ما يلاقيه العلماء  من المكاره

شأن علماء الشريعة أن يكونوا حفَّاظاً على خزائن الدين ، لا يبالون بما يلاقونه في حفظها من الأذى ، كالسجن ، وضرب السياط ، والقتل ، والإخراج من البلد الذي استقر أمره فيه ، والعزل من الوظيفة.

 

لكن منهم من يتوهم الأذى من قوي لا يهتم بأمر الشريعة ، فلا يبالي أن يؤثر رضا المخلوق على رضا الخالق ، ويقبض يده عن حفظها ، بل من هذه الطائفة فريق ينكر حقائق الشريعة ، ويتأمل القرآن والحديث النبوي على ما يشتهي ، وقد وجد أعداء الإسلام من هؤلاء مساعدين على إنشاء جمعيات لتفريق كلمة المسلمين كالبهائية والقاديانية وغيرهما.

 

ولكن القرآن الكريم وسيرة العلماء الذين خدموا الدين بإخلاص قد أبقيا على الإسلام رونقه ، ولم يستطع أولئك الغربان أن يدخلوا فيه فساداً يعسر علاجه وإن كثر عددهم ، وإن الحق المبين في جانب الفريق الذي قام على حفظ خزائن الشريعة.

 

فسعيد بن جبير لما ظفر به الحجاج قتله لأنه بايع  ابن الأشعث ، ودارت بين الحجاج وسعيد مناظرات عند قتله تدل على أن سعيداً يخشى الله ولا يهاب الموت.

 

وسعيد بن المسيب أحد الفقهاء السبعة ضربه أمير المدينة أسواطاً بإذن عبد الملك ابن مروان حين لم يبايعه ، وعرضت على ابن المسيب وجوه تقيه الضرب بالسياط لو فعلها ، ولكنه امتنع ورأى راحة نفسه في التمسك بما يراه حقاً.

 

والإمام أبو حنيفة طلب لولاية القضاء في بغداد والكوفة ، فامتنع ورعاً وزهداً ، فضرب أسواطاً ولم يقبل القضاء.

 

والإمام مالك أفتى بعدم لزوم يمين المكره ، والمبايعة تتضمن يميناً ، ولما أمره الأمير بالرجوع أبى ، فضربه أسواطاً ، وازداد رفعة بين الناس .

 

ودخل سفيان الثوري على الخليفة المهدي ووعظه بعظات بالغة ، فقال المهدي : اكتبوا عهداً بولاية القضاء في الكوفة لسفيان الثوري ، فكتبوه وأخذه ولما خرج رمى العهد في نهر الفرات واختفى ، ولم يروا له أثراً حتى تولى قضاء الكوفة شريك النخعي.

 

وعلماء الشريعة قد يتورعون عن ولاية القضاء لأن القضاء معرفة الأحكام وتطبيقها على الوقائع الخاصة ، وقد يقع الخطأ في التطبيق ، بخلاف الفتوى ، فإنها الإخبار عن الأحكام الشرعية ، وأما تطبيقها على الوقائع الخاصة فيحتاج إلى فهم آخر ، ومن أجل ذلك امتنع الشيخ إبراهيم الرياحي التونسي من ولاية القضاء وفر إلى زغوان ، و ولى بعد ذلك الفتوى فقبلها.

 

وانظر سيرة أحمد بن حنبل إذ امتنع من القول بخلق القرآن فسجن وضرب بالأسواط ، وهو مصرٌ على القول بأن القرآن قديم.

 

وكذلك البويطي صاحب الإمام الشافعي حمل من مصر إلى بغداد ، وأمر بأن يقول القرآن مخلوق ، فأبى وسلك طريق أحمد بن حنبل ، فضرب وسجن ومات في السجن.

 

وسُجن عالم تلمسان الشيخ ابن مرزوق لأن سلطان تلمسان خطب ابنة أمير تونس فامتنعت البنت واختفت ، فاتهم ابن مرزوق أنه عالم بالمكان الذي اختفت فيه.

 

وسجن ابن خلدون في عهد أبي عنان بفاس ، وعلَّل لسان الدين بن الخطيب ذلك السجن ببعده عن حسن التأني ، واعتزازه بفهمه ، وجودة إدراكه.

 

وسجن إبراهيم أبو علاّق ، حيث خاطب أمير تونس ، وكان وزيره خازن دار حاضراً ، بقوله :

 

باشر بنفسك أمر الملك سيدنا=فإن توكيل بعض الناس تهميل

 

ففهم الوزير أنه المقصود بهذا البيت ، وسجنه  مدة ثم أطلقه .

 

والسجن محنة وبلاء للإنسان .

 

وروى لنا أستاذنا أبو حاجب أن وزيراً قال للملك : لا أرى السجن تعذيباً لأحد فإن الإنسان يجلس في مكان و يأتيه أكله وشربه إلى أن يخرج من السجن.

 

فقال الملك للسجَّان : هيء مكاناً لفلان وأعطه ما يطلبه ، وقال للوزير : هناك مكان في الحبس تقيم فيه ، وانظر أفي الحبس تعذيب أم لا ، فقال نعم ، فجلس في الحبس بعض يوم ، وصادف أن اجتمع برجل لا يفهم ما يقال له ، فقال للسجان : قل للأمير قد عرفت في هذا اليوم مقدار عذاب السجن ، فأمر بإطلاقه.

 

وعذاب الحبس من جهتين : من جهة أنه يصاحب الإنسان فيه من لا يلائم ثقافته وأخلاقه وذوقه ، ومن جهة أنه يبعد الإنسان عن الحرية حيث يمنعه من التقلب في الأماكن التي يريدها.

 

وأذكر بهذه المناسبة أني قلت حين دخلت إلى المحجر الصحي بلبنا ، وهي بلدة المريجات:

 

بين المُريجات ما تحلو مناظره=للعين لكن نفسي سامها ضجر

والنفس تضجر من دار المقام على=رغم وإن كان من سُمَّارها القمر

 

وقد يؤذَى العالم بالنفي من البلد الذي نشأ فيه أو استقر به حاله ، كما نفى ابن حزم من قرطبة إلى قرية خارجها ، ونفي القاضي الحفيد ابن رشد إلى مراكش ، وأحرقت كتبهما ، وحب البلد الذي نشأ فيه الإنسان واستقر به أمر طبيعي ، كما قال ابن خميس حين بعد عن تلمسان متشوقاً إليها :

 

تلمسان لو أن الزمان بها يسخو=مُنى النفس لا دار السلام ولا الكرخ

 

وقال ابن الرومي:

 

وحببَّ أوطان الرجال إليهمو=مآرب قضاها الشباب هنالكا

 

وقد يعاقب العالم بالعزل من وظيفته ، بناء على أن العزة والرفعة بين الناس إنما نالها بالوظيفة ،، وحكى لنا أستاذنا أبو حاجب أن عالماً من العلماء أنكر على أمير بعض المظالم ، فقال له : قد عزلتك من الفتوى والإمام والتدريس بالمسجد الفلاني! فقال له العالم : عنديي وظيفة أخرى ، لا تستطيع أن عزلني منها ، وهي مقامي العلمي ، لا تستطيع أنت ولا غيرك أن يعزلني منه ، وهو الذي يهمني.

 

وقد يهدد العالم إذا لم يُفت بما طُلب منه ، ولا يتخلص من التهديد إلا أن يذكر للفتوى ضرراً يعود على المُستفتي ، و اذكر لهذا مثالاً : أن بعض الأمراء أمر المفتي بأن يفتي على وجه يخالف الشرع ، فامتنع المفتي من الإفتاء ، فهدده الأمير بوعيد شديد ، فقال له المفتي : إن بلاد الإسلام عامرة بعلماء الشريعة ، فيقولون : إن الأمير فلاناً ولى في مصر مفتياً جاهلاً بشريعة الإسلام! ولما علم الأمير أن في تهديده ضرراً خاصاً يتعلق به ، عدل عن الاستفتاء.

 

وقد يخرج العالم من البلد إذا عرف أن البلد سيقع في يد من لا يرعى للإسلام حرمة ولا يؤمن به ، كما خرج أبو عبد الله ابن الأزرق من غرناطة إلى تلمسان حيث استطال على غرناطة عدو لها ، والعلامات تدل على أنه سيأخذها لا محالة.

 

وقد يضيق على العالم أمر العيش فينتقل إلى بلد يكون العيش فيه أوسع ، كما ذكر المؤرخون أن القاضي عبد الوهاب بن نصر خرج من بغداد لضيق عيشه فيها ، ونزل في مصر ، فلقي من أهلها احتفاء ، وتولى القضاء بها إلى أن توفي ، ودفن بالقرافة.

 

وقد يتنكر أمير البلد للعالم فيترك العالم البلد الذي تنكر أميره إلى بلد آخر لا تمتد إليه سطوته ، كما  وقع لابن خلدون حين تنكر له أمير تونس ، فرحل إلى مصر وعاش بها إلى أن توفي ، ودفن بمقابر الصوفية المسماة الآن بابَ النصر.

 

وقد يصدر من ولي الأمر شيء مخالف للدين ، ويتعذر على العالم كفُّه فيغادر العالم بلده إلى بلد آخر ، كما وقع لعز الدين بن عبد السلام ، فحين  أعطى الأمير مدينة صفَد للإفرنج ، فغضب العز ، وترك الدعاء له في خطبته ، ورحل إلى مصر ، وتولى القضاء بها ، وارتفع شأنه ، وبقي بها إلى أن توفي عزيزاً مكرماً .

 

والعلماء يقيسون رقي الاجتماع بالموافقة للدين ، و التمسك بأحكامه .

 

وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم.

 

المصدر : مجلة لواء الإسلام العدد التاسع السنة التاسعة جمادى الأولى 1375هـ ديسمبر 1955م.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين