محبة الإخوان في الله تورث حبَّ الله تعالى

 

 

روى مسلمٌ عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم: (أنَّ رجلاً زار أخاً له في قرية أخرى، فأرصدَ الله تعالى على مَدْرَجَتِه مَلَكاً فلما أتى عليه قال: أين تريد؟ أريد أخاً لي في هذه القرية، قال: هل لك عليه من نعمة تَربُّها عليه؟ قال: لا. غير أني أحببته في الله تعالى، قال: فإني رسول الله إليك بأنَّ الله قد أحبَّك كما أحببته فيه). 

الألفاظ: 

أرصده: يقال أرصده لكذا إذا وكلَّه بحفظه.

مَدرجته: هو موضع الدروج وهو المشي.

تربُّها عليه: أي تسعى في صلاحها بتربيتها وحفظها بالزيارة.

المعنى:

المحبة هي ما تجد في نفسك من الميل إلى ملائمٍ لك، ويُقابلها البغض وهو: النفور من غير الملائم، والمحبة وصف شريف لأنها تُخمدُ جَذوة الرذائل، فإنَّ الذي يحب الناس ويخلص لهم يسعى في حاجاتهم، ويكون قريب الخير بعيد الشر.

والحبُّ في الله والبغض في الله غامض يحتاج إلى كشف الغطاء عنه، وذلك أنَّ الصحبة تنقسم إلى ما يقع بالاتفاق: كالصحبة بسبب الجوار أو بسبب الاجتماع في دور العلم أو في الأسفار، وإلى ما ينشأ اختباراً ويقصد وهو الذي نريد بيانه، إذ الأخوة في الدين واقعة في هذا القسم لا محالة، إذ لا ثواب إلا على الأفعال الاختيارية.

والصحبة عبارةٌ عن المجالسة والمخالطة والمجاورة، وهذه الأمور لا يَقصد الإنسان بها غيره إلا إذا أحبَّه، فإنَّ غير المحبوب يجتنب ويباعد.

والذي يحبُّ إما أن يحبَّ لذاته، وإما أن يحبَّ للتوصل به إلى مقصود، وذلك المقصود إما أن يكون مَقْصوراً على الدنيا وحظوظها، وإما أن يكونَ مُتعلقاً بالآخرة وإما أن يكونَ مُتعلقاً بالله تعالى.

أما القسم الأول: وهو حُبُّك الإنسانَ لذاته فذلك ممكن، وهو أن يكون في ذاته محبوباً عندك، على معنى أنك تلتذُّ برؤيته ومعرفته ومشاهدة أخلاقه لاستحسانك له، فإنَّ كل جميل لذيذ وكل لذيذ محبوب.

واللذة تتبع الاستحسان، والاستحسان يتبع المناسبة والملاءمة والموافقة بين الطباع.

ثم ذلك المستحسن إما أن يكونَ هو الصورة الظاهرة، أعني حَسَنَ الخِلْقة، وإما أن يكون هو الصورة الباطنة، أعني كمال العقل وحسن الأخلاق، بل في ائتلاف القلوب أمر أغمض من هذا، فإنَّه قد تستحكم المودَّة بين شخصين من غير مَلاحة في صورة ولا حُسن في خُلُق، ولكن لمناسبةٍ بَاطنة توجب الألفةَ والموافقة، فإنَّ شبه الشيء ينجذب إليه.

روى مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه من حديث عائشة رضي الله عنها، قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قال صلى الله عليه وسلم: (الأرواح جنود مجندة، فما تعارف منها ائتلف وما تناكر منها اختلف)، فالتناكر نتيجة التباين، والائتلاف نتيجة التناسب الذي عبَّر عنه الحديث بالتعارف.

وروي عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِي، عَنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (إِنَّ أَرْوَاحَ الْمُؤْمِنِينَ تَلْتَقِي عَلَى مَسِيرَةِ يَوْمٍ، مَا رَأَى أَحَدُهُمْ صَاحِبَهُ قَطُّ). [أخرجه الإمام أحمد، والطبراني في الكبير].

وروي عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لو أن مؤمناً دخل إلى مجلس فيه مائة مُنافق، ومؤمن واحد، لجأ حتى يجلس إليه، ولو أنَّ مُنافقاً دخل إلى مجلس فيه مائة مؤمن ومنافق واحد، لجاء حتى يجلس إليه). [قال الحافظ العراقي: أخرجه العسكري في الأمثال من طريق إبراهيم الهجري عن أبي الأحوص عنه رفعه].

 وكان مالك بن دينار يقول: لا يتفق اثنان في عِشْرَة إلا وفي أحدهما وصفٌ من الآخر، وإنَّ أجناس الناس كأجناس الطير، ولا يتَّفق نوعان من الطير في الطيران إلا وبينهما مُناسبة.

وقد ظهر في هذا: أنَّ الإنسان قد يُحَبُّ لذاته لا لفائدة تُنال منه في حال أو مَآل بل لمجرَّد المجانسة.

والقسم الثاني: أن يحبَّه ليتوصَّل به إلى نيل جاه أو مال أو علم، فالمتوسَّل إليه إن كان مقصور الفائدة على الدنيا لم يكن حُبُّه من جملة الحبِّ في الله.

والقسم الثالث: أن يحبَّه لا لذاته بل لغيره، وذلك الغير ليس راجعاً إلى حُظوظه في الدنيا بل يَرجع إلى حظوظه في الآخرة: كمن يحب أستاذه وشيخه؛ لأنَّه يتوصل به إلى تحصيل العلم وتحسين العمل، ومقصوده من العلم والعمل الفوز في الآخرة، فهذا من جملة المحبين في الله تعالى.

والقسم الرابع: أن يحب لله وفي الله لا لينال منه علماً أو عملاً أو يتوسَّل به إلى أمر وراء ذاته، وهذا الضرب من الحبِّ هو أعلى الدرجات وأدقها وأغمضها.

وإنَّ الحبَّ في الله تعالى إذا قَوي أثمرَ حُبَّ كل من يقوم بحق عِبادة الله في علمٍ أو عَمَل، وأثمر حبَّ كل من فيه صفة مَرْضيَّة عند الله من خُلق حَسَن أو تأدُّبٍ بآدابِ الشَّرع.

على أنَّ كلَّ من يحبُّ في الله لابدَّ أن يُبغضَ في الله، فإنَّك إن أحببتَ إنساناً لأنَّه مُطيع لله ومحبوب عند الله، فإن عَصَاه فلابدَّ أن تُبغضه، لأنَّه عاصٍ لله وممقوتٌ عند الله، ومن أحبَّ بسبب فبالضرورة يُبغض لضده، وهذان مُتلازمان لا يَنفصل أحدهما عن الآخر.

روي عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الْمُؤْمِنُ يَأْلَفُ وَيُؤْلَفُ، وَلَا خَيْرَ فِيمَنْ لَا يَأْلَفُ وَلَا يُؤْلَفُ). [قال الهيثمي في المجمع: رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالْبَزَّارُ، وَرِجَالُ أَحْمَدَ رِجَالُ الصَّحِيحِ].

وقال عليه الصلاة والسلام: (مَا تَحَابَّ اثْنَانِ فِي اللَّهِ إِلَّا كَانَ أَفْضَلُهُمَا أَشَدَّهُمَا حُبًّا لِصَاحِبِهِ) [أخرجه البيهقي من حديث أنس رضي الله عنه، قال البيهقي: ورواه أيضا قتادة عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلاً. قال الحافظ العراقي: أخرجه ابْن حبَان وَالْحَاكِم من حَدِيث أنس وَقَالَ: صَحِيح الْإِسْنَاد].

وقال عليه الصلاة والسلام: (سبعةٌ يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله) ومنهم: (رجلان تحابا في الله اجتمعا عليه وتفرقا عليه) [أخرجه البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة].

وروى الإمام أحمد من حديث عمرو ابن عنبسة عنه صلى الله عليه وسلم يقول: (إِنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ يَقُولُ: قَدْ حَقَّتْ مَحَبَّتِي لِلَّذِينَ يَتَحَابُّونَ مِنْ أَجْلِي، وَحَقَّتْ مَحَبَّتِي لِلَّذِينَ يَتَصَافُّونَ مِنْ أَجْلِي، وَحَقَّتْ مَحَبَّتِي لِلَّذِينَ يَتَزَاوَرُونَ مِنْ أَجْلِي، وَحَقَّتْ مَحَبَّتِي لِلَّذِينَ يَتَبَاذَلُونَ مِنْ أَجْلِي، وَحَقَّتْ مَحَبَّتِي لِلَّذِينَ يَتَنَاصَرُونَ مِنْ أَجْلِي) [قال الهيثمي في المجمع: رواه الطبراني وأحمد ورجال أحمد ثقات].

وأما حب الله تعالى لعباده:

فهو من الصفات التي أُسندت إلى الله تعالى في كتابه وعلى لسان نبيه صلى الله عليه وسلم، وهذا الحبُّ إما أن يُقال فيه ويُفهم على أنَّه حبٌّ وبغض كما يَليق بشأنه سبحانه ولا يشبه حبُّه حبَّ البشر؛ لأنه لا يشبه البشر: [لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ] {الشُّورى:11}، وكذلك علمه لا يشبه علم البشر ولا قدرته تشبه قدرتهم. 

فهو إذن شأنٌ من شؤونه الإلهيَّة في عباده لا يَعرفه إلا من ذَاقه، ولا يمكن الإفصاحُ عنه لأنه إنما يعرف بالذوق لا بالكلام.

وإما أن يؤول الحبُّ بحسن الجزاء والإنابة وإرادته تعالى الخير لعبده والتوفيق له واللطف به، قال الله تعالى: [قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ] {آل عمران:31}، فمعاشرة الأخيار تَغْرِس في النفس الأخلاق الطيَّبة، وتدفعها إلى مَعَالي الأمور، أما مصاحبة الأشرار فإنَّها تقودُ إلى الاستهانة بالأخلاق وتجرِّئ على اقتراف الآثام.

فقه الحديث:

في الحديث ما يدلُّ على فَضْل الحب في الله والتزاور فيه.

وفيه بيان فَضيلة زيارة الصالحين والأصحاب.

وفيه أنَّ الآدميين قد يَرون الملائكة.

وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم 

المصدر: (مجلة لواء الإسلام، العدد 8 السنة 11 ربيع الثاني 1377، نوفمبر1957).

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين