متى نتعصب

 

التعصب وصف ردئ عندما يكون معناه جمود الفكر، وانحصار الأفق، والتشبث بالهوى، والجنوح إلى الباطل مهما بدأ عواره، ونحن نرفض هذا الوصف ونأباه على أنفسنا وقومنا...

ولكن عندما يكون التعصب أثراً لاحترام الحق، و إكبار أهله، ودعم جانبهم، وكره عدوهم، فإن التعصب هنا يرادف الإيمان والجهاد، ولا يتخل عنه امرؤ ذو دين.

وفي العالم اليوم حقائق أرخصها الضعف، وحقوق هضمها البغي، وقوى شرسة استمرأت العدوان، ومسلمون طمع فيهم من لا يدفع عن نفسه، حتى كأن البغاث بأرضنا يستنسر!.

أفلا يوقظنا مرأى هذه الصور الكريهة إلى أن نعرف من نحن؟ ماذا نحمل من رسالات الله؟ وماذا نستطيع أن نسديه لأنفسنا وللعالم أجمع لو غالبنا بديننا وتاريخنا، وشققنا الطريق إلى المستقبل على سناه الهادي؟!.

وعندما أقرأ سورة الممتحنة يحيا في نفسي معنى التعصب للحقيقة والدفاع عنها، الوقوف إلى جانبها على رقة الحال، وكآبة المنظر في الأهل والمال!!

إنه ليس من الشرف أن أجامل من يهين الحق، وليس من صدق اليقين أن أمالئه وأترضاه.

وقد نزلت سورة الممتحنة لتلقن المؤمنين هذا الدرس حتى يبقى حياً في نفوسهم إلى يوم الدين، فقال جل شأنه:[يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الحَقِّ] {الممتحنة:1}.

عيب واضح أن أصادق عدو الله وعدوي، وأن أبسط يدي ولساني له بالسلام، وهو يزدري ما عندي، ولا يتوانى!! ومن هنا عللت السورة النهي عن المصافاة، فقالت بعد إثبات فكرهم: [ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ... ] ثم اطرد السياق القرآني يقول: [أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللهِ رَبِّكُمْ إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَادًا فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِي...]   أي فلا تسلكوا هذا المسلك، وتطووا قلوبكم على حب من طردكم وأهانكم!! كيف تفعلون هذا؟  [تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنْتُمْ...]  {الممتحنة:1}.

والتعبير بأنا في هذا الموضع يفرض علينا أن نتوقف قليلاً لنتدبره فقوله جل شأنه [وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنْتُمْ]. فيه معنى التحذير من الرقيب الخبير.

وهذا المعنى صرحت به سورة أخرى في مثل هذه القضية قال تعالى:[لَا يَتَّخِذِ المُؤْمِنُونَ الكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ المُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللهِ المَصِيرُ] {آل عمران:28}.

والغريب أن هذا التحذير يتكرر في الموضع نفسه مؤكداً علم الله بما نخفي وما نعلن، حتى لا نتورط في مسالمة عدو، يبتغي إبادتنا أو الوقوف منه موقفاً بعيداً عن الصرامة والمفاصلة، فقال جل شأنه:[يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ] {آل عمران:30}.

تحذير يتكرر مرتين بعبارة رهيبة هي: يحذركم الله نفسه. إنها هناك توضيح لقوله هنا:[ تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنْتُمْ وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ].

هكذا بدأ سورة الممتحنة تعلمنا ضرورة التعصب للحق، والتمسك بأهدابه، وكراهية المعتدين عليه، والنفور من مودتهم.

وإذا كان هذا المعنى الحاسم قد تصدرها فإنه قد تمشى في آياتها على صور متفاوتة، ثم كان لها الختام المبين فقال جل شأنه:[يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللهُ عَلَيْهِمْ قَدْ يَئِسُوا مِنَ الآَخِرَةِ كَمَا يَئِسَ الكُفَّارُ مِنْ أَصْحَابِ القُبُورِ] {الممتحنة:13}.

إن الأحياء من الكفار قد قنطوا من مودة إخوانهم الذين ماتوا إلى الحياة مرة أخرى، أو أن الموتى من الكفار قد يئسوا من الحصول على مكانة عند الله في الدار الآخرة.

سواء كان هذا المعنى أو ذاك فإن المؤمنين لا يليق أن يصادقوا قوماً تلك حالتهم!!

ولنلق على السورة من بدئها إلى ختمها نظرة جامعة نتعرف بها أسباب النزول كما ذكرها المفسرون والمؤرخون.

لقد استغرق نزول هذه السورة على وجازتها قريباً من عامين وصدرها نزل في السنة الثامنة عندما قررت الكتائب المؤمنة أن تجهز على الوثنية المتحكمة في مكة، وأن تعيد إلى دائرة التوحيد هذا المعقل الأشم.

ووسط السورة نزل في السنة السادسة، بعدما تم عقد الحديبية بين المسلمين وأهل مكة، وبدأ التنفيذ وظهرت بعض المشكلات، وآخر السورة نزل بعد الفتح الكبير، وإقبال أهل مكة رجالاً ونساءً على مبايعة الرسول صلى الله عليه وسلم والالتزام بتعاليم الإسلام.

ومع الاختلاف الزمني الملحوظ في نزول الآيات فإن ترتيبها لم يفقد ذرة من الاتساق والتماسك، بل هو نسق من الإعجاز الساري في أسلوب القرآن الكريم كله.

وأشعر بأن القرآن الكريم في علم الله القديم كان على هذا الترتيب الذي نحفظه، وأن الآيات كانت تنزل وفق الأحداث، ثم يأمر الرسول صلى الله عليه وسلم بوضعها في مكانها بتوقيت إلهي، فتعود إلى وضعها الأزلي، على النحو الذي يقرأ الآن.

والمحور الذي دارت عليه السورة كلها، هو الحب والبغض في الله تعالى، وهو قاسم مشترك بين أجزاء السورة منذ بدأ النزول، ولذلك فإن وحدة الموضوع ظاهرة شائعة فيها.

ففي أوائل السورة نقرأ كيف رفض القرآن الكريم ما وقع من حاطب بن أبي بلتعة الذي راسل أهل مكة يخبرهم باستعداد الرسول صلى الله عليه وسلم للسير نحوهم كي يأخذوا أهبتهم!!

وهو عمل شنيع، ولولا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عفا عن الرجل تقديراً لسابقته في خدمة الإسلام لكان جزاؤه القتل.

وهنا نرى الوحي ـ بعد استنكار التصرف السابق ـ يقول للمؤمنين: [لَنْ تَنْفَعَكُمْ أَرْحَامُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ يَوْمَ القِيَامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ] {الممتحنة:3}.

أي: لا يجوز أن يخفف شيء ما من حدة الخصام للكفر وشيعته، ولو كان الحرص على القرابة والولد والمال فإن جانب الله أولى بالرعاية.

والمثل الأعلى أن يقول المؤمنون لأعدائهم:[ إِنَّا بُرَآَءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ العَدَاوَةُ وَالبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللهِ وَحْدَهُ] {الممتحنة:4}.

وهذه مصارحة بالقطيعة في سبيل الله، ومعالجته بالحب لله والبغض لله، وليس أمام المؤمنين إلا هذا السلوك.

وقد كان إبراهيم والمؤمنون معه على هذا الغرار، وإذا كان إبراهيم عليه السلام قد لاين أباه يوماً وقال له:[ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللهِ مِنْ شَيْءٍ] {الممتحنة:4}.فذلك اللين ليس مهادنة للضلال ولا ضعفاً في الإحساس بحق الله، كلا... [وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ للهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ] {التوبة:114}.

وهكذا تقطعت أغلى الصلات إيثاراً لحق الله تعالى.

إن حق الله على عبده لا يرجحه شيء في الأولين ولا في الآخرين، والاستهانة به هلاك مبين.

هل هذا التجهم الشديد ضد الضلال والضالين يرجع إلى غلظة طمع أو شراسة خلق! لا...لا...

إننا في شوق إلى سيادة السلام، وامتداد عواطف الحب إلى كل قلب، والأمر بيننا وبين خصومنا واضح مستقيم، فمن حاسننا حاسناه، وكنا أسرع إليه بالود والرحمة.

ولكن كيف نلين م من استباح كرامتنا، ونشد اساءتنا واهانتنا، وأخرجنا من ديارنا وأموالنا، إن مصادقة من يفعل ذلك بنا نذالة وخسة لا يهبط إليها مؤمن..

قال تعالى:[لَا يَنْهَاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ المُقْسِطِينَ إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ] {الممتحنة:8-9}.

والظلم هنا الهوان، وقبول الدنيَّة، والاستكانة إلى الضيم، والرضا بحياة الفسوق والمروق، والعيش في كنف الفاسقين المارقين، هذا صدر السورة الذي استغرق نصفها، ونزل في السنة الثامنة من الهجرة، أما وسطها الذي نزل من قبل، فهو يعود بنا إلى نص في معاهدة الحديبية يقضي بأن يرد المسلمون عن المدينة من لحق بهم مؤمناً من أهل مكة، وإن كان أهل مكة يقبلون من لحق بهم مرتداً...!!

ومع أن الأيام أثبتت جدوى هذا النص على المؤمنين، إلا أن القرآن الكريم استثنى النساء ابتداءً من تطبيقه وأمر المؤمنين أن يمتحنوا المؤمنات الفارات بدينهم فإذا علموا منهن صدق الاعتقاد وشرف الغاية فبلوهن في المجتمع الإسلامي فوراً...

إن هؤلاء النسوة المهاجرات التاركات لأزواج كافرين يجب أن نرحب بهن وأن نقدم تحية إكبار للعاطفة التي خرجت بهم إلى دار الإيمان لقد كرهن رجالهن وفارقنهم لله، فلا ينبغي أن يعدن لهم.

قال تعالى:[ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الكُفَّارِ لَا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ] {الممتحنة:10}.

وإتماماً لإقامة المجتمع على احترام الدين، وإعزاز مشاعر الحب والبغض لله صدر الأمر بتسريح الزوجات الكافرات: [وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الكَوَافِرِ] {الممتحنة:10}.

إن قبول هؤلاء النساء المؤمنات ومفارقة الكافرات تشريع متكامل وحكمته واضحة.

وقد نفذت معاهدة الحديبية بالنسبة إلى الرجال الذين مال بثوا أن نظموا حرب العصابات ضد أهل مكة حتى اضطروهم إلى أني طلبوا من الرسول صلى الله عليه وسلم قبولهم في المدينة!!

ونصل إلى آخر السورة لنقرأ بيعة النساء، كان ذلك بعد فتح مكة واستسلام أهلها لكتائب الرحمن.

إن أولئك الناس طالما آذوا الله ورسوله، وها هي ذي هند المرأة التي أكلت كبد حمزة رضي الله عنه قد أعلنت دخولها في الإسلام، فماذا يصنع معها!؟

لا شيء!! ننسى الماضي، ونغفر الأخطاء ونعلمها وصاحباتها كيف يتأدبن بآداب الإسلام: ثم يصبحن بعد إخواننا:[يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ المُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَنْ لَا يُشْرِكْنَ بِاللهِ شَيْئًا وَلَا يَسْرِقْنَ وَلَا يَزْنِينَ وَلَا يَقْتُلْنَ أَوْلَادَهُنَّ وَلَا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلَا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبَايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللهَ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ] {الممتحنة:12}.نعم، إن الله غفور رحيم، فلننس الماضي، ولنتحاب في الله.

لقد كان القرآن في هذه السورة يرقب متاب هؤلاء وعودتهن إلى الصواب وإقلاعهن عن إيلام المؤمنين، قال تعالى:[عَسَى اللهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً وَاللهُ قَدِيرٌ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ] {الممتحنة:7}.

إن في العالم الآن طوفاناً نجساً من التعصب ضد الإسلام وأمته... وأمامي وأنا أكتب هذه السطور أبناء الدم المراقة، والأشلاء الممزعة للمسلمين المستضعفين في كل مكان وما قصة الإسلام الذبيح في القلبين إلا نموذج مكرر لأقطار أخرى من الأرض أهين فيها الدين واستبيح حماه، وشرد أهلوه، وأكلت حقوقهم!!

بل إن المسلمين ـ حيث يكونون كثرة في بلاد أخرى ـ تجرأ عليهم كل ذي ملة وتطلع إلى ما لم يكن يحلم به في يوم من الأيام!!.

ألا نتعلم التعصب للشرف والعرض والأرض في هذه الظروف العصبية لعلنا... لعلنا.

فإذا تحقق ما نصبو إليه فلله الحمد نحن ما نسعى إلى قتال ولا نشتاق إلى سفك دم.

لكن إذا فرض علينا القتال فإن الذرة من التهاون في كراهية المعتدين جريمة.

يجب أن ندخل المعركة بكل ما لدينا من غضب وقسوة وصرامة

وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم.

المصدر: مجلة لواء الإسلام، العدد الثالث، السنة السادسة والعشرون، ذو القعدة 1391هـ الموافق يناير 1972

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين