ما هو الإيمان؟

 

الإيمان: معرفةٌ بلغتْ حدَّ اليقين، أو هو علم يصحبه الجزم والقطع. فإذا قلت: أنا أؤمن بوجود القاهرة فمعنى ذلك أمران: أحدهما عقلي، هو أنك تعرف وجود هذا البلد، والآخر قلبي، وهو أنَّ علمك لا ريبة فيه ولا تردُّد، بل مقرون بالتصديق التام.

 والإيمان بالله ـ جل شأنه ـ ينطوي على الأمرين جميعاً، النظري والنفسي. فإذا قلت: أنا أؤمن بالله فمعنى ذلك أنَّك تعرفه، وأنَّ معرفتك له لا تلتبس بشك أو تردُّد. بل إنَّ فؤادك مُلئ بالتصديق لقضية هذا الوجود الأعلى. وبديهي أن تتفاوت حقائق الإيمان في النفوس بتفاوت المعرفة ضيقاً وسعة، وتفاوت التصديق عُمقاً وقُرباً.

 فهناك عارفون بالله معرفةً صافية الرونق، مجلوة الأفق، شديدة التألق كأنها معرفة دراسة وخبرة: [الرَّحْمَنُ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا] {الفرقان:59}. وهناك معرفة دون ذلك. وهناك أصحاب قلوب مُفعمة باليقين، راسخة الثقة، تمرُّ بها العواصف كما تمرُّ الرياح بشماريخ الذرى لا تزحزها عن الحق قيد أُنملة. وهناك يقين دون ذلك. على أنَّ الإيمان إذا كان معرفةً وتصديقاً فإن هذه المعرفة يجب أولاً أن تتَّسم بالصحَّة، وإلا فلا قيمة لتصديق لُبابُه الخطأ؛ فإنَّ من البشر أجيالاً لا تعرف الله، ومنهم من يعرفه على وجه حافل بالأغلاط والترَّهَات.

والفريق الأول: يُنكر أصل الألوهيَّة كالشيوعيين والوجوديين وأضرابهم من الملحدين.

 والفريق الثاني: يعترف بالألوهية ولكنه يتصوَّرها تصوراً مُخالفاً للواقع، وينسب إليها ما لا يَليق بها، كجماهير المشركين على اختلاف مِلَلهم، سواء فيهم عَبَدة الأصنام؟ أو الزائغون عن الحق من أهل الكتب الأولى. والإيمان عندنا يجعل العلم الصحيح بالله روح التصديق المقبول. وقد امتلأ القرآن الكريم بالآيات التي تُعرِّف الله لعباده تعريفاً يَنفى عن أذهانهم صور الضلال والانحراف، ويقرُّ الحقَّ في نصابه، خذ هذه الآية: 

[اللهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الحَيُّ القَيُّومُ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ العَلِيُّ العَظِيمُ] {البقرة:255}.

هذه الآية تُعرف بين المسلمين بآية الكرسي، وقد نوَّهت السُّنَّة النبويَّة بفضلها ومكانتها، وتتكوَّن من عشر جمل مُتصلة المعنى في الحديث عن ذات الله وصفاته:

1- [اللهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ ......]: ليس في الوجود أحد يَتجاوز مرتبة العبودية، فكلُّ ما عدا الله عبد له، وهو وحدَه المتفرِّد بالألوهيَّة في السموات والأرض، من قال عن نفسه إنه إله فهو كاذب، ومن قال عنه الناس ذلك فهم عليه كذبة، وقد تمر بالناس أعصار يتَّخذون فيها بعض الجمادات والدواب آلهة، وهذه أعصار الانحطاط الذهني والنفسي التي نرجو أن يتم خلاص البشر جميعاً منها، ولكن الضلال الشائع إلى اليوم اتخاذ بعض البشر الطيبين آلهة مع الله بحجة أنهم انبثقوا منه أو أنه حالٌّ فيهم.

 وقد حارب الإسلام هذه الضلَّة حرباً شديدة، وأكَّد أنَّ البشر مُستحيل أن يرتفعوا إلى مصافِّ الآلهة، وأنَّ الله العلي الكبير لا يمكن أن يَهبط إلى منازل البشر. إنَّه الإله الذي خلق غيره، ومنحه الحياة، وقام على أمره من المهد إلى اللحد: [وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آَلِهَةً لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلَا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا وَلَا يَمْلِكُونَ مَوْتًا وَلَا حَيَاةً وَلَا نُشُورًا] {الفرقان:3}.

ورسول الإسلام ـ وهو قمة البشرية ـ عندما يدعو الله يؤكد هذه الحقيقة: (اللَّهُمَّ إِنِّي عَبْدُكَ، وَابْنُ عَبْدِكَ، وَابْنُ أَمَتِكَ، نَاصِيَتِي بِيَدِكَ، مَاضٍ فِيَّ حُكْمُكَ، عَدْلٌ فِيَّ قَضَاؤُكَ،...) [أخرجه أحمد وأبو يعلى والطبراني والبزَّار].

 2- [الحَيُّ القَيُّومُ ...]: والأحياء من الخلق ليس لهم من أنفسهم ما يوجب الحياة، إنَّ الحياة عرضٌ مُفاض عليهم من خارج أنفسهم. وهو عَرَضٌ يفارقهم يوما ولا يعود إليهم إلا وفق مشيئة مُفيضه جلَّ شأنه، الحي الذي لا بداية لحياته ولا نهاية، فحياته وصف مُلازم له أزلاً وأبداً، وذلكم الفارق بين حياة الخالق والمخلوق؛ ومن ثَمَّ يقول الله لنبيه: [إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ] {الزُّمر:30}. أما المتفرد بالحياة العظمى فهو الله.

 ولما كانت هذه الحياة وضَّاحة نفَّاحة ناسب أن يجيء عقبها وصف القيوم، أي: الذي يمدُّ الأكوان والخلائق كافة بحركاتها وسكناتها، ويشرف إشراف إحاطة وهيمنة على شؤونها وأحوالها فهي أحوج ما تكون إليه وهو أغنى ما يكون عنها.

 وقد ورد في الآيات والآثار أنَّ الله قائم على كل نفس بما كسبت، وأنَّه القيم على السموات والأرض ومن فيهن. والقائم على الشيء، والقيم عليه أو القَوَّام عليه، ألفاظ تتفاوت في الكشف عن هذه الإحاطة الشاملة لفنون التصريف وألوان السيطرة على العالم.

 ولكن لفظ القيوم جاء على هذه الصيغة في المبالغة إشارةً إلى أنَّه من المستحيل أن يفلت زمام الأمور من الخالق، أو أن تسير في وجهة غير ما قَضَى، إذ كل شيء يَستند في وجوده وبقائه وتقلُّبه إلى هذا الوجود الأعلى: {إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ أَنْ تَزُولا وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا}.

 وهذه الجملة ـ الحي القيوم ـ أولى الجمل التسع التي ترادفت أشبه بالاستدلال على الوحدانية المتقرِّرة في الجملة الأولى من آية الكرسي؛ إذ هذه الأوصاف تنفي الشركة نفيا حاسما، وتشهد للبارئ الفرد أنه لا إله غيره.

 3- [لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ]: السِّنَة ما يخالط الأجفان من أوائل النُّعاس، والنوم هو الاستغراق التام، والمراد: أننا نحن البشر تدركنا ساعات غَفلة نفقد فيها الشعور بأنفسنا وما حولنا، بل نحن في إبَّان اليقظة يختلف انتباهنا ونشاطنا الذهني نحو ما نفكِّر فيه وما يحيط بنا، وعند الكلال يضعف هذا الانتباه، وتهن العزيمة، وتكثر الأخطاء، لكن رب العالمين لا يَشْغَلُه شأن عن شأن ولا يغفل عن أمرٍ في السماء لاهتمامه بأمر في الأرض، ولا تلحقه عوارضُ الوهن والإعياء، ولا تنفكُّ قبضته الواعية عن ذرَّة في العَرْش أو الفَرْش لسهو أو إغفاء.

 4- [لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ]: الله واسع الملك، وما تقول في غنى يشمل آفاق السموات وفجاج الأرض؟ إنَّ العالم كله، علوه وسفله، ملك لله وحده. والذين يَظنُّهم الجاهلون شركاء لله، ليس لهم في هذا العالم ذرَّة، إن كانوا أصناما فما هي الأصنام؟ تماثيل نحتها المصورون فهم في الحقيقة يملكونها ولا تملكهم، وإن كانوا بشراً، فهؤلاء البشر ملكٌ لمن صوَّرهم في الأرحام، وجعل صدورهم تهبط وتعلو بالشهيق والزفير، ولو شاء أن يوقف دقَّات قلوبهم في أية لحظة من ليل أو نهار ما ردَّه راد.

 إن هناك مُلاَّكاً على المجاز يضعون أيديهم على بعض التراب ليرتفقوه حيناً، وربما طَغَوا بما يملكون ظاهراً، ثم يجيئهم الموت فيَدَعون الحياةَ صفرَ الأيدي، يدعونها لمالكها الحقّ الذي له ميراث السماوات والأرض: [وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ] {0:94}.

 5- [مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ]: القاعدة العامة في الإسلام أنَّه لا شفاعة لمشرك، أو ملحد. وأنَّه لا حقَّ لأحد من الملائكة أو المرسلين يذهب به إلى الله ليقول له اعفُ عن فلان، أو اترك فلاناً، وأنَّ الأساس الأول للنجاة هو الإيمان والعمل الصالح، ولذلك قال الله تعالى قبل هذه الآية مُباشرة: [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خُلَّةٌ وَلَا شَفَاعَةٌ وَالكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ] {البقرة:254}. ويقول مخبراً عن مَصاير المشركين والمجرمين: [إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللهُ عَلَيْهِ الجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ] {المائدة:72}. ويقول أيضا: [وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَى حِمْلِهَا لَا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى] {فاطر:18}. 

 وقد يقع ـ لمن ينجون بأعمالهم ـ شيء من الفضل ترتفع به درجاتهم فوق ما يستحقون. أو يقع ـ لمن قاربوا ولم يصلوا ـ شيء من العفو ينجحون به ولا يرسبون، ويجعل الله السبب الظاهر في ذلك شفاعة المرسلين أو الصالحين. وهي شفاعة لا ترجع إلى أنَّ هؤلاء المرسلين أو الصالحين يجيرون على الله، أو ينقذون منه من يريد عقوبته، كلا، فما يجرؤ مَلَكٌ ولا نبي على أن يَقف من الله هذا الموقف، إنهم لا يشفعون إلا بإذنه، ولا يشفعون إلا لمن ارتضى، قال تعالى: [لَا يَسْبِقُونَهُ بِالقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ] {الأنبياء:27-28}. [يَوْمَئِذٍ لَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا] {طه:109}.

وربما قال قائل: ولمَ هذه الشفاعة وما قيمتها؟ والجواب أنَّها لا تعدو لوناً من إكرام الله في الدار الآخرة لمن أهينوا بسببه في الدنيا، فيريد الله أن يصلح بالهم وأن يُعلي قَدرَهم، وأن يُشعر عباده بما لهم عنده من مَثوبة ومَنزلة، وأن يطوي قلوب المقصِّرين والمتأخِّرين على محبتهم وإعزازهم لما سِيق إليهم من فضل على أيديهم، بيد أنَّ الشفاعة المذكورة لا تهدم قواعد العدل، ولا تُعطِّل موازين الحساب ولا يحتاجُ إليها سابق بالخير، ولا ينتفع بها مارقٌ من الحق.

 6- [يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ]: ليس يخفى على الله شيء في الأرض ولا في السماء، وعلم الأمس واليوم والغد عنده سواء، كأنَّ العالم منذ خلق، وإلى أنّ تَبَدَّلَ مَعَالمه، صفحة واحدة يستوي فيها القريب والبعيد والأول والآخر. وذلك ـ بداهة ـ لأن الخالق يعلم ما خلق، ولا يتصور أنَّ أحداً صنع من ورائه شيئاً فيكون هوـ سبحانه ـ جاهلاً به.

إنَّ الإبداع ـ وهو إبراز شيء من العدم ـ لا يقدرُ عليه إلا الله، والتغييرات التي تحدثُ في المادَّة ـ وهي محورُ الأعمال البشريَّة ـ لا تتمُّ إلا بأقدار الله، ومن هنا كانت إحاطةُ العلم. ومن هنا كان معنى قولنا: إنَّ الله لا يعلم هذا الشيء، أن هذا الشيء لا وجود له، إذ لو كان موجودا لعلمه حتماً، وهذا معنى الآيات الكريمة: [وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللهَ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ] {يونس:18}.

 ولقد تجول الفكرة في خاطري ـ وكم يحمل تيار الشعور الساري في كيان المرء من خطرات وسوانح ـ فأقول: إنَّ الله يعلم هذه الخطرة المارة، كما تمر السحب بالآفاق. ثم أقول: وعلمه بها منذ أجيال: وأستتلي القول: وهو يعلم من غيري مثل ما يعلم منى!. ومن غيري؟ ألوف مؤلفة تزحم أرجاء العالم، وعلمه يسع هؤلاء في عصرنا، وما قبل عصرنا وما بعد عصرنا!.

وما يملك المرء وهو يُتابع هذا التصور إلا أن يهتف بالآية: [رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الجَحِيمِ] {غافر:7}.

 7- [وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ]: يَنابيع المعرفة تنبجس ابتداءً من مَشيئة الخالق، حتى العلم بما يقع في مجال السمع والبصر، إنَّه لولا ما رُكِّب في الإنسان من عقل مدرك، لماح، ما استطاع أن يفقه مما حوله شيئا، والاطلاع على ما هو أعمق من ذلك موكول إلى مراتب الذكاء الإنساني، وأنصبتنا من هذا الذكاء مقسومة علينا ونحن أجنة في بطون الأمهات.

ومن هنا كان فتح نوافذ قليلة يطلُّ منها العقل البشرى على آفاق من العلم محدودا بما تهيئ المشيئة العليا من أسباب عاديَّة أو غير عاديَّة. ومصادر المعرفة المعتادة مبثوثة في كتاب الكون المفتوح، وفى تجارب الناس مع الحياة العامَّة، ويمكن بالوعي والتأمل والتجربة أن نبلغَ آماداً بعيدة في هذا المضمار دونَ حرجٍ ودون قيد.

أما المعارفُ الغيبيَّة التي مَصدرها الوحي الأعلى، فإنَّ الله قد اصطفى لها رُسُلَه الأولين وقد انتهى هذا المصدر بالرسالة الخاتمة، ولن يحيط أحد بشيء من هذا العلم عن طريق الاتصال بالله أو بملائكته، ومن زعم ذلك فهو كاذب. وقريبٌ من ذلك الإنباء بالغيوب، فإنَّ هذا ليس من العلوم الميسَّرة للخلق حتى تُتاح فرصها للبشر على سواء، ولا مكان لوحي ينزل به بعد انقضاء النبوات، ومن ثَمَّ فلا يُقبل من أحد القول بأنَّه داخل ضمن الإمكان العام في قوله تعالى: [وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ]؛ فإنَّ هذه المشيئة مبينة بما أوضحناه لك آنفا.

8_ [وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ]: المتبادر إلى الأذهان أنَّ السماوات والأرض هما حدود الملك الإلهي، وهذا خطأ، فإنَّهما بعض آثار القدرة العليا فحسب، ولذلك قال في آية أخرى: ([وَمِنْ آَيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَثَّ فِيهِمَا مِنْ دَابَّةٍ] {الشُّورى:29}، وقال: [وَمِنْ آَيَاتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّمَاءُ وَالأَرْضُ بِأَمْرِهِ] {الرُّوم:25} هما من آيات الله، وآيات الله الشاهدة بجلاله لا يُحاط بها، وكرسيه من الرحابة بحيث يسع السماوات والأرض وسائر ما لا نحصي من آيات، ونحن لا ندري ما الكرسي؟ ولا نُكلَّف باكتناه ذلك، وكل ما ندركه من هذه الجملة هو ما توحي به من الإشراف الإلهي العالي على سَائر الخلق، ما نرى منه وما لا نرى، وأن السماوات والأرض ما يستغرقان إلا جُزءاً من الملكوت الواسع الذي اشتملَ عليه هذا الكرسي: [وَاللهُ مِنْ وَرَائِهِمْ مُحِيطٌ] {البروج:20}.

 9- [وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا]: لا يتجشَّم أيَّة مَشَقَّة في ضبط السموات والأرض وتدبيره الأمر بينهما، كما أنَّه لم يتجشَّم أيَّة مشقَّة في الخلق الأول، وهذا ما ذكره في قوله: [وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ] {الذاريات:47}.

أي: أنَّ ذلك البناء شيء هَيِّن إلى جانب ما في وُسعنا، كما يُنفق صاحب القناطير المقنطرة من الذهب والفضة فلوساً قَليلة، فلا يرى أنَّه أعطى شيئاً طائلاً كذلك ـ ولله المثل الأعلى ـ بناء العالم وحفظه، ما يتعب الخالق المدبِّر، ولا يرهقه، لفرط عظمته. والجملة السابقة في وصف الكرسي تشير إلى علو الذات، ولذلك جاءت الجملة الأخيرة.

 10- [وَهُوَ العَلِيُّ العَظِيمُ]: تذييلاً يختم المعاني السابقة بذكر اسمين من أسماء الله الحسنى مناسبين للمقام، مقام العلو والعظمة الواجِبَين لذي الجلال والإكرام.

وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم. 

(من كتاب: الجانب العاطفي من الإسلام، محمد الغزالي)

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين