محل العقل من العلم (1)

الحمد لله، وسلام على عباده الذين اصْطفى، ولا سيما خاتمهم وسيدهم المصطفى، وعلى آله وأصحابه المستكملين الفضل والشرفا.. وبعد:

فقد أطلق بعض الفضلاء في مقالة له عن العقل، ما يوهم ظاهره إنكار حكم العقل وأن يكون مصدراً للعلم، وأوهم أن اعتقاد هذا من مذاهب المتكلمين والفلاسفة!

ونقل الفاضل عن المتكلمين الإسلاميين بإطلاق غير مرضيّ، ما يشتبه على بعض من لم يمارس مذاهب المتكلمين: أنـهم يقابلون النقل برده إلى حكم العقل، فقال: (أغلب ترجيحات الفلاسفة والمتكلمين وتفضيلاتـهم شرقا وغربا، وقديما وحديثا، من زمرة الاستسلام للأهواء وإعطائها القِياد).

ثم ذكر كلاما هو في الجملة قول المتكلمين وطوائف من الفلاسفة الإسلاميين في العقل، فقال: إن العقل لا ينشئ علم المحسوسات، لكنه يكتسب العلم من مصدره الذي جعله الله له، ثم يقوم العقل بتطوير المعلومات واختبارها، فالعلم بالله تعالى مصدره الفطرة، والعقل يطور هذا العلم ويزيده مستعينا بأدلة أخرى ومنسقا بينها وموفقا، هذا كلامه.

ولاريب أن العقل ومحله من التفكير الإنساني ممَّا اضطرب الناس فيه، كما اضْطربوا من قبل في ماهيَّته، حتى قيل:

سَل الناسَ إن كانوا لديك أفاضلا...عن العقل وانظرْ هل جوابٌ مُحصَّلُ

وليس مراد الكاتب الفاضل: تثبيت اعتبار الشرع للعقل، فهذا لا يماري فيه عاقل، وإنما مراده مدى تصرُّف العقل في المنقولات الشرعية، ومدى إمكان اعتبار حكمه في إثبات أصول الديانات.

لكنه غلط من جهة العبارة، حيث أوهم ظاهر كلامه أن العقل مهدر، وكلامه في ظاهره يشبه مذهب السُّمَّنيَّة من البراهمة القائلين: لا علم إلا ما يدرك بالحواس، وهم طائفة من فرق التجاهلية، الذين جحدوا العقل، فمنهم العندية الذي يجعلون حقائق المعلومات تابعة لاعتقاداتـهم، ومنهم اللأدرية وهم يقولون: لا ندري ما حقائق الأشياء والمعلومات، والسوفسطائية ينكرون حقائق المعلومات ويجعلونـها حسبانا.

وهو لا يقصد هذا، بل يقصد أن المحسَّات لا تكون مخلوقة للعقل، ولكنه غلط من جهة إطلاقه أن هذا مذهب المتكلمين -أعني إنشاء المحسَّات كما قال- ولو عزاه إلى بعض من تبع الفلسفة الأفلاطونية كباطنية المتصوفة ونحوهم لأصاب.

فإن عمدة هؤلاء العقل، وهو الأصل عندهم في الاستدلال، حتى إنـهم يردون الوحي إلى حكمه، ويقابلون كل دلائل الشرع بعرضها على العقل، فما وافقه قبلوه وما ناقضه -في تصورهم- ردُّوه، ولهذا يسمَّى هؤلاء بأصحاب مذهب الإثبات المطلق، أي: إثبات حكم العقل المطلق.

وأما المتكلمون فإنـهم بخلاف ذلك، يحكُمون العقل بالنقل، ويردونه إلى دلائل الشرع الصحيحة الصريحة، ولهذا يسميهم بعض الحداثيين بأصحاب مذهب الإثبات المقيّد، أي: إثبات حكم للعقل مقيد بالنقل.

وإن قُدِّر أنَّ بعضهم ردَّ حكمًا ورد به الشرع بحكم العقل، فليس هذا على إطلاقه، بل لو تأمَّله المنصف لعلم أنه إنما ردَّه بوجوه صحيحة عنده، كعدم صراحته أو كونه ظني الثبوت والدلالة أو أحدهما، أو لأن عنده أن هذا الحكم مما لا يثبت مثله بمثل هذا الطريق، أو لأنه خص الحكم الشرعي بمحض العقل الصريح، وقد تقرر في الأصول جواز تخصيص النقل بالعقل كما حكاه أبو الوفاء بن عقيل وغيره، ولم يخالف فيه إلا شواذ.

وقد قال الغزالي في (المستصفى): (خير العلم ما ازدوج فيه العقل والسمع، واصطحب فيه الرأي والشرع: علم الفقه، وأصول الفقه من هذا القبيل، فإنه يأخذ من صفو العقل والشرع سواء السبيل، فلا هو تصرف بمحض العقول بحيث لا يتلقاه الشرع بالقبول، ولا هو مبني على التقليد الذي لا يشهد له العقل بالتأييد والتسديد).

وإطلاق الفاضل الكاتب أن العقل لا يدرك علما، إن قصد به ما لا سبيل إلى إدراكه إلا بالوحي كالمغيبات ونحوها، فصحيح وذلك الظن به، وإن قصد أنه لا يدرك على معنى أنه ليس بدليل للعلم، فهذا قد تنازع فيه الناس، فمنهم من عدَّ العقل دليلا من أدلة الشرع، كأبي العباس بن القاص وغيره، ومنهم من لم يذكره في جملة دلائل الشرع، وقال: إنَّ العقل ليس بدليل يوجب شيئا أو يمنعه، وإنما تُدرك به الأمور فحسب، إذ هو آلة العارف، وكذلك الحس لا يكون دليلا بحال، لأنه يقع به درك الأشياء الحاضرة، حكاه الزركشي في (البحر).

والحق أن العقل كاللغة في الاعتبار، فاللغة أصل للشرع على معنى أن الشارع اعتبر أصول أحكامها فأنزل التشريع على مقتضى أفصح ما في اللسان العربي، وكذلك لاحظ الشارع أحكام العقل فاعتبر أصحها، فحظ العقل في الشرع كحظ اللغة منه، ولهذا قال أهل الأصول: إن استمداده من الأحكام الكلية واللغة والكلام أي أحكام العقل الصريحة، ومن هنا قال المتكلمون الإسلاميون: (نحكُم العقلَ بالنقل، ونقرأ النقلَ بالعقل) وبه يدرك خطأ غلاة الظاهرية، كما يدرك خطأ غلاة باطنية الفلاسفة في العقل.

وأحكام الشارع ثلاثة: منها: ما ثبت بمحض العقل كوجود الباري، ومنها: ما ثبت بكلٍّ من العقل والنقل كوحدانية الباري، ومنها: ما لا يثبت إلا بالنقل كخلق الجنَّة والنار، وأنَّ الصراط حق، ونحو ذلك، وليس في متكلمي أهل السنة من يثبت ما لا يسوغ إثباته إلا بالنقل، بمجرد العقل، ومن توهمه عليهم أو نسبه إليهم كأبي العباس بن تيمية ونظرائه، فهو غالط.

ولهذا قال الأستاذ أبو إسحاق: (الذي عليه الإسلاميون وغيرهم: أن العقول طرق المعلومات، وإنما أنكرت ذلك طائفة من المحدثين، قالوا: لا يُعرف شيء إلا من قول النبي) فتأمل قوله: (العقل طرق المعلومات) أي: تعلم المعلومات عنه، بإعماله فيها.

وفي مقابلتهم مذهب من يحكِّم العقل مطلقا كباطنية كل طائفة، فإن في عامَّة الطوائف مذهبين، ظاهرية وباطنية، فمن مال للظواهر أخطأ حكم العقل وتنكَّبه، ومن مال للباطن أهدر الوحي المنقول، ولهذا كان إطلاق عد العقل دليلا خطأ، كما أن إطلاق كونه ليس بدليل خطأ بإزائه، وإنما يحكم العقل بوجهين من العلم:

الأول: علم اضطرار: وهذا لا يجوز أن يكون دليله على خلاف الشرع، فالعلم الناتج عنه ضروري، وهو مستقلّ عن الوحي.

والثاني: علم استدلال: وهو حاصل الفكر في الأدلة والنظر في الأمور واعتبار الصالح والفاسد منها، وهذا قد يكون صحيحا موافقا للشرع، وقد يناقضه، فالأول لا يتفاوت، والثاني يتفاوت، والأول هو المعتبر عند المتكلمين في رد المنقولات إليه: فما وافقها عُلم صحته، وما خالفها يطَّرح.

وهو مرادهم في إطلاق أن أول واجب على المكلَّف النظر، وبه يدرك خطأ من اعترضهم بأن من الناس من لا نظر له، لأن هذا العقل فطري ضروري، ولهذا بيَّن السعد عبارة المتكلمين، وأن المقصود نظر كل إنسان بحسبه، كنظر الأعرابي واستدلاله على وجود الصانع بالبعرة والبعير.

ومن الناس من يعترضهم بأن أول واجب ثابت بالوحي هو التوحيد، فيتوهم أن المتكلمين باعتبارهم العقل والنظر خالفوا الوحي في أول واجب! وهذا من عدم التأمل أو من فرط العصبية أو من تلقين الشيوخ، وإلا فمراد المتكلمين بأن أول واجب هو النظر، أي: الاهتداء إلى وجوب توحيد الباري بالنظر لا بمجرد التقليد.

فإن قيل: ليس كل الناس يقتدر على النظر في الدلائل، قيل: كل ناظر يعتبر النظر فيه بحسب عقله كما مر عن السعد، على أن هذا النظر فطري لا يخلو منه إنسان في حال من أحواله، لأن الفِطَر مركوزة في العقول.

وأما الثاني من مبادئ العقول، وهو علم الاستدلال: فهو موضع الخلاف في كون العقل هل يحسن ويقبح أو لا؟ ومذهب المتكلمين أن التحسين والتقبيح إن كان بمعنى منافرة الطبع وملاءمته فلا ريب في أنه يحسن ويقبح، وهذا قد أثبته الكاتب الفاضل نفسه، وإن كان بمعنى الثواب والعقاب فلا حكم إلا للشرع.

وقد قال ابن تيمية: (لم يقل أحد: إن الحسن والقبح لازم لذات الفعل، وكون الفعل سببا للثواب والعقاب مما يلائم الفاعل وينافره، لكن قد يكون الفعل ملائما من وجه، منافراً من وجه، وعقله يأمره بأنفعهما له، فمن ادَّعى حسنا أو قبحا عقليا أو شرعيا -بغير ملاءمة ومنافرة- فقد قال ما لا يعرف، ولم يتصور ما يقول، ولا دليل لمن نفاه، كما لا دليل لمن أثبته بغير ملاءمة الفاعل ومنافرته).

لكن قول الكاتب: إن العقل لا ينشئ المحسوسات، موهم: فإنه إن قصد أنه لا يوجدها فهو حق، ومن هنا أطلق العلماء إكفار طوائف من الفلاسفة بقولهم: إن العقل العلة الأولى التي عنها صدرت العوالم، لكن هذا لا يقوله المتكلمون، ومن عزاه إليهم –كما يوهمه إطلاق الكاتب- فقد غلط غلطا بيِّنا.

وإن قصد أن العقل لا يدركها فهو مكابرة للحس، فإن العقل أحد الحواس على معنى أنه كهي في الإدراك، بل هو في قول عامة النُّظَّار: أشرفها وأكملها، حتى قال ابن القيم: (العقل عقلان: عقل غريزة: وهو أبو العلم ومربيه ومثمره، وعقل مكتسب مستفاد: وهو ولد العلم وثمرته ونتيجته).

وحصر العلم بالمحسَّات مذهب لبعض أوائل الفلاسفة، والذي عليه عامة العقلاء أن طرق العلم ثلاثة: عقل وسمع وحسّ، وعنوا بالحسِّ علوم الإدراكات والعادات، وفي هذا المقام غلط بعض الناس فتوهَّم أنَّ المحسوس هو العلم لا غير.

وهنا ثلاثة أمور ذكرها الزركشي: أحدها: إدراك الحس المحسوس، والثاني: العلم بالمحسوس، والثالث: العلم بعلوم أخرى تنشأ عن المحسوس، وكلها مجالات للعقل، ولا يقول مسلم: إن العقل يُنتج المحسوسات أي: يخلقها ويوجدها.

قال الأستاذ أبو نصر ابن القشيري: (المعلوم ما يتشكل في الحواس، وما لا يتشكل ويفضي إليه نظر العقل فهو معقول، فاصطلحوا على الفرق بين المعلوم والمعقول، فتوهم من سمعهم يقولون: لا معلوم إلا المحسوس، أنه لا يُعلم شيء إلا بالحس، وتوهم من قولهم: إن النظريات معقولات، أنه لا يُعلم شيء إلا بالنظر).

ومذهب الأشعري وأتباعه: تقديم ما يدرك بالحواس على ما يدرك بنظر العقل، خلافا للقلانسي الذي قدَّم ما يُعلم بالنظر العقلي على ما يعلم بالمحسَّات؛ فهنا فرق بين المحسوس والعلم به، فكما تدرك المحسوسات بآلات الحواس، تدرك أيضا بآلة العقل ولا فرق.

فأما نفس الأدلة التي تدرك مدلولاتـها بالعقل، فهي عند المتكلمين دلائل الشرع من نص أو استدلال، والعقل داخل في جملة الاستدلال لأنه آلته، كما قال الأستاذ أبو إسحاق في (شرح الترتيب): (الذي قاله الشيخ أبو الحسن ونرتضيه: أن جملة الطرق التي يدرك بـها العلوم الضرورية والاستدلالية تنحصر في أدلة خمسة: العقول والكتاب والسنة والإجماع والقياس).

وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: (العقل قد يراد به القوة الغريزية في الإنسان التي بـها يعقل، وقد يراد به نفس أن يعقل ويعي ويعلم؛ فالأول: قول الإمام أحمد وغيره من السلف: العقل غريزة، والحكمة فطنة، والثاني: قول طوائف من أصحابنا وغيرهم: العقل ضرب من العلوم الضرورية).

قال: (وكلاهما صحيح؛ فإن العقل في القلب مثل البصر في العين؛ يراد به الإدراك تارة، ويراد به القوة التي جعلها الله في العين يحصل بها الإدراك؛ فإن كلَّ واحدٍ من علم العبد وإدراكه، ومن عمله وحركته حولٌ، ولكل منهما قوة، ولا حول ولا قوة الا بالله، ولهذا تجد المشايخ الأصحاء من الصوفية يوصون بالعلم ويأمرون باتباعه، كما تجد الأصحاء من أهل العلم يوصون بالعمل ويأمرون به، لما يخاف في كل طريقة من ترك ما يجب من الأخرى).

وغير خاف أن للعقل بدايات ونـهايات، فبداياته: الأوَّليات والمشاهدات والحدسيات، فهذه مبادئ كل عقل، ولا نزاع في أن حكم العقل هنا يعتريه الخطأ كما الصواب، وأما نـهايات العقل: فكالعرو من النقيضين أي: الأمران اللذان بينهما غاية التضاد، وأحدهما سلب للآخر، كالحركة والسكون والحياة والموت، وبه أثبت المتكلمون قانون التمانع في إثبات الوحدانية والتفرد الإلهي.

وكالجمع بين النقيضين، ولزوم الدور والتسلسل، وقلب الحقائق، والترجيح بلا مرجح والتأثير بلا مؤثّر، وتحصيل الحاصل، وبطلان الحصر ونحو ذلك، فهذه أحكام عقلية ضرورية يتفق عليها العقلاء، ويحتكمون إليها لكونـها من الضروريات، ولا يتأتَّى فيها إهدار حكم العقل إلا من عابث.

ولهذا وقع في كلام السلف الأول استعمال هذه الدلائل العقلية في الاستنباط واستنتاج الأحكام بـها قبل أن توضع مصطلحاتـها لأن العقل حاكم على الاصطلاح كاللغة، ولأن هذه الأحكام متفق على صحتها ويشترك العقلاء في حاصلها.

كالذي رواه ابن أبي شيبة أن الزهري سئل عن الزيتون، هل فيه زكاة؟ فقال: (هو يُكال فيه العشر) وهذا قياس اقتراني حملي، وحاصله أن الزيتون يكال، وبما أن كل مكال فيه العشر، فالزيتون فيه العشر، فاهتدى للحكم بالعقل.

ولهذا كان تصنيف ابن تيمية للمتكلمين الصنفين اللذين ذكرها في مبادئ كتابه (العقل والنقل) من فرط تعصُّبه عليهم وميله للحنابلة، فإنه نقل عنهم أنـهم ردوا الاستدلال بما جاءت به الأنبياء والمرسلون في صفات الله تعالى، وغير ذلك من الأمور التي أنبأوا بـها، وظنوا أن العقل يعارضها.

وهذا منه عجيب، فإنه لا يتصور تأويلهم لها أو تفويضهم إياها مع ردها، ولو كانوا يردونـها كما توهمه ما احتاجوا إلى تأويلها أو تفويضها، على أن قوله: (ردوا ما جاءت به الأنبياء) ضرب من المغالطة بقصد التشنيع والتهويل، وإذا ساغ أن يقال هذا فيهم، كان أولى أن يقال في الأئمة الأربعة ونظرائهم من فقهاء الأمصار ومن قبلهم من السلف: إنـهم ردوا ما جاء به النبي عليه السلام من السنن حاشاهم!

إذ ما من إمام منهم إلا وقد رد سنة أو خبراً صحيحا بأصل اخترعه وانتزعه من كليَّات وأصول الكتاب والسنة، كما رد مالك خبر خيار المجلس بعمل المدينة الذي هو أصله حتى قال فيه ابن أبي ذئب وهو صنوه من كبراء المدنيين ورفعائهم: (يُسْتتاب مالك في تركه هذا الحديث)، وردَّ أبو حنيفة خبر المصراة بأصل الخراج بالضمان، وردَّ ابن عباس خبر الوضوء مما مسَّت النار، وردَّت عائشة أم المؤمنين أخباراً مشهورة بمعارضتها بالأصول، جمعها الزركشي في جزء مفرد.

فالفرق الذي لم يـهتدِ له أبو العباس بن تيمية أن ردَّ الخبر بأصل من تصرف الأئمة الذين هو أحدهم، وأما رد الخبر بلا أصل فهو من تصرف أهل الأهواء الذين ليس منهم متكلمو الإسلام من الأشعرية ونظرائـهم.

وقد أخطأ هذا الفرق بعض من لا يدري الأصول والنظر، كالشيخ محمود سعيد ممدوح فتهوك في نبز بعض الأئمة باختراع أصول لرد السنن، فرمى بذلك أبا حنيفة ومالكا، وبإزائه قوم من غلاة المذهبيين يرمون أحمد بالحشوية وأنه أهدر النظر ولم يعتبر الأصول كما زعمه المهدي وغيره، وكلاهما غلط سببه القول بلا علم.

وابن تيمية نفسه صنف في الاعتذار عن رد الأئمة بعض السنن كتابه المعروف (رفع الملام) ولما نبز الحافظ ابن حزم في (إجماعاته) أئمة المذاهب المتبوعة بأنـهم: (اخترعوا آراء فاسدة عناداً منهم وشغبا عند اضطرار الحجة والبراهين لهم إلى ترك اختياراتـهم الفاسدة)!

تعقبه ابن تيمية بقوله: (أهل العلم والدين لا يعاندون، ولكن قد يعتقد أحدهم إجماعا ما ليس بإجماع، لكون الخلاف لم يبلغه، وقد يكون هناك إجماع لم يعلمه، فهم في الاستدلال بذلك كما هم في الاستدلال بالنصوص: تارة يكون هناك نص لم يبلغ أحدهم، وتارة يعتقد أحدهم وجود نص، ويكون ضعيفا أو منسوخا، وأيضا فما وصفهم هو به قد اتَّصف هو به، فإنه يترك في بعض مسائله ما قد ذكر في هذا الكتاب أنه إجماع).

وهذا التناقض قد وقع فيه ابن تيمية، فإنه رمى المتكلمين باختراع أصول سمَّاها هو بغرض التشنيع عليهم (قوانين) وزعم أنـهم يردون بـها السنن، ثم وقع له هو ردُّ بعض السنن بمخالفة الأصول والعقل، فإنه رد خبر إجلاس النبي عليه السلام على العرش، بمخالفة الكتاب والسنة والعقل كما في (مجموع فتاويه) مع أن متقدِّمي الحنابلة كأبي داود وعبد الله والبربـهاري وغيرهم وصفوا من ردَّه بأنه جهمي!

فهل نقول: إن ابن تيمية -حاشاه- جهمي؟ إن قلناه -وحاشانا- فاتباعا لأصله الذي نبز به المتكلمين بأنـهم اخترعوا قوانين ردوا بـها ما جاءت به الأنبياء، وإن اعتذرنا له بأنه إنما ردَّه لمخالفته القواعد والأصول الكلية ومنها العقل عنده، لزمه هو وأتباعه أن يعتذروا للمتكلمين بمثل هذا.

والإشكال في إطلاق مثل هذا عند ابن تيمية وغيره: التأثر بمؤثرات الكلام التي تفضي بصاحبها إلى الغلط في الحكم على الطوائف والأعيان، وهذه المؤثرات: إمَّا دينية، أو سياسية، أو أدبية، أو مادية، فإن توازنت في المتكلم: اعتدل وأنصف، كما هو عند ابن تيمية في كثير من كلامه المنصف في المتصوفة والمتكلمين والفقهاء، وإن غلب تأثير بعضها على بعض -كما غلب المؤثر الديني على ابن تيمية هنا فجانبه الإنصاف-: ظهر على كلامه الخلل والمناقضة.

يتبع: 2-3

ينظر المقالة المردود عليها بعنوان " وظيفة العقل" هـــنا

جميع المواد المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين