مثاليِّون، ولكن...

نصادفهم في دروب الحياة المتشعِّبة، نسمع منهم عاليَ القول، متصدِّرين للنصح والوعظ، فتبهرُنا كلماتهم المنمَّقة؛ في تسامٍ وارتقاء، وعلو ونقاء، ومثاليَّة وصفاء، حتى لتَخَالهم من خير الأكابر، لا ينازعهم في رتبتهم منازع، ولا ينزعهم عن مسلكهم المثالي الراقي نازع.

ومهما طال سعيهم بين الناس بتلك المثاليَّة أو قَصُر، فإن لحظةً كاشفةً تتجلَّى فيها الحقائق، تراهم عندها قد نُكِسوا على رؤوسهم، متردِّين في حمأة طباعهم، هاوين من أبراجهم المثالية، قد نزعتْهم عروقُهم الغريزية، ونبضتْ في نفوسهم قواهُم الطبيعية، هاتكةً كل قناع مثالي يخفي بالتكلُّف الملامح الصادقة.

على صفحات مواقع التواصل كان قد ملأ الدنيا وشغل الناس بكلماتٍ كالدُّر في نِظامِها، بيانٌ راقٍ مشرق، وتألقٌ في الدعوة إلى التسامي عن حظوظ النفس، والترفع عن الدنايا، وتجاهل الإساءات، ومدافعة المشاعر السوداوية، في مثاليَّاتٍ عاليةٍ عالية، لا تسلم من مبالغةٍ ومغالاةٍ وشَطَط، والعجيب أن جماهير المعجبين والمعلِّقين لم يلتفتوا إلى شيءٍ من تطرُّفه في مثاليَّته باعتراض أو نصح، فبريق الكلمات يشغلهم عن مجاوزة الحدِّ بدعاواه المثالية؛ في التعامل مع النفس والناس، والحياة والموت، والحيوان والجماد، إلى أن جاءت تلك الشتيمة في تعليق من متابع في سياق خصومة، تبخَّرت معها كل مثاليَّات صاحبنا، وعاش حالةً من اضطرابٍ غير مَرْضِيٍّ، يُمطِرُ الناسَ بوابلٍ من منشوراتٍ لم تنقطع على مدار أربع وعشرين ساعة، كالسيل العَرِم جرفت تطرُّف مثالياته، وألجأته إلى واقعه النابض بإنسانيته بخصائصه البشرية.

لا ضَير في أن تغضب؛ لأنك من لحم ودم، والدم فوَّارٌ موَّارٌ، لكن الضَّير في أن لا تُطفِئَ غضبَك، وأنت من ملأ الدنيا بمنشورات كبح جِماح النفوس.

رحلة تزكية النفس واجبة، ولا ينبغي لعاقلٍ أن يتشدَّق بلسانٍ ملائكيٍّ، وهو من ماء وطين.

استمتع ببشريَّتك، عِشْ تفاصيلها صادقًا، وابذل الوسع في تهذيب نفسك مجاهدًا، ولا تتطوَّس على الخلق بلسانك مجازفًا، فاللحظة الكاشفة ستأتيك، والمسلَّم من سلَّمه الله.

إنْ تغفرِ اللهمَّ تغفرْ جمّا=وأيُّ عبدٍ لكَ ما ألمَّا

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين