كنتُ لا أرتاب في كتاباته من قبل.
ولكني منذ مدة وأنا ألاحظ عليه هذه النزعة الناقمة - ولا أقول الناقدة - على الموروث العلمي والفقهي والثقافي الإسلامي.
وهذا تيَّار أصبح اليوم سائدًا وجارفا كما لا يخفى، وأُكرِمُ الأستاذ زهير عن أن يكون ممَّن جُرف.
أجل. تصحيح الثقافة الإسلامية واجب الوقت وكلِّ وقت، ولكن أوجب واجبات التصحيح اليوم هو ترسيخ المسلّمات، وشدُّ المثقفين إلى أسلافهم الأكفاء المؤسِّسين، وإلى قناعاتهم واجتهاداتهم ودقيق فقههم، ثقة منا في استبحارهم في العلم، واستشرافهم المسألة في جميع نصوصها وضوابطها ومحترزاتها والإيرادات عليها.
وثقة منا بدينهم وورعهم وإخلاصهم في تحرِّي الحق، وتجردهم عن المطامع الدنيوية، والأهواء السياسية، وسائر المؤثرات التي قد تحرف العالِم أو القاضي أو الحَكَم عن لزوم الحق.
وإلا فما نفع العلم عند من يَضل على علم.؟!
إن ضعف هذه الثقافة اليوم - أقصد ثقافة الاعتداد بعلم السلف أهل الدين والورع - جعلت كثيرا من المثقفين، فضلا عن عامَّة المسلمين، يَبدون بلا تحصين أمام هجمة الشبهات في هذه الأعصار.
وترى من المثقفين من يسألك:
هل صحيح أن عربية القرآن لا علاقة لها بالعرب كقومية؟
وهل صحيح أن للنساء المؤمنات في الجنة حورًا عينا من الرجال يستمتعن بهم، كما يسمتع الرجال المؤمنون فيها بالحور العين من الإناث؟
وهل صحيح أن ضرب النساء المشروع بضوابطه في قوله تعالى: {... وَٱلَّـٰتِی تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَٱهۡجُرُوهُنَّ فِی ٱلۡمَضَاجِعِ *وَٱضۡرِبُوهُنَّۖ* ...} [سورة النساء 34]
ليس المقصود به الضرب الحسي التأديبي المعروف؟
وهل صحيح أن اليهود والنصارى والمجوس، اليوم ليسوا كفارا، ولا مخلَّدين في النار إن ماتوا على ما هم عليه؟
وهل صحيح أن ملك اليمين في هذا الزمان هو اتفاق بين ذكر وأنثى غير محصنين، يشتري كل واحد منهما الآخر، فيكون كل منهما ملك يمين لصاحبه، وأن ذلك لا يُعد زنى؟.
وهل صحيح أن قُرابة نصف أحاديث البخاري غير صحيحة؟
وهل صحيح أن مصطلح "أهل البيت" اختراع شيعي لم يكن معروفا قبل ذلك؟
وهل صحيح أن الفهم الصحيح لآيات المواريث هو المماثلة بين نصيب أبناء الميت وبناته، والمماثلة بين إخوته وأخواته.
إلى غير ذلك من الباطل الجلي.
وإنما شرب كثير من الناس هذه الشبهات فاحتاروا فيها أو فُتنوا بها، لأنهم سوَّوا بين هذا الزبد الطافي اليوم، وذلك الغيث النافع والذهب الخالص، الذي يمثله الراسخون في العلم ممن لا نَزال عالة على موائدهم.
ولا خيار لنا عن تلك العيلة.
والتسوية بين الزبد والذهب هي ثمرة مقولة: (هم رجال ونحن رجال) هذه المغالطة التي يدعو إلى ترسيخها والتشبع بها الأستاذ زهير سالم، عندما يقول:
*وكذا مقررات ظرفية لعلماء على فضلهم كانوا يفتون أو يقررون لعصورهم في ظروفهم، ومقرَّراتهم لا هي مقدسة ولا معصومة، ألقيت عليها عباءة التقديس والعصمة. واستمرار العلماء المتأخرين في الاستناد على أقوال المتقدمين - مع كل الاحترام والتقدير للمتقدمين والحرص على الاستنارة بأقوالهم - هو نوع من الاستقالة العملية من القيام بالحق وأداء الواجب تجاه الأمة وأجيالها* ..
لا أكاد أصدِّق ما أقرأ.
أيعقل أن الأستاذ زهير سالم يعيب علينا الاستنادَ إلى أقوال المتقدمين؟؟؟!!!
ثم مَنْ هؤلاء المتقدمون الذين يحرضنا الأستاذ زهير سالم على الإعراض عن أقوالهم؟
هل يقصد أصحاب القرن الثالث الهجري، عصر ازدهار تدوين الحديث وفقهه، فنضربَ صفحا عن فقه البخاري في تراجمه، وعن فقه إمام أهل السنة أحمد بن حنبل؟!
أم يقصد أصحاب القرن الثاني، عصر الأئمة الثلاثة المجتهدين السابقين، فنضربَ صفحا عن فقه أبي حنيفة ومالك والشافعي؟
أم يقصد بالعلماء المتقدِّمين الذين يزهِّدنا في أقوالهم، طبقةَ التابعين التي سبقت طبقة الأئمة المجتهدين، والتي نقلت إلى الأمة علم الصحابة الكرام رضي الله عنهم.؟
أم يقصد جيل الصحابة أنفسهم فهم أقدم علماء الأمة، فإن كان الأقدم أجدر بالزهادة فيه، فهم الأجدر بذلك على الإطلاق.
أم أنه يقصد كل هؤلاء؟!
أم أنه لا يقصد إلا من جاء من العلماء بعد القرون الثلاثة المفضلة.؟!
فليحدّد لنا من أين يبدأ الإلغاء؟
وهل يصح أصلا إلغاء حلقة واحدة من سلسلة نَقَلَة العلم والدين، وجُهدُ كل جيل مستند إلى من قبله ضرورة.؟
إنه جهد تراكمي متنام لا يستغني فيه لاحق عن سابق.
إنه بناء ما زال ينمو ويمتد صُعُدا، وكل لبنة فيه تقوم على التي قبلها، لا تستغني عنها، كما لا تستغني عنها التي بعدها.
ثم من يقصد الأستاذ زهير بالشخوص المصنمين الذين يحرضنا على هدمهم في قوله: *أما الشخوص المصنمين "المصنمون" فهدم كل واحد منهم يوازي هدم هبل ...؟!
ذكّرني كلام الأستاذ زهير هذا بما حدثني به في الثمانينيات من القرن الميلادي المنصرم، أحدُ من كانوا من طلبة الجامعة الإسلامية في المدينة المنورة، عن أحد جفاة المتزمتين من منسوبيها آنذاك، حين كتب على سبورة أحد الفصول الدراسية في الجامعة: (الطواغيت الأربعة) كناية عن أئمة مذاهب أهل السنة الأربعة رضي الله عنهم.
لأن ذلك المتزمِّت يرى أن المتمذهبين بمذاهبهم يتخذونهم آلهة من دون الله.
فهم بهذا المعنى عنده طواغيت.
فما أشد غبطة حملة ذلك الفكر الأسود الهدام بكلمة الأستاذ زهير هذه! فإنها تخدُم فكرتهم، قصد ذلك الكاتب أم لم يقصده، فإننا لا ندري من يقصد بالمصنمين الأجدر بالهدم؟!
م إن الأستاذ زهير يشتكي من تراكم مرويات باطلة يصورها على نحو مفزع حين يقول:
تتراكم في عقول أبناء المسلمين منذ أجيال ..
مرويات موضوعة وضعيفة لا تستقيم، وسرديات إسرائيلية ونصرانية وفارسية ويونانية انتشرت على ألسنة الأولين واستقرت في السطور والصدور
وأقول: ومَن الأجدر والأخبر بتنقية التراث العلمي مما علق به، من علمائنا الأقدمين الذين تعيب علينا يا أستاذ زهير، الاستناد إلى أقوالهم؟
أم تريد من طلبة العلم في القرن الخامس عشر الهجري أن يؤسسوا منهجا لنقد المرويات، غير مستند إلى أقوال العلماء المتقدمين.؟!
عجبا والله!
ثم ما هذا التجنّي الكبير في هذه الدعوى العريضة عندما يقول الأستاذ زهير: تتراكم في عقول أبناء المسلمين منذ أجيال..
مرويات موضوعة وضعيفة لا تستقيم، وسرديات إسرائيلية ونصرانية وفارسية ويونانية انتشرت على ألسنة الأولين واستقرت في السطور والصدور.
كلام مبالغ فيه جدا، يُخيّل لقارئه أنه لم يعد في المرويات شيء نقي صحيح، وكأنَّ علماء فن الرواية والجرح والتعديل لم يصنعوا شيئا.
وكأن علماء الدراية ما قدموا لنا إلا خليطا من وثنيات سابقة، وكتب سماوية محرّفة، ونحو ذلك من الباطل.
وأنا أُشهد الله أن الأمر ليس كذلك.
وأَشهد بالله على أنه لا يصح للأستاذ زهير سالم أن يطلق هذا الكلام المرسل، وأن يصوّر الأمر على النحو الذي صوره عليه، والذي يغتبط به جدا الطاعنون على الشريعة، الصادّون عن سبيلها.
كان عليه أن يذكر تلك المرويَّات الإسرائيلية والنصرانية والفارسية واليونانية بأعيانها، وفي مواضيعها ومواضعها من كُتب أهل العلم، ويقيم الدليل على أنها كذلك، وأن أهل العلم لم ينبهوا إليها، ولم يحذروا منها.
فإنه بذلك يكون قد قدّم جهدا علميا مشكورا ونافعا، وبادر بنفسه إلى فعل ما يدعو إليه من تنقية المرويات، وتحرير عقول الجيل من التصورات الفاسدة والممارسات الباطلة المترتبة عليها.
فأما إطلاق هذه التهمة الكبيرة من غير تدليل ولا تمثيل ولو بمثال واحد، فهذا غير مقبول لا في منطق العلم والفكر، ولا منطق الدعوة والإصلاح.
وأخشى أن يكون الأستاذ زهير، إنما هوّل الأمر على هذا النحو تسويغا للخطوة التي بعدها وهي الأخطر.
ألا وهي الدعوة إلى فك الارتباط مع العلماء المتقدمين، مع التقدير والاحترام لهم.
وهي دعوة أصبحت اليوم شائعة ذائعة، يلحُّ عليها كل من يريد أن يُصدّر الزنادقة للاجتهاد والفتوى، فيقدموا لنا دينا جديدا، بتوقيع: محمد شحرور، وأحمد عبده ماهر، وعلي كيالي، ومحمد حبش، وعدنان إبراهيم، وسعد الدين الهلالي، وعدنان الرفاعي...
والذريعة عند هؤلاء جميعا أنهم غير ملزَمين بفهم العلماء الأقدمين للدين.
لهم ظروفهم وعقليتهم، ولنا ظروفنا المختلفة وتفكيرنا المختلف أيضا.
وكأنَّ الحديث عن دنيا متغيرة، لا عن دين راسخ وأحكام ثابتة ثبات الوحي الذي نزل بها.
وهي نفس دعوة الأستاذ زهير في منشوره هذا. غفر الله لنا وله .
انظر رابط مقال الأستاذ زهير سالم تصحيح الثقافة الإسلامية هـــنا
التعليقات
يرجى تسجيل الدخول