مثل من شبابنا الأول


 

الشيخ: البهي الخولي

 

جلس عتبة ابن فرقد أمير ماسبذان ـ كورة فارسية أرس إليها سعد بن ابي وقاص جيشاً بقيادة ضرار بن الخطاب ففتحها سنة 16 هـ ـ يوماً إلى بعض خلصائه وقد أهمه أمر فوجَّه الحديث إلى عبد الله بن ربيعة فقال:
ألا تعينني يا عبد الله على ابن أخيك؟
قال عبد الله وما ذاك يا أيها الأمير؟
قال ابن عمرو، أريد أن عينني عليه.
قال: وماذا في أمره ما ترجو المعونة عليه؟
قال أريد أن يكون معي في عمل هذه الأمارة يعينني عليه فقد تقسم الزهد وسهر الليل، وركوب الخيل والخروج للغزو كل وقته وعقله وجسمه!!
قال معضد العجلي. أيها الأمير إن ابنك شغل بمعالي الأمور فدعه وما شغل نفسه به، ولقد كنا خلقاء أن نعينك على ما ترجو من صلاحه لو أنه سدر مع الخلفاء والمستهترين بألوان اللهو والغفلة، أما وهو مشمر إلى الله فلا، ولقد كان الأمير ـ أعزه الله ـ خليقاً أن يعين ولده على ما هو بسبيله لا أن يستعدي عليه من يثنيه عنه.
قال عتبه: والأمارة يا معضد، من يعينني عليها؟
قال معضد: لكنك أيها الأمير تدخر ولدك للأمارة من بعدك! وهيهات، فابنك يحلق إلى أمارة أعز، ومجد أشم، ويعيش بنفسه في حقيقة علوية لا يروج لديها شيء مما نعيش فيه وله، وما ذلك بمانعه يوماً أن يكون أهلاً لما تريده من الإمارة.
قال عتبه إنه لا يمتعنا بنفسه، فهو كثير التجوال والترحال والسفر إلى الغزو، وإذا قام بيننا أقام كأنه غريب لا يأكل مما نأكل، ولا ينام كما ننام، ولا يأخذ فيما نأخذ، وبودي لو يرفق بنفسه ويصيب مما نحن فيه، فما حرم الله عليه شيئاً منه، فإن نفسي تكاد ت ذهب من الرقة كلما رأيته في نحوله وذبوله، وقد أعطيته بالأمس مالاً ليصلح من حاله، فما هش له حين أخذه، وأحسب أنه لم يأخذه إلا براً بي وشفقة عليَّ من أثر الرد، ولا أدري ما هو صانع به...
وهنا دخل عمرو بن عتبة فأمسك أبوه عن الكلام، فقال عبد الله بن ربيعة: لعلك سمعت شيئاً مما كنا نتكلم فيه من أمرك يا عمرو.
قال عمرو بن عتبة: لم أسمع شيئاً، ولكن لعلي قد فهمت الآن ما كنتم تتحدثون فيه.
قال عبد الله: فأطع أباك يا عمرو.
فسكت عمرو وأطرق حزيناً يفكر في حيرته بين وجد أبيه به، وبين شوقه إلى الله تعالى، وصمت المجلس لإطراقه وسكوته، فرق له معضد العجلي وقطع الصمت بقوله: لا تطعهم يا عمرو، واسجد واقترب!
فأقبل عمرو على أبيه عتبة كأنما يضرع إليه وقال: يا أبت إنما أنا عبد أعمل في فكاك رقبتي، فدعني أعمل في فكاكها.
فبكى عتبة لضراعة ولده وقال: يا بني إني لأحبك حبين: حباً لله، وحب الوالد لولده، فامض لما تريد من أمر ربك.
قال عمر: يا أبت إنك كنت آتيتني مالاً فقد بلغ سبعين ألفاً فإن كنت سائلي عنه فها هو ذا فخذه، وغلا فدعني فأمشيه ـ فأمضيه ـ أتصدق به ـ
قال عتبة: فامضه يا بني، فأمضاها عمرو، فما بقي منها درهم.
ذلك هو عمرو بن عتبة ربيب بيت من بيوت الإمارة، و شاب من شباب المسلمين الأولين، نقدمه اليوم مثلاً صالحاً لشباب المسلمين والآخرين.
كان متغرباً في الله تعالى، وقدم من سفرته مع رفقة، منهم إبراهيم بن علقمة، ومسروق، ومعضد، حتى بلغوا مشارف ماسبذان مقر إمارة أبيه.
لو أن شاباً من صغار النفوس في مثل موقف عمرو ماذا كان يدور بنفسه من الزهو بين رفقته، و هو يعلم أنه قادم بهم على سلطان أبيه حيث مظاهر الجاه وشارات الرياسة التي تهز نفوسهم وتملأ صدورهم إكبارا له وهيبة؟
ماذا كان يصطنع من الحديث ليشعر إخوانه من طرف خفي بما هم مقدمون عليه؟ لندع ما يكون من صغار النفوس في هذا الموقف، ولننظر ما فعلت تلك النفس الكبيرة التي كانت تحلق في آفاق غير التي يعيش فيها عامة الناس، فلا تزدهيها الشارات ولا تفرح بما يفرح به صغار الأحلام، قال عمرو بن عتبة: إنكم إن نزلتم عليه صنع لكم نزلاً، ولعله قد ظلم لكم فيه أحداً، ولكن إن شئتم نزلنا في ظل هذه الشجرة فقضينا مقيلنا وأكلنا من كسرنا) ففعلوا ـ النزل ـ الطعام ـ.
لقد بلغ هذا الشاب من الرشد ما لم يبلغه أبوه! والرشد رشدان رشد يميز به العقل المنطقي قيم الأشياء المادية في الخارج، ورشد يميز به العقل الروحي قيم الحقائق وأقدار المعاني.
والرشد الأول: يبلغه الطفل بعد سن معينة فيصير رجلاً.
والرشد الآخر: قد يدركه الفتيان قبل الرجال وقد لا يدركه الرجال فيظلون أطفالاً.
وتلك الحقيقة هي التي يجلوها لنا عمرو بن عتبة بسيرته الرشيدة وحسن إدراكه لأنواع القيم.
لقد أدرك رشده، فهان في نظره ما في بيت أبيه من ألوان المطاعم والمشارب، واستشعر وعيه الباطني ر يح نعيم قدسي في ملكوت الله تعالى، فعاف أن يكون بطنه وعاء لما عند أبيه، وسما لى نفحات الله يتعرف لها في أصيله وسحره، ومغداه ومراحه، فملأت إهابه طرباً وبهجة، وقلبه، وراً وحكمة.
لقد أغناه عن دنيا الناس رغيفان كل يوم يسد بهما فراغ بطنه، وفي رغيفين غناء لمن كان همه أن يبسط جناحيه للتحليق في ملكوت الله ذاهباً مع ما سنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم لأرباب الهمم العالية: (أديموا طرق أبواب الجنة بالجوع) ـ الراوي: عائشة المحدث: السبكي (الابن) المصدر: طبقات الشافعية الكبرى - الصفحة أو الرقم: 6/334 خلاصة حكم المحدث: [لم أجد له إسنادا] ـ
قال عبد الحميد بن لاحق: كان لعمرو بن عتبة رغيفان كل يوم، يتسحر بأحدهما ويفطر بالآخر، وأغناه عما للناس من فرش وأرائك ووسائد، حصير عتيق يريد عليه جسمه ساعة من الليل أو بعض ساعة إذا أحس كلال التهجد والقيام.
ولقد كان يترنم في نفسه بكلمة سمعها من صديقه معضد العجلي: لولا ظمأ الهواجر، وطول ليل الشتاء، ولذاذة التهجد بكتاب الله عزَّ وجل ما باليت أن أكون يعسوباً، فيهتز عطفاه من الطرب، إذ يذكر بها الرياض التي طالماً صدحت فيها بلابله، فلذاذة التهجد بكتاب الله عزَّ وجل كانت قرة عينة وبهجة نفسه، ومهاده الوثير الذي آثره على كل مهاد، ويا رب ليلة أخذه من شجوها ما ينفي عنه طيف الغفوة فيظل في بكائه ونشجيه، و حذره ورجائه ونواشئ الأسحار من حوله يبسمن كالعرائس الغر بما نسج لهن من غلائل ذكره ونور تسبيحه، فلا ينصرفن عنه إلى ملكوت الله إلا حين يبسم له ضوء الصبح من خلال الأفق البعيد، قالت أخت له: (أحسسته ذات ليلة وقد قام إلى مصلاه فجعلت إليه سمعت وانتباهي فاستفتح سورة حم، فلما أتى على تلك الآية من قول الله تعالى:[وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الآَزِفَةِ إِذِ القُلُوبُ لَدَى الحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلَا شَفِيعٍ يُطَاعُ] {غافر:18}. فما جاوزها، وظل يرددها حتى خرج ليشهد مع الناس صلاة الصبح... ولقد قال بعض صحابته: (كنا إذا خرجنا للعدو لا نتحارس بالليل لكثرة صلاة عمرو وقيامه).
تلك هي الموائد التي كان يطول عندها شدوه وتغريده ظمأ الهواجر، وطول ليل الشتاء، ولذاذة التهجد بكتاب الله تعالى، فلا نعم عيش عباد الدراهم والقطيفة، لقد ظل عمرو يتحسس في نفسه مواطن الرخاوة ومغامز الشيطان، فيدبر لها علاجها من الله حتى صلب عوده واستحصدت مرته... عالج مغمز المال فوجهه إلى الله... وعالج ترف المطعم والمشرب بظمأ الهواجر... وعالج لين الفراش بلذاذة التهجد... وبقي بعد ذلك مغمز الجاه والرياسة، فما أسرع أ، عالجه بأنجع دواء، قال حريط بن رافع: كان عمرو بن عتبة إذا خرج في أصحابه يشترط أن يكون خادمهم، يرعى لهم ركائبهم أو يسوقها، فق لي بربك أي شيء بقي من هذا الغني مما يطمع الشيطان فيه؟
لقد حدث هو عن نفسه: سألت الله ثلاثاً فأعطاني اثنتين وأنا أنتظر الثالثة: سألته أن يزهدني في الدنيا، فما أبالي الآن ما أقبل منها وما أدبر، وسألته أن يقويني على الصلاة فرزقني منها... وسألته الشهادة فأنا أرجوها).
هذه هي النوازع التي كانت تعتمل في صدر هذا الشاب، وتلك هي أهدافه التي هامت بها نفسه، نال معظمها من فضل الله، وبقيت الشهادة هدفه الأخير ومحوره الذي تدور حوله كل همته وخواطره وأشواقه في اليقظة والمنام.
وليس كالصدق يرفع به الإنسان إلى الله دعاءه ورجاءه، فما هو إلا أن يستجيب له، و هذا فتى من أبناء السروات تلهج خواطره بذكرى الشهادة، وتهفو سريرته شوقاً إليها وولهاً بها فلا رجم أن ينيله الله إياها... لقد اشترى لغزوه حصاناً بأربعة آلاف، إن أربعة آلاف ثمن جواد لكثير، فيقول: والله لخطوة واحدة منه إلى عدو الله أفضل من أربعة ألاف.
ولقد طلع على بعض رفقته في جبة جميلة حسنة، فهل تدري ما كانت تتناجى به بلابل نفسه وهو يتحلى بهذه الجبة، لقد ود لو تزين بوسام يغض من قدر كل وسام النبوة، لقد قال لأصحابه وهو يشير بأصابعه لمواضع في الجبة: ما أحسن أن يتحدر دمي في سبيل الله على هذه الجبة ويجري عليها هنا وها هنا!؟.
إن جوانج الصديقين حين تهتف إنما ت هتف بصدى ما تحسه من قرب مقادير الله تعلى، فسرائرهم النقية في هذه الأرض هي المرآة التي يتراءى فيها ما يشاء الله من مقاديره الموشكة، فيهتفون بما يهتفون به من آمال صادقة، وهم لا يدرون أن القدر على قيد خطوات منهم قد حشر بما يريدون.
لقد وقف فتى صحابي يقول لرسول الله صلى الله عليه وسلم يا رسول الله، لقد أعطيتني حظي من الغنيمة، ولكني لم أسلم ولم أقاتل من أجلها، بل أسلمت وقاتلت ليصيبني سهم في نقرة نحري ها هنا ( وأشار بأصبعه إلى نحره ) فأقتل شهيداً فيدخلني الله الجنة، فقال له عليه الصلاة والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.: (إن تصدق الله يصدقك) فلما كانت موقعة من المواقع جيء لرسول الله صلى الله عليه وسلم بفتى قتيل وفي نحره سهم مغروز، فلما رآه عليه السلام قال: (أهو هو؟ قالوا نعم: هو هو، يا رسول الله ).... ورأى فيه الصحابة مبلغ استجابة الله لصدق الصادقين...
وها هو ذا فتانا يمر بأصابعه على أماكن في جبته الجميلة ويقول ما أحسن أن يتحدر دمي على هذه الجبة ويجري عليه هنا وها هنا ؟ نعم يا عمرو، سيتحدر الدم عن قريب، فما أنطقك بهذا إلا القدر الذي حضر بما تريد.
خرج عمرو مع صحابته بجبته، فاستقبلهم مرج ضاحك مبتهج، طلق الهواء، لين النسمات، فما أن سار فيه حتى تحرك في نفسه وجد، وثارت بقلبه أشواق وكأنما لم ير في المرج مرجاً، بل روضة من القدس حضرت له مع القدر بريح الجنة، فانبعثت من أعماقه نفحة من هيام: ما أحسن هذا المرج، ما أحسن الآن لو أن منادياً نادى يا خيل الله اركبي!!).
قال راوي الخبر: فوالله ما كان بأسرع من أن نادى مناد يا خيل الله اركبي، فربكنا وركب عمرو، وعلم أبوه بركوبه، فقال على عمرا، على عمرا، فأرس في طلبه، فما أدرك حتى أصيب، يا لقدر الله!
أصيب بحجر إصابة ليس لمثلها أن تكون قاتلة! أصابه جرح صغير فجعل يخاطبه ـ وهي يرى الدم يجري منه على المكان الذي أشار إليه بأصابعه في جبته ـ والله إنك لصغير وإن يشاء الله تعالى يبارك في الصغيرا) فلما كان المساء بارك الله الجرح الصغير، وجاء بالشهادة المرموقة، وصعد الروح الطاهر إلى بارئه، ودفن الجسم الطاهر في الجبة البيضاء، ذات الدم الزكي الطاهر في نفس المرج الذي هتف فيه: (ما أحسن الآن لو أن منادياً نادى يا خيل الله اركبي) يرحمه الله تعالى.
وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم.
المصدر: مجلة الوعي الإسلامي محرم 1389، العدد 49.

 

 

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين