محل العقل من العلم (2)

المغالطة الشائعة عند غلاة العلمانيين والحداثيين: أن السياسات والطبائع مخالفة للدين، سببها غلبة بعض هذه المؤثرات على الآخر وعدم اعتدالها في عقولهم، فيظهر العيب في تفكيرهم والغلط في أحكامهم من حيث يظنونه حداثة وعلمنة.

وإنما جرثومته فرط الميل الغريزي للانسلاخ عن الدين، فإنَّ لكل مؤثِّر من هذه المؤثرات جرثومة تفسده، فالسياسي: جرثومته الطغيان، والديني: جرثومته البدع، والمادي: جرثومته الربا، والأدبي أو الطبعي: جرثومته الميل الغريزي، ومتى تحكَّم العاقل بمؤثراته: تمَّ أمره واستتمَّ يتدرج في مراقي الكمالات الإنسانية، ولا يضره شغب الغلاة ممن غلب عنده بعض المؤثرات، ومتى طاش بعضها: انحرف عن الجادة.

ومن هنا يدرك ضيق عطن الأتباع المقلدين للمشايخ من أيِّ مذهب واعتقاد، عن قبول رأي مخالفيهم، فلا يتَّسع عقله لغير ما تلقنه عن شيوخه، وسبب هذا: الحسد الذي يعتريه لما يرى من استمتاع مخالفه بلذة الإنصاف؛ باحتماله لسائر المذاهب واتساع تفكيره لغير ما ألفه، إذا صح عنده برهان به.

والمقلد مع عدم قدرته على ذلك، تراه ينتحله ويحاول ارتداء ثوب المنصفين فيتشبع متظاهراً به، لكن يكذبه حاله قبل مقاله إذا وضع على محكّ النظر، لاستشعاره خطرها على عقله من حيث لقنه شيوخه: قراءة هذا، وعدم مطالعة هذا!

وبما مر يظهر وجه المجازفة في قول أبي العباس بن تيمية من فرط غلبة المؤثِّر المذهبي عليه: (ومثل هذا القانون الذي وضعه هؤلاء -يقصد متكلِّمي الأشعرية- يضع كل فريق لأنفسهم قانونا فيما جاءت به الأنبياء عن الله، فيجعلون الأصل الذي يعتقدونه ويعتمدونه هو ما ظنُّوا أن عقولهم عرفته، ويجعلون ما جاءت به الأنبياء تبعا له، فما وافق قانونـهم قبلوه، وما خالفه لم يتبعوه)!

وهذا عجيب! وهو يقصد تأويلهم أخبار الصفات أو تفويض معانيها، فيقال له: هذا مصادرة على المطلوب وهي باطلة عقلا، لأن هذا الذي سماه (قانونـهم) أصله ما ورد عن السلف من تأويل بعض الصفات على مقتضى اللسان العربي، ولو لم يكن ذلك عندهم سائغا في اللسان والأثر ما تقحَّموه ولا هجموا على اعتباره أصلا تُعرض عليه أخبار الآحاد الصفاتية.

فإن قال: لم يرد، فقد كابر ولا تُسمع دعواه لصحَّة النقل به عنهم وهو لا يقوله ولكنا فرضناه على جهة المحاورة واستيعاب طرق البحث والنظر، وإن قال: ما ورد عنهم في هذا المعنى لا يصح، قيل له: قد صح عندنا وإنما الواجب على المجتهد اعتقاد ما صح عنده لا ما صح عندك.

وإن قال: صح، ولكنه متأوَّل -كما تأول هو قول أحمد: (هذا من مجاز اللغة) على معنى: ما يجوز فيها- فهو قبيح منه ولا يليق بمنصبه، إذ كيف تنكر عليهم التأويل من حيث تجوِّزه لنفسك، ثم يلزم منه تأويل المتأوَّل فيتسلسل.

وإن قال: صحَّ، ولكنه توقيفي أي لا نتأوَّل ولا نفوِّض إلا ما تأوَّله السلف وفوضوه كما حكاه الرسعني في (تفسيره). قيل له: هذا اختيارك واختيار مثبتة الحنابلة، وليس المتكلمون ملزمين به، لأن الأصل أنه إذا ورد وصح: كان أصلا معتبراً يقاس به نظائره، ومن ادَّعى الحصر والتوقيف طولب بإقامة دليل الحصر وإلا فهو تحكُّم.

فإن قال: دليل الحصر أن الإثبات عنهم أكثر وأشهر، قيل له: كثرته وشهرته لا تنافي تأويله، لأن غايته أنه كلي ينتقض بموجبة واحدة، على أن التفويض ثابت أيضا كالإثبات، فتكون هذه الطرق الثلاثة أصولا لا ينكر على من اعتبرها، فمن أثبت مع التنزيه، له سلف، كما أن من تأوَّل أو فوَّض قصد التنزيه وله سلف.

ولهذا كان شيخ السنة أبو الحسن الأشعري -الذي حجز المعتزلة في أقماع السمسم وهو للمتكلمين كالشافعي للفقهاء- يخاطب العامة بالتفويض لأنه أسلم لهم، ويستعمل التأويل مع أهل الزيغ والبدعة لأنه أحكم، فيضع كل طريق في موضعه، وهذا معنى قولهم: (مذهب السلف أسلم ومذهب الخلف أعلم وأحكم) وليس معناه ما توهمه مخالفو أتباعه.

وله معنى آخر بيَّنه أصحابه: وهو أن مذهب السلف أسلم أي أبعد عن الشبهات لفضلهم وشرف علومهم وإحكام مذهبهم، ومذهب الخلف أعلم وأحكم أي أكثر احتياجا لإحكامه بالعلم والدليل لورود الشبه عليه، فالهمزة في العبارة للسلب والإزالة.

ومن عجائب أغاليط شيخ الإسلام ابن تيمية في هذا الباب وعصبيته: أنه جعل تصرُّف المتكلمين في نصوص وأخبار الصفات شبيها بتصرف النصارى فيما وضعوه من أمانتهم التي جعلوها عقيدة إيمانـهم، وردوا نصوص التوراة والإنجيل إليها!

وأفرط شيخ الإسلام ابن تيمية في الميْل والتعصب فجاء بعظيمة تملأ الفم، وقضى بأن النصارى الكفار أقرب إلى تعظيم الأنبياء والرسل من الأشعرية أنصار أصول الدين الذي انتدُبوا لردِّ ضلال النصارى وأهل الملل والبدع، حتى إن القاضي أبا بكر الباقلاني -الذي كسر الله به شوكة النصارى بالقسطنطينية وهو إذ ذاك فتى، فقبَّله الحافظ أبو الحسن الدارقطني أمير المؤمنين في الحديث بين عينيه-: معدود عند ابن تيمية أقل تعظيما للأنبياء والرسل من النصارى!

قال ابن تيمية رحمه الله وعفا عنه: (لكن تلك الأمانة اعتمدوا فيها -أي: النصارى-على ما فهموه من نصوص الأنبياء أو ما بلغهم عنهم، وغلطوا في الفهم أو في تصديق الناقل، وأما هؤلاء -يقصد متكلمي الأشعرية- فوضعوا قوانينهم على ما رأوه بعقولهم، وقد غلطوا في الرأي والعقل، فالنصارى أقرب إلى تعظيم الأنبياء والرسل من هؤلاء) هذا كلامه!

والمسألة هنا خلافية بين الرب جل جلاله القائل: {أفنجعل المسلمين كالمجرمين ما لكم كيف تحكمون} وبين ابن تيمية الذي جعل النَّصارى الكفار أقرب إلى تعظيم الرسل والأنبياء من خواص المسلمين، مع أنه هو القائل: (بل الذي يصلي خير من الذي لا يصلي، وأقرب إلى الله منه، وإن كان فاسقا)!

والآفة ليست في أن شيوخ السنَّة من الأشعرية كالقاضي والغزالي وإمام الحرمين ونظرائهم أبعد عن تعظيم شرائع الأنبياء من النصارى، فهذا البهت لا يقوله من يدري ما يخرج من رأسه، والله أجل من أن ينصر أصول خاتم شرائعه بمن لا يعظِّم الأنبياء والرسل وشرائعهم كتعظيم النصارى على حد قول ابن تيمية.

لكن الآفة أن ابن تيمية عفا الله عنه -وهو كغيره من البشر يعتريه ما يعتريهم من الغضب وسَوْرته، وليس هو كما يحاول غلاة أنصاره تصويره بالرجل الخارق- إذا كتب وهو محتد أفرط في العصبية وجاء منه ما لا يخرج منه حال اعتدال مزاجه، وهنا أخطأ من وجهين:

أحدهما: على النصارى، حيث حكم بأنـهم يعظمون شرائع الأنبياء، لكن أخطأوا في فهمها أو في طريق نقلها، وعلى التنزل معه في هذا، يقال له: كيف جعلت كفرهم خطأ، وخطأ المتكلمين الإسلاميين -بتقدير كونه خطأ- كفراً، إذ لازم كلامه إكفار المتكلمين من حيث عدَّ النصارى الكفار أقرب إلى تعظيم الشرائع منهم، فينتج كفر من كان لا يعظم الشرائع كتعظيم الكفار لها، وهذا ظاهر وهو غاية الفساد، لأنه لا يلتزمه وبالتالي ينتقض حكمه.

ويلزمه أن النصارى إنما كان كفرهم عن خطأ في تصديق الناقل أو في فهم المنقول، وكلاهما على التنزل معه فيه، يلزم منه امتناع كفرهم، لأنه عذر يُدرأ به عنهم الكفر كما هو ظاهر، فإن الأعذار التي لا يكفر بـها من وقع في الكفر ترجع إلى الخطأ في فهم النص كالخوارج عند الجمهور، أو في تصديق المنقول لعدم صحة طريق نقله كالمعتزلة ونحوهم.

فإن قال: أنا أُكفر النصارى من طرق أخرى غير هذين الطريقين، قيل له: يلزمك ولابد الغلط في حكمك: أن النصارى الكفار أقرب إلى تعظيم الشرائع من المتكلمين وهم من خواص المسلمين، فإنَّ خطأ المتكلمين -إذا تنزَّلنا معك في كونه خطأ-: راجع إما إلى خطأ في الفهم وهو التأويل أو التفويض، وإما إلى عدم تصديق الناقل وهو ردهم لأخبار الصفات لعدم قطعيَّة نقلها ومعارضتها الأصول.

فما الذي استوجب عندك عدَّ النصارى في كفرهم، أقرب إلى تعظيم الأنبياء والرسل من خواص المسلمين في خطئهم، غير العصبية المفرطة، ومتى كان الكفر المحض أهون من الخطأ في الاجتهاد حتى يعذر الكافر في كفره ولا يعذر المسلم في خطئه؟!

وتأمَّل كيف جعل ابن تيمية أصول النصارى التي هي كفر محض، أقرب للعقل والنقل من أصول متكلِّمي الإسلام، حيث زعم أن النصارى: (اعتمدوا في وضع الأمانة على ما فهموه من نصوص الأنبياء أو ما بلغهم عنهم وغلطوا في الفهم أو في تصديق الناقل، وأما هؤلاء -يقصد المتكلمين- فوضعوا قوانينهم على ما رأوه بعقولهم) وهذا غاية الفساد والجور في الحكم، ولا عذر له فيه إلا فرط عصبيَّته عليهم.

وكل عالم بتاريخ الأديان يقطع أن الأمانة التي وضعها النصارى لا ترجع إلى نقل صحيح ولا إلى عقل صريح، ولا أصل لها إلا الهوى ومعاندة شرائع الأنبياء، حتى سماها الحافظ ابن كثير في (تاريخه): (الخيانة الحقيرة)، ولكن الهوى والميل يزري بالمنصف العالم كابن تيمية ويدفعه إلى أن يقول ما لا يعقل، ثم يرمي المتكلمين بمجانبة العقل والرأي!

وابن تيمية نفسه نقض كلامه هذا بقوله في كتاب (الرد على بولص): (فالنصارى تضع لهم عقائدَهم وشرائعَهم: أكابرُهم بعد المسيح، كما وضع لهم الثلاثمائة وثمانية عشر الذين كانوا في زمن قسطنطين الملك: الأمانة التي اتفقوا عليها، ولعنوا من خالفها من الأريوسية وغيرهم، وفيها أمور لم ينزل الله بـها كتابا، بل تخالف ما أنزله الله من الكتب مع مخالفتها للعقل الصريح)!

الثاني: خطأ ابن تيمية على المتكلمين من حيث عدَّ متكلمي السادة الأشعرية الذين سماهم أهل التحريف والتبديل، مع غلاة الباطنية والقرامطة واتحادية الفلاسفة الذين سماهم أهل التبديل والوهم والتخييل!

فلا أدري ما سرُّ هذه العداوة التيميَّة المفرطة للأشعرية، وهو الذي يصرح في غير موضع بفضلهم وبلائهم في الإسلام، وأنه يسعى للتقريب بينهم وبين الحنبلية وجمع الكلمة، ثم تراه هنا تارة يفضِّل النصارى عليهم ويجعل أصولهم أصح من أصول الأشعرية، وتارة يقرنـهم بأهل الضلال وغلاة البدع ممن يصرح هو بكفرهم!

ولا أظن هذا الاختلاف في حاله إلا على ثلاث مقامات تعتريه: أحدها: مقام الناقد بعلم وإنصاف حال اعتدال مزاجه، والثاني: مقام الدعوة الذي يسعى فيه للتوفيق بين الفرق والطوائف التي تجتمع على أصول السنة، والثالث: مقام المتمذهب حيث تعتريه عصبية المتمذهبين لمذاهبهم، فيخرج منه ما لا يليق بأهل العلم والإنصاف، فالمقامان الأولان مما يحتذى الشيخ فيهما وهو القدوة، والمقام الأخير يحاذره العاقل.

والبحث معه في هذا المقام الثالث يحتاج إلى تأليف مبسوط مفرد لا يتسع له هذا الجواب المختصر، لكن نتكلم على طريق الاستعجال والاختصار والارتجال معه فيما نسبه إليهم بقصد إنصافه وإياهم، فالجميع سادة.

وقد حكى شيخ الإسلام ابن تيمية عن المتكلمين أنـهم يقولون: (إذا تعارض دليل النقل والعقل فإما أن يجمع بينهما، وهو محال، لأنه جمع بين النقيضين، وإما أن يُردَّا جميعا، وإما أن يقدم السمع، وهو محال، لأن العقل أصل النقل، فلو قدمناه عليه كان ذلك قدحا في العقل الذي هو أصل النقل، والقدح في أصل الشيء قدح فيه، فكان تقديم النقل قدحا في النقل والعقل جميعا، فوجب تقديم العقل، ثم النقل إما أن يُتأَوَّل، وإما أن يُفوَّض، وأما إذا تعارضا تعارض الضدين امتنع الجمع بينهما، ولم يمتنع ارتفاعهما).

وهذا الكلام لا يقوله المتكلمون على إطلاقه كما يوهمه ظاهر نقل ابن تيمية عنهم، فإن عامَّة أهل الكلام من أتباع الأئمة الأربعة وهم ينتحلون أصولهم في الاستدلال، وقبول المنقولات السمعية أصل عندهم في ابْتناء الأصول والفروع، وإنما يقولون: إن الأدلة السمعية لا تفيد اليقين -كما يقوله العضد وغيره، فيما كان طريقه القطع وما لا يثبت بالظن من اليقينيات والضروريات- حال مقابلة حجج ودلائل المخالفين من أهل الملل وغلاة البدع الذين لا يؤمنون أصلا بالسمع.

ومن العبث أن تذكر لهؤلاء على جهة الإفحام والإلزام دلائل سمعية لا تلزمهم أصلا، فكيف تثبت لهم بـها ما لا يثبت إلا بالقطع، وإنما يخاطب بـهذه السمعيات من يؤمن بـها من أهل الإسلام، فهي عنده يقين مقطوع به كما هو عند المتكلمين، فليس في كبرائهم كالفخر والآمدي والغزالي ونحوهم من يطعن في كتب السنة ويقول: إن ما فيها من النقل لا يوثق به ولا يفيد يقينا، كيف وهم يحتجون بأخبارها في تواليفهم، ويذكرون الأحاديث منها حجة على مخالفهم من أهل السنة كما يذكر الواحد من الأشعرية ذلك إذا قابل حجة الماتريدي والحنبلي وبالعكس.

لكنه إذا قابل حجة رافضي أو جهمي أو قدري أو بعض أهل الملل المخالفين للإسلام، عمد إلى دلائل العقل دون النقل بحسب المناظَر، فإن كان ممَّن ينتسب للإسلام ظاهراً كالروافض احتجَّ عليه بنقل أهل البيت أو بظاهر القرآن لأنه يؤمن به، وإذا كان من الملل المخالفة للإسلام جملة فإنه يذكر له دلائل العقل الصريحة، إذ ذكر دلائل السمع له غير ذي جدوى بل هو من التزام ما لا يلزمه.

وابن تيمية نفسه قال في مقابلة حجة ابن المطهر الرافضي: (وهؤلاء -أي: الرافضة- وإن كانوا لا يقرون بصحة هذه الأحاديث، فالمصنف قد احتج بأحاديث موضوعة كذب باتفاق أهل المعرفة، فإما أن نحتج بما يقوم الدليل على صحته نحن وهم، أو لا نحتج بشيء من ذلك لا نحن ولا هم، فإن تركوا الرواية رأسا أمكن أن نترك الرواية، وأما إذا رووا هم: فلا بد من معارضة الرواية بالرواية، والاعتماد على ما تقوم به الحجة، ونحن نبين الدلائل الدالة على كذب ما يعارضون به أهل السنة من الروايات الباطلة، والدلائل الدالة على صحة ما نقله أهل العلم بالحديث وصححوه).

وهكذا أهل الكلام يقابلون الرواية بمثلها ممَّن يعتمد الرواية، وأما من يعتمد صرائح العقول فإن السمع لا يفيد في حقه يقينا فلا يُحتج به عليه إلا حيث تأيَّد بدلائل العقل لإظهار صدق المنقول من هذه الجهة، فيعمدون والحال هذه لدلائل العقل، وليس كل دليل عقلي عندهم ينتهض حجة، بل يعتمدون من ذلك على ما يتفق العقلاء على صحته كما تقدم.

وأيضا فهم يصرحون -كما قاله القاضي وغيره- بأن هذه المسائل الكلامية العقلية إنما صحَّت وثبتت بالبراهين النقليَّة الشرعيَّة، من حيث موافقتها لها وكونـها أدلة عقليَّة على مسائل الإيمان وافقت البراهين النقليَّة، ولولا ذلك ما كان لها معنى.

وإنما قال بأن العقل حاسَّة: المعتزلة، وجعلوه سادس الحواس، ولم يقله الأشعريون بإطلاق كما زعمه جولد تسيهر، واستدرك على نفسه فقال: بيد أن الأشعرية أكثر اتباعا للنقل، وهذا من جنس غلط ابن تيمية على المتكلمين، وإلا فالأشعرية وسط بين الظاهرية وغلاة الحنبلية الذين قالوا: لا عقل، وبين غلاة فلاسفة الباطنية والاتحادية القائلين: لا شرع.

وممَّن أنكر دليل العقل ابن الصباح القرمطي وغلاة الشيعة الذين عطلوا العقل، وقالوا: لا يتَّبع إلا قول المعصوم، وبإزاء هؤلاء: الماديون الطبائعيون، وأرباب الحيرة والشك الذين ازدروا النقل، وأفرطوا في حكم العقل، فظهر منهم من الاضطراب ما يفضي للكفر، وكان عمر الخيام الشاعر صاحب الرباعيات يشك في كل حقيقة إلا الموت، وهو القائل:

كم شيوخ وقسوس أكثروا ... في انتقاد الكون حتى ثرثروا

بالغوا في الحَدْس حتى هذروا ... ثم سَلَّ الموتُ منهم مِقْولا

وغدتْ أقوالُهمْ سِقْطَ المتاعْ

طالما خُضْنا غِمارَ الفلسفه ... وسمعنا من صوابٍ وسَفَه

وخبطنا في مَضَلٍ مَعْسَفه ..... ثم صِرْنا حيث كُنَّا أولا

لم نَسِرْ نحو الهدى قيد ذراعْ

وكان أبو العلاء المعري يلمع إلى هذا المذهب حين قال:

دينٌ وكفرٌ وأنباءٌ تُقَصُّ وفُرْ ....... قانٌ يَنُصُّ وتوراةٌ وإنجيلُ

في كل جيلٍ أباطيلٌ يُدان بـها...فهل تفرَّد يوما بالهدى جيلُ

وقال أيضا:

إنَّ الشرائعَ ألقتْ بيننا إِحَنًا ... وأودعتنا أفانينَ العداواتِ

وقال:

اثنان أهلُ الأرض ذو عقلٍ بلا ... دينٍ وآخرُ دَيِّنٌ لا عقل له

وقد يقال: إن هذه الحيرة وقعت للمتكلمين كالذي ينقله ابن تيمية عن الفخر والخسروشاهي والشهرستاني القائل:

لعمري لقد طفتُ المعاهدَ كلها ... وسيَّرت طرْفي بين تلك المعالمِ

فلم أرَ إلا واضعا كفَّ حائرٍ ...... على ذقن أو قارعا سِنَّ نادمِ

ولما وقف على هذين البيتين: ابن الأمير الصنعاني كتب:

لعلك أهملتَ الطوافَ بمعهد الرَّ ... سولِ ومن لاقاه من كل عالمِ

فما حار من يـهدى بـهدي محمد ... ولستَ تراه قارعًا سِنَّ نادمِ

وقد نُقل نحو هذا الكلام عن ساجقلي زاده وغيره، وهذا منهم محمول على الورع وخوف الوقوع في الزلل، إذ لا يخلو من تعاطى صناعة الكلام من الزلل، ولهذا تنكبه السلف لاستغنائـهم عنه، كما استغنوا عن علوم كثيرة كالبلاغة والهيئة والأكر والمجسطى لعدم احتياجهم وافتقارهم إليها، كما قال ابن الأمير:

أغناهمُ إيمانُـهم ويقينهم ... عن درسهم في أطولٍ ومطوَّلِ

فأما المتكلمون فإنما اضطروا إلى تعاطي الكلام واحتاجوا للاشتغال به فاشتغلوا به، فهو فرض كفائي لا يمكن الاستغناء عنه في الذبِّ عن أصول الشارع، فيغتفر ما يعتري المشتغل به من الزلل، كما اغتفر الشارع ما في الجهاد من إتلاف النفوس والأموال لمصلحة إعلاء كلمة الله، وكما اغتفر ما في علم الجرح والتعديل من الغيبة لمصلحة صيانة الحديث من الكذب والدخيل، وبه يعلم غلط القائل:

ولابن معينٍ في الرجال مقالةٌ ..... سيُسأل عنها والمليكُ شهيدُ

فإن يكُ حقًّا فهو في الحكم غيبةٌ...وإن يك كذبًا فالوعيدُ شديدُ

وقد قال بعض العلماء الشناقطة:

إن من العلوم ما اشتدَّ الوطرْ ... إليه حتى إن تركه خطرْ

مقايس الحرارة المستعمله ..... والكيميا والفيزيا والهندسه

وإنما أهملها الصحابه ...... وتابعوهم من ذوي الإصابه

إذ ليس عصرهم بالافتقارِ .... لها كمثل هذه الأعصارِ

وهذا الذي اعترى بعض فضلاء المتكلمين هو من محض الإيمان لا من الحيرة والشك، ولهذا لم يصنفوا في نقض ما صنفوه قبل ذلك، وإنما يقع هذا لهم خشية أن يكون صدر منهم حال الجدال مع الخصوم ما لا يحمد، وقد سئل الشافعي عن مسألة من الكلام، فقال: (سلني عن علم إن أخطأت فيه قيل: أخطأ، ولا تسألني عن علم إن أخطأت فيه قيل: كفر)!

وهذا ابن تيمية نفسه قد قال فيه الحافظ الذهبي في (زغل العلم): (فإن برعت في الأصول وتوابعها من المنطق والحكمة والفلسفة وآراء الأوائل ومجازات العقول، واعتصمت مع ذلك بالكتاب والسنة وأصول السلف، ولفقت بين العقل والنقل، فما أظنك في ذلك تبلغ رتبة ابن تيمية ولا والله تقربـها، وقد رأيت ما آل أمره إليه من الحطِّ عليه والهجر والتضليل والتكفير والتكذيب بحق وبباطل، فقد كان قبل أن يدخل في هذه الصناعة منوَّراً مضيئا، على محيَّاه سيما السلف، ثم صار مظلما مكسوفا، عليه قتمة عند خلائق من الناس، ودجَّالا أفَّاكا كافراً عند أعدائه، ومبتدعا فاضلا محققا بارعا عند طوائف من عقلاء الفضلاء، وحامل راية الإسلام وحامي حوزة الدين ومحيى السنة عند عوام أصحابه، هو ما أقول لك).

على أن هذا الذي وقع للمتكلمين من الورع والخوف الذي ظنَّه ابن تيمية حيرة، قد وقع نظيره لبعض فقهاء السلف والأئمة، فذكر الحافظ أبو عبد الله الحميدي في (تاريخه) عن القَعْنَبي، قال: دخلت على مالك بن أنس في مرضه الذي مات فيه، فسلَّمتُ عليه، ثم جلستُ فرأيته يبكي، فقلت: يا أبا عبد الله، ما الذي يبكيك؟ فقال لي: (يا ابن قَعْنَب ومالي لا أبكي، ومن أحق بالبكاء مني؟ والله لوددتُ أني ضُربت بكل مسألة أفتيتُ فيها بالرأي بسوط، وقد كانت لي السَّعة فيما قد سُبقت إليه، وليتني لم أُفْتِ بالرأي).

فهل نرمي مالكا -وهو إمام دار الهجرة ونجم السنن- بالحيرة والشك لمجرد بكائه خوفا من أن يكون قد خالف السنة في بعض رأيه الذي أفتى به، وهل نطَّرح مسائله ورأيه ومذهبه لمجرد ذلك، فما جواب ابن تيمية عن هذا فهو جوابنا.

وقد رويت منامات لجماعات من السلف كالسفيانيْن وأبي حنيفة وغيرهم، سئلوا فيها: هل نفعكم العلم والحديث والفقه؟ فخرج جوابـهم بأنه ما نفعهم عند الله إلا قيام الليل أو الاستغفار ونحو ذلك كما ذكرناه في كتاب (ما فعل الله بك)؟ ولم يقل أحد باطِّراح علومهم ومروياتـهم بمثل هذا، لأن هذا خرج ترغيبا في نوع من الصالحات كقيام الليل والذكر والاستغفار، لأن المشتغل بالعلم لا يخلو من التقصير فيها إذ بعض العلوم تستغرق الوقت والعمر، وإما خرج على جهة الورع والاحتياط في العلم.

يتبع 3 وهي الحلقة الأخيرة

وينظر المقالة المردود عليها بعنوان " وظيفة العقل" هـــنا

الحلقة السابقة هـــنا

جميع المواد المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين