ما هي السماء ؟

للأستاذ : علي الطنطاوي

"الوعي الإسلامي" يكتب فيها - بحمد الله - فريق من جلة العلماء ، ويقرأها جمهرة من خيرة القراء... لذلك رأيت أن أعرض فيها رأياً في السماء، لتقيم من أوده تعلقيات العلماء.
ولقد ذكرته في بعض ما كتبت استطراداً أو تلميحاً. و أذكره اليوم تفصيلاً وتصريحاً، بعد أن كثر الكلام عن وصول الإنسان إلى القمر. وكثر السؤال عن القمر، وكيف يمكن الوصول إليه وهو في السماء؟.
وموضوع المقال ( ما هي السماء)؟
عندنا نصوص ثابتة في الدين، وعندنا أقوال مقررة في العلم.
أما الثابت في الدين: فهو أن السماء ليست حدوداً وهمية، ولا مدارات كواكب، كما ذهب إلى ذلك بعض العصريين من المفسرين، ولكن السماء (جرم) حقيقي، لأن الله سمَّاها (بناء)، وقال [وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعًا شِدَادًا{النَّبأ:12}. [وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا{الشمس:5}.
ووصفها بأنها سقف لهذا العالم، فقال:[وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفًا مَحْفُوظًا{الأنبياء:32}.، وقال: [وَالسَّقْفِ المَرْفُوعِ{الطُّور:5}.
وجعل لها أبواباً تفتح وتغلق، فقال: [فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ{القمر:11}. [لَا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ{الأعراف:40}.ونفى أن يكون فيها منافذ غير هذه الأبواب، فقال:[ وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ{ق:6}.
وأن السماء تفتح يوم القيامة:[وَفُتِحَتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ أَبْوَابًا{النَّبأ:19}. وأنها تشقق: [فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهَانِ]{الرَّحمن:37}.وتنفطر وتكشط .
ولها بروج:[وَالسَّمَاءِ ذَاتِ البُرُوجِ{البروج:1}.[ جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا{الفرقان:61}.
وأما المقرر في العلم: فهو أن الشمس والقمر، يسبحان في الفضاء، وهذا شيء صرح به القرآن الكريم فقال:[ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ]{يس:40}. وأن الشمس على بعدها عنا وكبرها بالنسبة إلى أرضنا يصل نورها إلينا في نحو ثمان دقائق، لأن النور يقطع في مسيره ثلاثمئة ألف كيلو متر في الثانية أي: أنها تبعد عنا بالزمن الضوئي (ثمان دقائق).
وأن من هذه الكواكب التي تظهر لنا نقطة في الفضاء، في الليلة السوداء، وقد لا تظهر لنا أبداً، منها ما يبعد عنا ألف ألف (أي: مليوناً ) من السنين بالزمن الضوئيّ، ومنها ما يبعد عنا ألف مليون سنة وأكثر...
فاحسبوا كم (ثمان دقائق ) في هذه المدة التي تبلغ ( ألف مليون سنة) لتتصوَّروا كم هي أبعد من الشمس!
أما كبرها، فنحن نعلم أن القمر أصغر من أرضنا، والأرض لا تعدُّ شيئاً إلى جنْب الشمس. والشمس وما يتبعها من سيارات، لو ألقيت هي وسياراتها في كوكب من هذه الكواكب، لكانت بالنسبة إليه  كحبة رمل ألقيت في وادي نجد، أو كقطرة ماء قطرت في البحر المحيط.
وهذه الكواكب، على ضخامتها، كثيرة لا تحصى، يزيد عددها على ملايين الملايين، وتسير بسرعة مهولة، ومع ذلك لا تصطدم إلا إذا اصطدمت ست نحلات تطير وحدها حول الأرض، لأن هذا الفضاء واسع واسع كسعة جو الأرض بالنسبة إلى النحلات.
هذا ما يقوله علماء الفلك.
فأين مكان السماء من هذا الفضاء؟
إن الله عزَّ وجل بعد أن وصف السماء بأنها بناء، وأنها سقف مرفوع، أكمل الصورة فجعل لهذا السقف مصابيح فقال: [وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ{فصِّلت:12}.
وصرح بأن هذه المصابيح هي الكواكب، فقال[إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الكَوَاكِبِ{الصَّفات:6}.
 وصرح بأن هذه المصابيح هي الكواكب، فقال: [بِزِينَةٍ الكَوَاكِبِ{الصَّفات:6}. فدلَّ ذلك على أن الكواكب تحت السماء الدنيا، لأن المصابيح لا تكون إلا تحت السقف.
أما آية:[وَجَعَلَ القَمَرَ فِيهِنَّ ـ أي في السموات ـ نُورًا{نوح:16}. فلا يدلُّ على غير ما قلت، لأن القمر إذا كان في السماء الدنيا، فهو في السماوات كما لو كانت جوهرة في علبة، وهذه العلبة في علبة أخرى، والثانية في الثالثة، فقلت إن في هذه العلب جوهرة، والآيتان الأوليان أصرح. ولا يترك الدليل القطعي لدليل محتمل ـ قالوا: الدليل إذا تطرق إليه الاحتمال امتنع به الاستدلال ـ.
والذي تبيَّن لي من هذا كله، من نصوص الدين... ومن مقررات علماء الفلك..
أن الشمس وتوابعها ـ وهن الأرض وأخواتها ـ وهذه الكواكب التي لا يحصى عددها تسبح في فضاء عظيم، وهذا الفضاء تحيط به كله كرة هائلة، وهذه الكرة هي السماء الدنيا، وهذا العالم بأرضه وشمسه وكواكبه في وسطها.
ولهذه الكرة سمك الله أعلم بمقداره، قال تعالى:[رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا{النَّازعات:28}. وهي في فضاء لعله مثل هذا الفضاء، أو أصغر أو أكبر، وحوله كرة أخرى ـ لها سمك ـ هي السماء الثانية ـ ثم فضاء ثم كرة ـ وهكذا إلى السماء السابعة.
وبغير هذه الصورة لا تكون السماوات (طباقاً).
وخارج الكرة الكبرى التي هي السماء السابعة، أجرام أكبر، أجرام لا يستطيع  العقل مهما جهد وكدّ، أن يتصور مدى كبرها، هي: (الكرسي والعرش)، و (سدرة المنتهى)...
هذه كلها عظمة المخلوق، فما بالك بعظمة الخالق !!...
وإذا نحن وصلنا إلى القمر، والمريخ، بل والشمس فأين القمر والمشترى والشمس من السماء؟!...
إذا كان بعد الشمس عنا، كبعد إبهامك عن خنصرك، تكون السماء أبعد عنك من أمريكا، بملايين الملايين من المرات...
وإذا كان علماء الفلك يقولون، بأن من الكواكب ما يسير ضوؤه في الفضاء من أول الزمان ولم يصل إلينا إلى الآن!..
فمعنى ذلك ، أننا لو اخترعنا مركبة فضائية تسير بسرعة الضوء، أي: أنها تقطع ثلاثمائة ألف كيلو متر في الثانية الواحدة، وأننا لو ركبنا فيها يوم ولد نوح عليه السلام، وسرنا من ذلك الوقت إلى اليوم لا نكون قد قطعنا من طريق السماء (الدنيا...) إلا كما تقطع النملة التي تمشي دقيقة واحدة من طريق (الكويت ـ أمريكا)!!!
وأنا حين أنتهي إلى هذه الصورة ، وأرى أن عالمنا كله، بكواكبه وفضائه (محبوس) في وسط الكرة الصغرى التي هي (السماء الدنيا)، أجد ذهني ينتقل إلى الجنين ( المحبوس) في بطن أمه.
هذا الجنين لو استطعت أن تسأله واستطاع أن يجيبك، وقلت له: ما هي الدنيا؟ لقال لك: الدنيا هي هذا البطن، وهذه الأغشية..
فلو خبرته، أن ها هنا (دنيا) أكبر. عالماً فيه بر وبحر، وسهل وجبل، ومدن كبار، وأن داراً واحداً من دور هذه المدن أكبر من دنياه هو بملايين المرات..
لم يستطع أن يفهم ما تقول أو أن يتصوره، وكذلك نحن حين نسمع أن الجنة عرضها السماوات والأرض، وأن قصراً واحداً من قصورها، أكبر من هذه الأرض كلها...
إن نسبة ملك الله تعالى إلى هذا الفضاء الذي فيه الكواكب والنجوم، كنسبة هذا الفضاء إلى بطن الأم...
وهذا العالم البالغ الضخامة، موجود مثله على صورة بالغة الصغر... موجود في (الذرة )، الذرة التي لا تراها عين الإنسان ولا بالمجهر (الالكتروني)، فيها فضاء كهذا الفضاء، وكواكب مثل هذي الكواكب، تسبح فيه، ويدور بعضها على بعض، بنظام مقرر وقدر معلوم.
فسبحان الله، لا إله إلا هو، وما أحمق من لا يؤمن بالله!
وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم.
المصدر: مجلة الوعي الإسلامي محرم 1387هـ العدد 25.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين