض دليل العقل غير الصريح، فالمرجَّح عندهم العمل بالخبر، لأن الخطأ في نقل الناقل أقل احتمالا من الخطأ في استدلال العاقل، إلا المعتزلة فإن عندهم: يقدم العقل.

وإن كان خبر آحاد صحيح وعارض صريح العقل، فلا يخلو أن يكون الغلط في الناقل أو أن ظاهره غير مراد، فيتعيَّن المصير إلى البحث والتفتيش في ردِّه من جهة النقل، وإن لم يتجه له ذلك فعليه تأويل ظاهره بما يتفق مع العقل، فإن لم يمكنه ذلك فله ترك العمل بالخبر حتى ينكشف الحال، أو رده بمخالفة صريح العقل إن انكشف له وجه المناقضة، كما يرد الفقهاء خبر الواحد الصحيح إذا خالف العمل والأصول، بنفس مخالفته العمل والأصول مع أن إسناده صحيح.

ووجه هذا أن حكم العقل الصريح مُجْمَع عليه أو ممَّا ثبت اعتباره بالنقل المتواتر، فهو قطعي، والخبر المعارض ظني، ومحال -إن لم يتَّجه للعالم التوفيق بينهما- أن يرجح الظن على القطع، لأن تعارض الظني مع القطعي يدل على أن الظني مرجوح لا راجح، والله قد ذمَّ من يتبع الظن المرجوح، وأمر باتباع اليقين أو الظن الراجح.

فقوله: (إذا تعارض دليل النقل والعقل فإما أن يجمع بينهما، وهو محال لأنه جمع بين النقيضين) لا يسلم له أنه مذهب أهل الكلام، بل مذهبهم ليس على هذا الإجمال الذي يوهمه ظاهر ما حكاه ابن تيمية، فإن قصد المتواتر فهو خطأ بيقين، وإن قصد الآحاد الصحيح، فإن عارض دليل العقل فالعمل بالخبر، وإن عارض صريح العقل فهو مُطَّرح كما مر إن لم يتجه حمله وتأويله على وجه يلائم العقل، لأن الخطأ في النقل وارد اتفاقا، وصرائح العقول مجمع عليها بين العقلاء.

قال: (وإما أن يُردَّا جميعا) فهو مناقض لما حكاه بعد ذلك بقوله: (وإما أن يقدم السمع وهو محال، لأن العقل أصل النقل، فلو قدمناه عليه كان ذلك قدحا في العقل الذي هو أصل النقل، والقدح في أصل الشيء قدح فيه، فكان تقديم النقل قدحا في النقل والعقل جميعا، فوجب تقديم العقل).

فهذا يوجب خطأ قوله (يردا جميعا) لأنه يلزم أيضا القدح في العقل، فإذا كانوا يحيلون تقديم النقل لأنه كما قال: يفضي للطعن في العقل الذي هو أصل النقل، فأولى أن لا يقولوا بالتوقف فيهما أو تساقطهما لأنه كذلك يفضي إلى القدح في العقل، وهذا يبين الخلل في نقل ابن تيمية عنهم.

على أن معنى قولهم: إن العقل أصل النقل، أي: أن النقل لا يرد إلا بما تقتضيه صرائح العقول، فلا يمكن تعارضهما، وليس المعنى أن كل نقل فأصله ومرجعه للعقل حتى يرد كل ما عارض العقل من النقل، فهذا لا يقوله المتكلمون.

وقوله: (ثم النقل إما أن يُتأَوَّل، وإما أن يُفوَّض) فيقال: خبر الواحد إن قُدِّر أنه يعارض خبراً مثله، كيف العمل؟

إن قال: لا يتصور التعارض، فهو مكابرة لا يشتغل بـها، وإن قال: يصار إلى الجمع، فقد أثبت فرض تعارض النقل مع العقل، لأنه إن جاز تعارض النقلين، جاز تعارض النقل والعقل، ولا فرق.

ثم هو واقع؛ فأما معارضة خبر لمثله فمعلوم يستغنى بشهرته عن تكلف نقله هنا، وأما معارضته للعقل فقد قدمناه عن ابن تيمية في مسألة الإجلاس، وعليه فإذا تعارض خبران في رتبة واحدة، فإما أن يجمع بينهما بوجه، وإما أن يترجَّح أحدهما بمعنى من معاني الترجيح، كموافقة أصل آخر أو قياس صحيح ونحو ذلك، وإما أن ينسد على المجتهد باب الترجيح والجمع.

فإن أمكن الجمْع فهو أولى، وهكذا القول في تعارض النقل والعقل وهو مذهب الكلاميين، وإن انسدَّ باب الجمع والترجيح توقف فيهما حتى ينكشف الأمر، ولا يلزم من هذا خلوه عن العمل في المسألة، بل يقلد من يثق به أو يعمل بقول الأكثر ونحو ذلك، وهكذا إن قُدِّر انسداد باب النظر في التوفيق بين خبر عارض صرائح العقول ولا فرق.

وإن ظهر ترجيح العقل على النقل هنا، فمحال أن يظهر بمجرد العقل، بل لابد أن يكون ثمَّ مرجِّح في المعنى استوجب تقديم صريح العقل على خبر الواحد، وهكذا يقول المتكلمون في أخبار الصفات التي ينحصر بحث ابن تيمية مع الكلاميين فيها.

فإنـهم إنما صاروا لتأويلها لا بمجرَّد تقديم دليل العقل عليها كما توهمه، بل معهم دليل اللغة والنقل عن السلف ودليل الأصل العام، وهو الإجماع على تنزيه الرب عز وجل عن المعاني الموجبة للحدوث، كالحد والتحيُّز والتشبيه ونحو ذلك، وهذا كما يرجح الفقهاء خبراً على مثله، أو قياسا على مثله، أو قياسا جليا على خبر، أو خبراً على قياس، باستناد الراجح إلى موافقة المعاني والأصول الكلية في الشرع.

فمثل هذا لا يقال فيه: إن من اجتهد في رد خبر أو تأويله أو تفويض معانيه -سواء كان في الاعتقاد أو الأحكام- أنه مبتدع قانونا يرد به شرائع الأنبياء، لما تقرر أنه لا فرق في قبول الأخبار وردها وتأويلها بين الأحكام والاعتقاد، فالكل شرع، ولما تقرر أيضا من أن للمجتهد إن أخطأ أجر.

ثم قال: (وأما إذا تعارضا تعارض الضدَّين امتنع الجمع بينهما، ولم يمتنع ارتفاعهما) وهو غريب منه، فإنه حكى عنهم قبل هذا أن النقل إذا كان ضد العقل من كل وجه، فإن العقل مقدَّم لأنه أصل النقل، فإذا كانوا كما يقول يقطعون بترجيح العقل، فما الحاجة إلى منع الجمع بينهما!؟

وهو يقصد امتناع الجمع بينهما مطلقا، فإن كان خبراً متواتراً فإن عارض دليل العقل: فلا ريب في تقديم النقل عندهم، وإن عارض صريح العقل فقد مر أنه محال، وأن من اعتقده فالغلط في تصوره وذهنه لا في الخبر ولا في العقل.

ومثل هذا إن عرض لمجتهد فإنه يتوقف بلا ريب، وهذا معنى ارتفاع الدليلين: الخبر والعقل، أنه يتوقف حتى ينكشف له المعنى، وإلا لزم اعتقاد تعارض العقل الصريح مع النقل المتواتر وكلاهما قطعي، وهو محال.

وقول الكاتب: (فالعلم بالله تعالى مصدره الفطرة، والعقل يطور هذا العلم ويزيده مستعينا بأدلة أخرى) لا محصل منه لأن الفِطَر مركوزة في العقول، فإن العقل إن قيل إنه في الدماغ أو في القلب، أو قيل: إنه غريزة أو جوهر أو معنى يقوم في النفس أو غير ذلك: لا يصادم الفطرة، وإنما ينحرف عنها بمؤثرات خارجية، كما قال عليه الصلاة والسلام: (فأبواه يـهوِّدانه أو ينصِّرانه) الخبر.

والذي يصح أن العقل مركب من معنيين: التفكير والإرادة، فالأول: مصدره الدماغ، والثاني: مصدره القلب، فإذا التقيا يتكوَّن العقل، فما صوَّره الكاتب وعزاه للمتكلمين غلط عليهم، وليس في متكلمي الأشعرية المعروفين من يقول ما أوهمه عنهم.

ومن بديع ما قيل في محاكمة العلم والعقل:

علمُ العليم وعقل العاقل اختلفا ... في أيـهما قد أحرز الشرفا

فقال العلم أنا أدركتُ غايته ... وقال العقل بي الرحمنُ قد عُرفا

فأفصح العلمُ إفصاحا وقال له ...... بأينا اللهُ في قرآنه اتَّصفا

فبان للعقل أن العلمَ سيدُهُ ... فقبَّل العقلُ رأسَ العلم وانصرفا

ومنه قول الآخر:

سعى ليُدركَ كُنْهَ الله خالقه ... فأوغل السيرَ في سهل وفي جبلِ

حتى إذا لم يَنَلْ من بحثه أملا ... وأوشك العقلُ أن يختلَّ من كَلَلِ

رأى غلاما بشطِّ البحر مجتهداً ... في حفر بئر بلا يأسٍ ولا مَلَلِ

فقال ويحك ماذا تبتغي فَرَنَا ... إليه في ثقة كبرى وفي أمَلِ

فقال إني أُريد البحرَ أنقلُهُ ... لهذه البئر هلا زدتَ في عملي

فقال ويحك هذا البحرَ تنقلُهُ ... لهذه البئر هذا منتهى الخَبَلِ

فقال حسبكَ يا من جئتَ ترشدني...لقد تماديتَ في نُصحي وفي جدلي

أأنتَ أكبرُ أم ربُّ الوجود مدى...حتى ترى نَقْلَهُ في عقلك الثَّمِلِ

ينظر المقالة المردود عليها بعنوان " وظيفة العقل" هــــنا

الحلقة السابقة هـــنا

جميع المواد المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين