ما بين العقل والنقل ـ وظيفة العقل ومكانته من العلم

انتشر مقال للأستاذ محمد أكرم الندوي بعنوان وظيفة العقل، ثم نُشرت بعده تباعا سلسلة من ثلاث مقالات في الرد عليه للأستاذ بلال فيصل البحر. وقد وجدتني أسجل ملاحظات وتعقيبات لم أجد بدّا من التنبيه عليها. فأقول مستعينا بالله تعالى:

أولا: (وظيفة العقل) للأستاذ محمد الندويّ

ركّز الأستاذ محمد أكرم الندويّ في مقالته على تبيان محل غلط الفلاسفة ومن تبعهم من المتكلمين وتسببه في كثرة اختلاف مقالاتهم وتنازعهم بما لا يُسمع بمثله في طائفة من طوائف العلم ولا فئة من فئاته! ولخّص هذا الغلط في أمرين وشرحهما باقتضاب:

1. غلطوا في مصادر العلم. وواضح من كلام الأستاذ الندويّ أنه يقصد العلم الذي هو مصدر للمعرفة ولا يقصد - بالتأكيد - علوم الآلة كعلم النحوِ والمصطلح وأصول الفقه وهي علوم خادمة تمثل صلة الوصل بين العلم المعرفيّ والإنسان المفكر المتعلّم، طوّرها الإنسان ونمّاها من مصادر العلم كالحواسّ والفطرة والوحي ليستنتجها ويحكم بصحّتها.

2. خلطوا ما بين العقل الشخصيّ والعقل العلميّ، فالأول يصدر عن عادة الشخص وميله واتجاهاته وحضارته. أما العقل العلميّ فذلك الذي يستقيها من (الفطرة - الحسّ - الوحي).

ثم بيّن أن مصادر العلم المقصود هي: الفطرة - الحسّ - الوحي. ودلّل على المصدر الأول "أعني الفطرة"وأيّده بالوحي. ثم بيّن منزلة العلم ومكانته ووظيفته بأربع وظائف:

1. حفظ ورصد المعلومات المكتسبة وتوثيق مصادرها

2. الترتيب والتصنيف والتوفيق بين المعلومات

3. تطوير المعلومات وتنميتها ويربط بينها فيستنتج قضية ثالثة

4. اختبار القضيّة وتوثيقها ثم الحكم عليها صحة أو خطأ

ويوخذ على الأستاذ الندويّ غفر الله لنا وله:

- قسوة العبارات التي قد تصدّ القارئ عن قبول ما يكون في الكلام من حق، خاصة أنه في مقام الدعوة والتعليم لا المناظرة. كما أنها سبب في حرمان صاحبها من وصول دعوته إلى أكبر شريحة ممكنة. وما كان الرفق في شيء إلا زانه وما نُزع من شيء إلا شانه.

- تناول العقل ودوره بصياغة توهم تنقيصه وازدراء دوره، وهذا عند التأمّل غير مقصود منه، فبدون العقل يصبح العلم ومصادره كالحبر على ورق تحمله دآبّة. والنقد الموجّه وإن كنا ننتقده متوجّه في حق من يُخرج العقل عن دوره وتخصّصه.

ثانيا: سلسلة (محل العقل من العلم) للأستاذ بلال البحر كتبها نقدا لمقالة الندويّ

لا يمكن أن تخطئ العين جمال المدخل الذي بدأ به الأستاذ بلال ردّه ونقده لمقال الأستاذ الندويّ، ورغم وجود بعض النقد فيما طُرح في المقال الأول من السلسلة ولم يخلُ من بعض التقوّلات؛ إلا أنني أثني على مدخل المقالة الأولى.

شرع الأستاذ بلال في الردّ وركّز في النصف الثاني من مقاله الأول على نقد ابن تيمية رغم أنه لم يكن بحاجة إلى ذلك في معرض رد تقريرات وتأصيلات الأستاذ الندويّ في مقاله. خاصة أن الشيخ الندويّ لم يستشهد بقول ابن تيمية ولا غيره. وكان أقوى للأخ بلال أن يسلك مسلك التأصيل في النقد وتفنيد مقولات المخالف وتقرير المسائل على طريقة المتكلمين كما فعل مخالفه.

وكنت قد ضربت صفحا عن هذه الجزئية المتعلقة بذكر ابن تيمية في المقالة الأولى لجمال المقال وعظيم ما فيه من أدب وتقريرات بغض النظر عن الموقف منها. وكنت أشحذ همتي لمتابعة تأصيلات وتقريرات أكثر في بقية مقالات السلسلة إلا أنني تفاجأت بالمقالة الثانية والثالثة من أوّلها إلى آخرها كانت بمثابة ردود ومحاكمة ولمز بشيخ الإسلام ابن تيمية لم تخلُ من الادعاءات والتقوّلات والأخطاء، رغم أن الردّ كان على سطور يسيرة كتبها الأستاذ الندويّ في تقرير وتأصيل منهج معيّن في موضوع معيّن! وهذا يجعل القارئ يشعر بالخيبة بعد أن امتلأ تفاؤلا في بداية السلسلة.

ملاحظات وتنبيهات وانتقادات لبعض ما جاء في كلام الأستاذ بلال:

وستكون هذه الملاحظات على طريقة الاقتباس والتعليق في الغالب فأقول وبالله التوفيق:

اقتباس:

قال الشيخ بلال:

"فقد أطلق بعض الفضلاء في مقالة له عن العقل، ما يوهم ظاهره إنكار حكم العقل وأن يكون مصدراً للعلم، وأوهم أن اعتقاد هذا من مذاهب المتكلمين والفلاسفة!" اه.

التعليق:

نسبة إنكار حكم العقل للأستاذ الندويّ خطأ، فهذا غير موجود في المقال بل العكس صحيح.

اقتباس:

قال الشيخ بلال:

"ونقل الفاضل عن المتكلمين الإسلاميين بإطلاق غير مرضيّ، ما يشتبه على بعض من لم يمارس مذاهب المتكلمين: أنـهم يقابلون النقل برده إلى حكم العقل، فقال: (أغلب ترجيحات الفلاسفة والمتكلمين وتفضيلاتـهم شرقا وغربا، وقديما وحديثا، من زمرة الاستسلام للأهواء وإعطائها القِياد)." اه

التعليق:

1. كلام (الشيخ الندوي) في مقاله كان عن الفلاسفة وبعض من تبعهم من المتكلمين ولم يعمّم عليهم جميعا. كرر الشيخ بلال هذا في موضعين ثم تمنى لو أن الشيخ الندوي عزاه لبعضهم! فقال: "ولكنه غلط من جهة إطلاقه أن هذا مذهب المتكلمين -أعني إنشاء المحسَّات كما قال- ولو عزاه إلى بعض من تبع الفلسفة الأفلاطونية كباطنية المتصوفة ونحوهم لأصاب." اه. والأستاذ الندوي في صدر مقالته قال: "ليس العقل مصدرا للعلم خلافًا للفلاسفة ومن تبعهم من المتكلمين" اه.

2. لم يقل الأستاذ الندويّ (يقابلون النقل بردّه إلى حكم العقل) فهو أثبت أن العقل يحكم على صحة وخطأ العلوم التي تأتيه (ضمن حدود القدرات التي حباه الله بها)، لكنه ليس مصدرا للعلم عنده؛ وبالتالي فالصحيح أن الأستاذ الندويّ يقرّر أن الفلاسفة (يقابلون علم النقل الذي مصدره الوحي بتقديم ما يعتقدونه علما مصدره العقل والحقيقة أن العقل ليس مصدرا للعلم). وهذا ما نازع الشيخ بلال في وجوده إذ يظهر من مطلع رده أنه ينفي نسبة ذلك إلى الفلاسفة.

3. تحدّث الأستاذ الندويّ بالتفريق بين العقل الشخصيّ والعقل العلميّ، وهذا يعني أنه يثبت حكما للعقل وأن العقل يصدر أحكاما مركبة من خلال اختبار وتنمية المعلومات من المصادر واستنتاج تلك الأحكام. ولكنه - كذلك - بيّن خلط الفلاسفة بين العقل العلميّ والعقل الشخصيّ الناتج عن الهوى وضرب لذلك أمثلة ثم ختمها بالعبارة التي نقدها الشيخ بلال.

اقتباس:

يقول الشيخ بلال:

"لكنه غلط من جهة العبارة، حيث أوهم ظاهر كلامه أن العقل مهدر، وكلامه في ظاهره يشبه مذهب السُّمَّنيَّة من البراهمة القائلين: لا علم إلا ما يدرك بالحواس، وهم طائفة من فرق التجاهلية، الذين جحدوا العقل" اه

التعليق:

1. هناك عبارات قاسية في تقرير عدم كون العقل مصدرا للعلم في كلام الشيخ الندوي. ويختلط على غير المنتبه أن كلامه قد يوهم ما تفضل به الشيخ بلال لكن من وجهة نظري مصدر الإيهام هو عدم الانتباه.

2. لا يكون العقل مهدرا إذا كان الشيخ الندوي يقرر أن العقل قادر على الاختبار والتنمية ثم استنتاج أحكام مركبة أو شئت مطورة من خلال جملة المعلومات.

3. كيف يكون ظاهر كلام الشيخ الندوي يشبه قول من لا يرى مصدرا للعلوم إلا الحسيات وقد قرر في بداية المقال مصادر العلم بال (الفطرة - الحواس الخمس - الوحي). أظن أن ثمة تقويل في ذلك.

اقتباس:

ومما يؤخذ على كلام الشيخ بلال تقريره وجوه تقييد أحكام الشرع بالعقل بوجوه صحيحة شرعا واستدلاله بكلام الغزالي وابن عقيل وتعميم ذلك على مسائل العقيدة والغيبيات! والواقع أن ما نقله عن ابن عقيل والغزالي إنما هو في جانب مسائل الفقه عبادات ومعاملات. والزج بطرائق الاجتهاد في الفقه وأصوله في أبواب ومسائل العقيدة والغيبيات خلط غير مفهوم! وقد تكرر ذلك منه في موضع آخر عند مناقشة كلام لابن تيمية فقال: "ولهذا كان تصنيف ابن تيمية للمتكلمين الصنفين اللذين ذكرها في مبادئ كتابه (العقل والنقل) من فرط تعصُّبه عليهم وميله للحنابلة، فإنه نقل عنهم أنـهم ردوا الاستدلال بما جاءت به الأنبياء والمرسلون في صفات الله تعالى، وغير ذلك من الأمور التي أنبأوا بـها، وظنوا أن العقل يعارضها. وهذا منه عجيب، فإنه لا يتصور تأويلهم لها أو تفويضهم إياها مع ردها، ولو كانوا يردونـها كما توهمه ما احتاجوا إلى تأويلها أو تفويضها، على أن قوله: (ردوا ما جاءت به الأنبياء) ضرب من المغالطة بقصد التشنيع والتهويل، وإذا ساغ أن يقال هذا فيهم، كان أولى أن يقال في الأئمة الأربعة ونظرائهم من فقهاء الأمصار ومن قبلهم من السلف: إنـهم ردوا ما جاء به النبي عليه السلام من السنن حاشاهم! إذ ما من إمام منهم إلا وقد رد سنة أو خبراً صحيحا بأصل اخترعه وانتزعه من كليَّات وأصول الكتاب والسنة، كما رد مالك خبر خيار المجلس بعمل المدينة الذي هو أصله حتى قال فيه ابن أبي ذئب وهو صنوه من كبراء المدنيين ورفعائهم: (يُسْتتاب مالك في تركه هذا الحديث)، وردَّ أبو حنيفة خبر المصراة بأصل الخراج بالضمان، وردَّ ابن عباس خبر الوضوء مما مسَّت النار، وردَّت عائشة أم المؤمنين أخباراً مشهورة بمعارضتها بالأصول، جمعها الزركشي في جزء مفرد." اه.

التعليق:

1. لا يستقيم توجيه قول ابن تيمية (ردوا ما جاء به الأنبياء) بأنه يقصد جحودهم بالنصوص أو رفض نسبتها للوحي! فرد ما جاءت به الرسل قد يكون بالتأويل، كتأويل الباطنية والجهمية، فصنيعهم نوع ردّ لما جاءت به الرسل. لكن قد يُعترض على كلام ابن تيمية في صحة نسبة ذلك لفرقة أو مدرسة أو طائفة كبعض المتكلمين.

2. ثمة خلط، فقد جعل التأويل وتقييد الوحي بالعقل في أصول الفقه والمسائل الفقهية كالتأويل وحكم العقل على الوحي في العقائد والغيبيات. وهذا لا يستوي.

3. أن ابن تيمية في الفقه سائر على طريقة الأئمة الأربعة وفقهاء الأمة فكيف سيناقض نفسه! وما فعله الشيخ بلال ضرب من التحامل ووقوع في التعصب الذي نسبه إلى ابن تيمية!

اقتباس:

قال الشيخ بلال:

"وإطلاق الفاضل الكاتب أن العقل لا يدرك علما" اه.

التعليق:

حاولت أن أجد العبارة التي فهم منها الشيخ بلال أن الشيخ الندوي ينكر إدراك العقل للعلوم فلم أجد إلا قول الشيخ الندوي: "ظَنوه مصدرا للعلم، وهل يتوارى عن أحد فشلُ العقل ووهيُ أسبابه وضعفُ قواعده في إدراك ما تدركه الحواس؟ وأنَّى للعقل أن يبصر أو يسمع أو يذوق أو يشم أو يلمس؟ وأنى له أن يتسرب إلى مكامن العلم الفطري، أو يسَّمَّع إلى الوحي الإلهي؟" اه

والإدراك للمحسوسات مرتبط بالحواسّ بشكل حتميّ فكلاهما عملية واحدة لا انفكاك بينهما. إذ يرتبطُ الإدراك بالإحساس ارتباطاً وثيقاً لا يمكن أبداً الفصل بينهما لأنهما جزء من عمليّة واحدة ومستمرة. أما في الدماغ فإن العملية تحفّز وتترجم المحسوسات إلى تجارب منظّمة، وبما أن هناك العديد من المحفّزات في البيئة المحيطة تجذب انتباه الناس من خلال حواسّهم فهم قادرون على إعطاء وصف دقيق للمشاهد والروائح والأصوات التي تستقر في تجربتهم الواعيّة. ثم يمكنهم تطوير ذلك إلى أحكام بالعقل (ومحل العقل ليس في الدماغ) بل في القلب. إن وظيفة الدماغ المعالجة، أما القرار والأحكام فبالعقل ومحله القلب. قال تعالى: (أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا ۖ فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَٰكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ). فالمسألة هنا بحسب مقصود المتكلم بالإدراك وتحرير معناه. وما نقله الشيخ بلال عن ابن تيمية رحمه الله من توفيق بين من يعتبر العقل قوة غريزية بها يعقل، ومن يعتبره ضرباً من العلوم الضرورية بربط (العقل بالقلب) كما يرتبط (البصر بالعين)، وبه صحح الأمرين؛ فهذا يعني أن القلب وفيه الفطرة هو (القوة/العلم) والعقل هو (الإدراك/العمل). وقول من قال أنه ضرب من العلوم الضرورية يقصد به والله أعلم أمثال علوم الآلة وسبق بيانه. أما العلم الذي هو الغاية والمقصد فلا يعرف إلا بـ (الفطرة - الحس - الخبر).

اقتباس:

قال الشيخ بلال:

"وأحكام الشارع ثلاثة: منها: ما ثبت بمحض العقل كوجود الباري، ومنها: ما ثبت بكلٍّ من العقل والنقل كوحدانية الباري، ومنها: ما لا يثبت إلا بالنقل كخلق الجنَّة والنار، وأنَّ الصراط حق، ونحو ذلك" اه

التعليق:

1. ما يثبت بالعقل هو وجود (قويّ) (حيّ) (مريد) (مخصّص مدبّر) (عالم) (واحد) خلف هذا المُشاهد المحسوس، وهو غيب. لكنه لا يثبت له معرفة بهذا الغيب، وتختلط عليه الأمور بكثرة ما قد يعتقد أنه هو، فلا بد من الفطرة. والعقل يختبر ويطوّر وينمّي لينتج قضايا ويحكم بصحّتها أو خطئها.

2. ثم إن الله سبحانه يكمل الحجة بالعلم على عباده بإرسال الرسل وإنزال الشرائع والكتب. ولإرسال الرسل وإنزال الكتب أسباب وهي:

- التذكير (بالفطرة) التي فطر الله الناس عليها وتذكيرهم (بنعم الله) على الإنسان ومنه العقل والحواس وسائر ما في النفس البشرية وغيرها

- إبلاغ الناس بحقيقة خلقهم ومآلهم

- إبلاغ الشرائع والأحكام من عبادات ومعاملات بأوامر ونواه

- النذارة والبشارة

اقتباس:

نسب الشيخ بلال نقلا عن أبي إسحاق مقولة لطائفة من المحدثين وهي قوله: "قالوا: لا يُعرف شيء إلا من قول النبي" اه.

التعليق:

بهذا الإطلاق أين قال من قال من المحدثين بذلك!. وهل قولهم عام في كل شيء أم مدار الحديث على العقائد والأخبار الغيبية؟

اقتباس:

نسب الشيخ بلال إلى ابن تيمية الاتي:

"وليس في متكلمي أهل السنة من يثبت ما لا يسوغ إثباته إلا بالنقل، بمجرد العقل، ومن توهمه عليهم أو نسبه إليهم كأبي العباس ابن تيمية ..." اه

التعليق:

أين في كلام ابن تيمية ما يفيد بأنه نسب إلى المتكلمين من السنة أن كل ما في الدنيا والدين بإطلاق عند متكلمي السنة لا يثبت عندهم بالنقل ما لم يؤيده العقل!! لا أظن أن ابن تيمية يطلق هذا. وما أعلمه أن كلامه متوجه للمسائل التوقيفية كالنُّسك أو العبادات المحضة، والأخبار عن الله من صفات وأسماء وأفعال، والجنة والنار وأخبار النعيم والعذاب ونحوها من تفاصيل الغيبيات.

 اقتباس:

قال الشيخ بلال:

"ومن الناس من يعترضهم بأن أول واجب ثابت بالوحي هو التوحيد، فيتوهم أن المتكلمين باعتبارهم العقل والنظر خالفوا الوحي في أول واجب! وهذا من عدم التأمل أو من فرط العصبية أو من تلقين الشيوخ، وإلا فمراد المتكلمين بأن أول واجب هو النظر، أي: الاهتداء إلى وجوب توحيد الباري بالنظر لا بمجرد التقليد." اه.

التعليق:

محلّ الإنكار؛ أن كلامهم (أول واجب على العبد النظر) موجّه للمؤمن الذي آمن بالله! وعموم الناس تؤمن بوجود الله بالفطرة التي فطرها الله عليها وعندما تعترضها الوساوس والشبه تهتدي بصريح المعقول كالبعرة تدل على البعير. فأول واجب هو النظر إنما هو على المرتاب الذي لم يؤمن، وران على فطرته ما لبس عليه الحقيقة. فالإنكار معتبر، والصحيح أن أول واجب على العبد عبادة الله وألا يشرك به شيئا. وقد يصح كلام المتكلمين بأن أول واجب هو النظر في حق غير المؤمن فيقال له أول واجب عليك هو النظر ولا يجوز أن تحكم بصحة عدم إيمانك دون النظر.

اقتباس:

قال الشيخ بلال:

"وأما الثاني من مبادئ العقول، وهو علم الاستدلال: فهو موضع الخلاف في كون العقل هل يحسن ويقبح أو لا؟ ومذهب المتكلمين أن التحسين والتقبيح إن كان بمعنى منافرة الطبع وملاءمته فلا ريب في أنه يحسن ويقبح، وهذا قد أثبته الكاتب الفاضل نفسه، وإن كان بمعنى الثواب والعقاب فلا حكم إلا للشرع." اه

التعليق:

نحتاج من الشيخ بلال أن يحرر مذهب السادة الأشاعرة في التحسين والتقبيح، فإنهما إن كانا بمعنى المدح والثواب، والذم والعقاب، فعند جمهور السادة الأشاعرة أنه شرعيّ لا عقليّ. والمعتزلة يخالفون ويرونه عقليا بإطلاق. أما القول المعتبر الذي قاله غير واحد من أهل العلم، أنه عقلي في الحسن والقبح والمدح والذمّ، وشرعي في الثواب والعقاب. فهل ثمة خلاف عند السادة الأشاعرة والماتريدية في ذلك؟ أما التحسين والتقبيح باعتبار الطبع أو التحسين والتقبيح باعتبار النقص والكمال فهذا لا تكاد تجد من يختلف في كونه بالعقل.

اقتباس:

وفي ذات السياق قال بعد ذلك الشيخ بلال: "وهذا التناقض قد وقع فيه ابن تيمية، فإنه رمى المتكلمين باختراع أصول سمَّاها هو بغرض التشنيع عليهم (قوانين) وزعم أنـهم يردون بـها السنن، ثم وقع له هو ردُّ بعض السنن بمخالفة الأصول والعقل، فإنه رد خبر إجلاس النبي عليه السلام على العرش، بمخالفة الكتاب والسنة والعقل كما في (مجموع فتاويه) مع أن متقدِّمي الحنابلة كأبي داود وعبد الله والبربـهاري وغيرهم وصفوا من ردَّه بأنه جهمي!" اه.

التعليق:

ما قاله ابن تيمية في هذه المسألة في المجموع كان على النحو الآتي:

1. في درء التعارض: "وقد صنف القاضي أبو يعلى كتابه في إبطال التأويل ردا لكتاب ابن فورك وهو وإن كان أسند الأحاديث التي ذكرها وذكر من رواها ففيها عدة أحاديث موضوعة كحديث الرؤية عيانا ليلة المعراج ونحوه وفيها أشياء عن بعض السلف رواها بعض الناس مرفوعة كحديث قعود الرسول صلى الله عليه وسلم على العرش رواه بعض الناس من طرق كثيرة مرفوعة وهي كلها موضوعة وإنما الثابت أنه عن مجاهد وغيره من السلف وكان السلف والأئمة يروونه ولا ينكرونه ويتلقونه بالقبول" انتهى.

2. وفي مجموع الفتاوى: "إذَا تَبَيَّنَ هَذَا فَقَدْ حَدَثَ الْعُلَمَاءُ الْمَرْضِيُّونَ وَأَوْلِيَاؤُهُ الْمَقْبُولُونَ: أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُجْلِسُهُ رَبُّهُ عَلَى الْعَرْشِ مَعَهُ. رَوَى ذَلِكَ مُحَمَّدُ بْنُ فَضِيلٍ عَنْ لَيْثٍ عَنْ مُجَاهِدٍ؛ فِي تَفْسِيرِ: {عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا} وَذَكَرَ ذَلِكَ مِنْ وُجُوهٍ أُخْرَى مَرْفُوعَةٍ وَغَيْرِ مَرْفُوعَةٍ قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَهَذَا لَيْسَ مُنَاقِضًا لِمَا اسْتَفَاضَتْ بِهِ الْأَحَادِيثُ مِنْ أَنَّ الْمَقَامَ الْمَحْمُودَ هُوَ الشَّفَاعَةُ بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ مِنْ جَمِيعِ مَنْ يَنْتَحِلُ الْإِسْلَامَ وَيَدَّعِيه لَا يَقُولُ إنَّ إجْلَاسَهُ عَلَى الْعَرْشِ مُنْكَرًا (*) - وَإِنَّمَا أَنْكَرَهُ بَعْضُ الْجَهْمِيَّة وَلَا ذَكَرَهُ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ مُنْكَرٌ -." اه.

لا يوجد في كلام ابن تيمية رد للرواية بالعقل! إنما مذهب ابن تيمية في ذلك (ردّه للروايات لعدم ثبوتها). ولم أطلع على شيء بخصوص ردّه للأثر بالعقل! ومن قال أن إنكار الإجلاس من قول الجهمية، فهو على اعتبار استخدام طريقة الجهمية برد ذلك بمحض العقل ومنهج الفلاسفة، أما من لم يثبت الأثر عنده فليس مقصودا بهذا الكلام.

اقتباس:

قال الشيخ بلال نقلا عن ابن تيمية: "ومثل هذا القانون الذي وضعه هؤلاء -يقصد متكلِّمي الأشعرية- يضع كل فريق لأنفسهم قانونا فيما جاءت به الأنبياء عن الله، فيجعلون الأصل الذي يعتقدونه ويعتمدونه هو ما ظنُّوا أن عقولهم عرفته، ويجعلون ما جاءت به الأنبياء تبعا له، فما وافق قانونـهم قبلوه، وما خالفه لم يتبعوه" اه.

التعليق:

- لدى مراجعة الفصل الذي أورد فيه ابن تيمية ما اقتبسه الشيخ بلال (وتجده في الملحق)، يتبين مقصده رحمه الله، فلا صحّة لزعم الشيخ بلال أن موضع إنكار ابن تيمية هو مجرّد التأويل! فقد يحصل ذلك من العلماء خلفاً وسلفاً ولكن ليس على طريقة الفلاسفة.

- محلّ الإنكار هو قواعد وأصول النظر والتأويل لا في التأويل بحد ذاته، فقد كان كلامه رحمه الله عن (القانون الكلي للتوفيق) وقد نقله بداية الفصل (وتجده في الملحق).

- وبهذا الاعتبار يكون كلام ابن تيمية موضوعيّاً وبحثه ليس بسبب غلبة المؤثرات التي تحدث عنها الشيخ بلال في مطلع المقال.

- ولا بد هنا من جوابين في تبيان مقصد ومنهج السلف ومن تبعهم من العلماء في التأويل؛ مجملٌ ومفصّل. أما المجمل فيتلخص في وجهين:

1. لا نسلم أن تفسير السلف هو صرف لها عن ظاهرها، فإن ظاهر الكلام هو ما يتبادر من المعنى، ويختلف بحسب السياق وما يضاف إليه الكلام. فإن الكلمات يختلف معناها بحسب تركيب الكلام. الكلام مركب من كلمات وجمل يظهر معناها ويتعين بضم بعضها إلى بعض. فكم من كلمة لها معنى في سياق ولها معنى آخر في سياق غيره.

2. لو سلمنا أن تفسير السلف هو صرف لها عن ظاهرها فإن لهم في ذلك دليلا من الكتاب والسنة إما متصلا أو منفصلا وليس مجرد شبهات يزعمها الصارف براهين وقطعيات يتوصل بها إلى نفي ما أثبته الله لنفسه أو على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم. فما تأويل السلف ومن تبعهم بهذا المعنى إلا تفسيرا للكلام. فلا يكون مذموما بل هو واجب، وليس بتحريف بل هو تفسير.

وبذلك يتبيّن المنهج والأصول التي ينطلق منها السلف ومن مشى على طريقهم في تأويل الكتاب سواء أصابوا أو أخطأوا. وتتجلى عدة فروق بين منهج السلف ومنهج الفلاسفة ومن تبعهم من المتكلمين:

1. أن تأويل السلف هنا بمعنى (التفسير)، وأما عند المخالفين فالتأويل هو بمعنى (صرف اللفظ عن المعنى الراجح إلى معنى مرجوح بقرينة التنزيه).

2. أن السلف يجزمون في تأويلاتهم المعنى المأوَّل/المفسّر بعلمهم ونظرهم. وأما المخالفون فلا يجزمون بأي من هذه التأويلات بل في كثير من الأحيان يذكرون للصفة الواحدة في في نص من نصوص الوحي عدة تأويلات (لا تحتمله اللفظة في النص وسياقه سباقا ولحاقا) وقرينتهم الحقيقية في ذلك هي (ضرورة التنزيه!).

3. أن التأويل الذي في كلام السلف لبعض آي الصفات يدلّ عليه دليل وقرينة من الوحيِ متصل بنص الوحي المأوَّل أو منفصل عنه في نصٍّ آخر. وهذا غير موجود في تأويلات المخالفين التي إن سئلوا عن قرينة هذا التأويل أجابوا (ضرورة التنزيه). وما يزعمونه من قرينة لغويّة (فهي في ما تحتمله اللفظة من معانٍ مجرّدة دون ضمّها إلى سياقها في الكلام) ولا قرينة لها في الكلام والسياق سباقا ولحاقا، ولا من عُرف ولا بدليل وحيٍ متصل أو منفصل.

- أما الردّ المفصّل فبالجواب عن كل نص ادعوا أن السلف صرفوه عن ظاهره وهذا مقام يطول لا نخوض فيه خشية التطويل (ونضرب مثالين).

- ولا بد من بيان بعض الفوائد في هذا المضمار، فنقول؛ يخرج من التأويل بشكل عام كأصول:

1. المجمل: لا يدل على معنى معين لأنه لم يتبين

2. النص: لأنه لا يدل إلا على معنى واحد

3. الظاهر: لأنه يدل على المعنى الراجح

أما التأويل: فما كان منه على معنى التفسير فهو محمود. وأما على معنى المآل والعاقبة فمنه ما هو مذموم ومنه ما هو محرم ومنه ما هو واجب. فالواجب إذا كان المقصود بالتأويل المآل فيما يجب فعله؛ يجب تأويلها على ما أمر الله به. والمحرم ما أمر الله باجتنابه فإن تأوله الإنسان فاجتنبه كان واجبا وإن فعله كان محرما. والمذموم هو مآل الأشياء الخبرية فكلها لا تُأول لأنك تُأوِّل ما لا تعلم.

وأما التاويل الذي هو صرف اللفظ عن ظاهره ففيه تفصيل، فإن دلّ عليه الدليل فهو محمود، وما لم يدلّ فهو مذموم. كتأويل: (واسأل القرية) فالأصل أن القرية هي المساكن، والمحتّم أن المساكن لا تُسأل وبذلك جزم أن المقصود أهل القرية ومن باب المبالغة في السؤال والعموم فيه وكأنه يطلب سؤال كل من فيها حتى المرأة والفتيان ...إلخ وهذا دليل عقلي مصدره الحسّ، فالدليل الحسّي لا تُدرك دلالته إلا بالعقل. وكما في الحديث: (مرضت فلم تعدني) وتأويله مرض عبد من عباد الله وهذا تأويل طريقه السمع لأنه موجود متصلا في ذات الحديث. فالعقل وإن كان يعلم أن الله لا يمرض لكنه لا يدري ما المراد. فما يبين المراد تتمة الحديث وكذلك الله لا يعود المريض ولكن لا يفهم المراد، فيتبين المراد بتتمة الحديث.

اقتباس:

قال الشيخ بلال:

"ومن عجائب أغاليط شيخ الإسلام ابن تيمية في هذا الباب وعصبيته: أنه جعل تصرُّف المتكلمين في نصوص وأخبار الصفات شبيها بتصرف النصارى فيما وضعوه من أمانتهم التي جعلوها عقيدة إيمانـهم، وردوا نصوص التوراة والإنجيل إليها! وأفرط شيخ الإسلام ابن تيمية في الميْل والتعصب فجاء بعظيمة تملأ الفم، وقضى بأن النصارى الكفار أقرب إلى تعظيم الأنبياء والرسل من الأشعرية" انتهى الاقتباس

وهو يقصد قول ابن تيمية رحمه الله وتجده في الملحق

التعليق:

واضح أن كلام شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله مفهوم في سياق الحديث عن (القانون الكلّي) وكان قد بيّن قبلُ اختلافَهم في ذلك، وذكر اعتراض القاضي أبي بكر ابن العربي على الغزالي رحمهما الله في ذلك وقال قولته الشهيرة: "شيخنا أبو حامد دخل في بطون الفلاسفة، ثم أراد أن يخرج منهم فما قدر" ثم وضع له قانونا آخر. وبذلك يتبيّن أن ما استنكره الشيخ بلال من كلام ابن تيمية ليس دقيقا، فكلامه - رحمه الله - موجّه لا لشخوص الإمامين ابن العربي والغزالي ولا للسادة الأشاعرة كفرقة من فرق المسلمين، بل موجّه لقوانينهم وطريقتهم ومنهجهم المُتّبع في مثل هذه الأمور. فشبه القانون والطريقة في منهجهم بطريقة النصارى. وقريب منه قوله صلى الله عليه وسلم للصحابة عندما قالوا له: يا رسول الله اجعل لنا ذأت أنواط كما لهم ذات أنواط، فقال لهم بأبي هو وأمي صلى الله عليه وسلم: "سبحان الله، هذا كما قال قوم موسى: {اجعل لنا إلها كما لهم آلهة}" والقصد هنا المنهج والطريقة وليس شخوص الصحابة رضي الله عنهم وحاشاهم. وكذلك عندما يشبه رحمه الله طريقة "المخالف" بطريقة الجهمية أو الباطنية ونحوهم إنما يقصد المقولة والمنهجية والمسلك لا الأشخاص ولا الحكم عليهم ولا المقارنة بدينهم وإيمانهم وقربهم من الله (كما أوهم الشيخ بلال غفر الله له)، ومثله قوله رحمه الله بأن النصارى بذلك أقرب إلى تعظيم الأنبياء والرسول منهم، فهذا أيضا في محاكمة المنهج والطريقة، ولا يمكن أن يُقصد غير ذلك، فالنصارى واليهود عندهم في ما بين يديهم من الإنجيل والتوراة المحرّف ما هو أشد في الطعن والامتهان للأنبياء والرسل. إنما قصد رحمه الله في طريقة ومسلك التناول موضع النقد.

وبذلك يتبين خطأ الشيخ بلال في رده على شيخ الإسلام ابن تيمية، حين قال: "كيف جعلت كفرهم خطأ، وخطأ المتكلمين الإسلاميين -بتقدير كونه خطأ- كفراً" ومن قرأ الفصل الذي عقده في (القانون الكلي للتوفيق) كما في الملحق يتبين له ما قررناه. وللأسف نسب الشيخ بلال - افتراءً - أن "ابن تيمية جعل أصول النصارى (كذا بإطلاق وتعميم) أقرب إلى للعقل والنقل من أصول المتكلمين"!!! نعوذ بالله من الظلم والافتراء. وقس على ذلك باقي كلامه الذي هو عبارة عن إلزامات لا تلزم لما بيّناه أعلاه.

ثم إن الشيخ بلال زاد على ما سبق، فمارس نوعا من التهييج وزرع الضغينة في قلب القارئ فيقول:

"والمسألة هنا خلافية بين الرب جل جلاله القائل: {أفنجعل المسلمين كالمجرمين ما لكم كيف تحكمون} وبين ابن تيمية الذي جعل النَّصارى الكفار أقرب إلى تعظيم الرسل والأنبياء من خواص المسلمين، مع أنه هو القائل: (بل الذي يصلي خير من الذي لا يصلي، وأقرب إلى الله منه، وإن كان فاسقا)! انتهى الاقتباس. نعوذ بالله من هذا السلوك بإيغار الصدور، فمن الذي سيفهم من كلام ابن تيمية أنه يعتبر النصارى أقرب إلى الله من المسلم؟!! نسأل الله العافية.

ولا يمكن إنكار أن ابن تيمية كان لديه (قسوة أحيانا تكون مبالغة بشكل كبير) في ردوده لا تخرج به عن المنهجيّة العلميّة والاجتهاد ونظر العالم المتبحر المدقق، ولا يُنسب له رحمه الله ما ادعاه الشيخ بلال (العداوة) للسادة الأشاعرة، بل إن العداوة كانت واضحة من أقرانه في زمانه من الأشاعرة فيما فعلوه به رحمه الله ومع ذلك كانت شيمه العفو عنهم والدفاع عنهم بل وحمايتهم كما ثبت ذلك في قصته مع البكريّ رحمهم الله جميعا.

ثم تحدث الشيخ بلال في توجيهه للقاعدة الكلية للتوفيق عن أن المقصود بها هو (مقارعة أهل الملل وغلاة البدع) وأن الدليل السمعيّ عندهم يفيد اليقين ولكن لا يمكن الاستناد إليه في مقارعة أهل الملل. تماما كما كانت طريقة ابن تيمية مع (الرافضة) بأنه لا يمكن أن يحتج عليهم بالسنة لأنهم ينكرون ويكفرون بمصادر أهل السنة، فكان الاستدلال العقلي عند شيخ الإسلام من خلال (مقابلة مقولة الرافضة بمقولة الناصبة وضرب بعضها ببعض بالمنطق والعقل).

التعليق:

لنتأمل كلام الشيخ بلال، ففحواه أن ابن تيمية رحمه الله كان ينقل كلام الناصبة لإبطال كلام الرافضة، فكانت الرافضة تتهم شيخ الإسلام أنه يطعن في الإمام عليّ رضي الله عنه وارضاه، وطعن في آل البيت (باقتطاع كلامه في سياق نقله مقالات الناصبة) وهو رحمه الله براء من ذلك معظّم لهم. وهو يشبه الطريقة التي يدفع عنها الاعتراض والنقد بذلك.

دعونا نطبق ذات الأمر على ما شرحه لنا الشيخ بلال، فهل يصحّ أن نقول:

إن الرازي رحمه الله كان يأوّل قوله تعالى: "يا إبليس ما منعك أن تسجد لما خلقت بيديّ" أن اليد هنا هي النعمة أو القدرة، إنما هو لإبطال كلام غلاة البدع وأهل الملل. والواقع أن الرازي يؤمن بأن معنى الآية على ظاهره أن لله يدين تليق به سبحانه ليس كمثله شيء أو (التفويض الذي عليه بعض المتكلمين). وما سلك الإمام الرازي رحمه الله هذا المسلك إلا لرد باطل أهل الملل وغلاة البدع لا اعتقادا بأنها هي المراد والتفسير. ما أفهمه ويفهمه الجمهور من طلبة العلم ليس كذلك.

هذا ما تيسّر لي في عجالة فما كان من صواب فيه فمن الله وما كان من خطأ فمن نفسي والشيطان والله ورسوله والممؤمنون بريؤون منه. والحمد لله رب العالمين.

 الملحق

ما جاء في كلام ابن تيمية عن القانون الكلي للتوفيق عند المبتدعة في صدر كتاب درء تعارض العقل والنص

"القانون الكلي للتوفيق عند المبتدعة

الحمد لله، نحمده ونستعينه، ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهد الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلي الله عليه وعلى آله وسلم تسليماً كثيراً. قول القائل: إذا تعارضت الأدلة السمعية والعقلية، أو السمع والعقل، أو النقل والعقل، أو الظواهر النقلية والقواطع العقلية، أو نحو ذلك من العبارات، فإما أن يجمع بينهما، وهو محال، لأنه جمع بين النقيضين، وإما أن يردا جميعاً، وإما أن يقدم السمع، وهو محال، لأن العقل أصل النقل، فلو قدمناه عليه كان ذلك قدحاً في العقل الذي هو أصل النقل، والقدح في أصل الشيء قدح فيه، فكان تقديم النقل قدحاً في النقل والعقل جميعاً، فوجب تقديم العقل، ثم النقل إما أن يتأول، وإما أن يفوض. وأما إذا تعارضا تعارض الضدين امتنع الجمع بينهما، ولم يمتنع ارتفاعهما. وهذا الكلام قد جعله الرازي وأتباعه قانوناً كلياً فيما يستدل به من كتب الله تعالى وكلام أنبيائه عليهم السلام، وما لا يستدل به، ولهذا ردوا الاستدلال بما جاءت به الأنبياء والمرسلون في صفات الله تعالى، وغير ذلك من الأمور التي أنبأوا بها، وظن هؤلاء أن العقل يعارضها، وقد يضم بعضهم إلى ذلك أن الأدلة السمعية لا تفيد اليقين، وقد بسطنا الكلام على قولهم هذا في الأدلة السمعية في غير هذا الموضع.

وأما هذا القانون الذي وضعوه فقد سبقهم إليه طائفة، منهم أبو حامد، وجعله قانوناً في جواب المسائل التي سئل عنها في نصوص أشكلت على السائل، كالمسائل التي سأله عنها القاضي أبو بكر بن العربي، وخالفه القاضي أبو بكر العربي في كثير من تلك الأجوبة، وكان يقول: شيخنا أبو حامد دخل في بطون الفلاسفة، ثم أراد أن يخرج منهم فما قدر. وحكي هو عن أبي حامد نفيه أنه كان يقول: أنا مزجي البضاعة في الحديث. ووضع أبو بكر بن العربي هذا قانون آخر، مبنياً على طريقة أبي المعالي ومن قبله، كالقاضي أبي بكر الباقلاني. ومثل هذا القانون الذي وضعه هؤلاء يضع كل فريق لأنفسهم قانوناً فيما جاءت به الأنبياء عن الله، فيجعلون الأصل الذي يعتقدونه ويعتمدونه هو ما ظنوا أن عقولهم عرفته، ويجعلون ما جاءت به الأنبياء تبعاً له، فما وافق قانونهم قبلوه، وما خالفه لم يتبعوه. وهذا يشبه ما وضعته النصارى من أمانتهم التي جعلوها عقيدة إيمانهم، وردوا نصوص التوراة والإنجيل إليها، لكن تلك الأمانة اعتمدوا فيها على ما فهموه من نصوص الأنبياء أو ما بلغهم عنهم، وغلطوا في الفهم أو في تصديق الناقل، كسائر الغالطين ممن يحتج بالسمعيات، فإن غلطه إما في الإسناد وإما في المتن، وأما هؤلاء فوضعوا قوانينهم على ما رأوه بعقولهم، وقد غلطوا في الرأي والعقل.

فالنصارى أقرب إلى تعظيم الأنبياء والرسل من هؤلاء، ولكن النصارى يشبههم من ابتدع بدعة بفهمه الفاسد من النصوص أو بتصديقه النقل الكاذب عن الرسول، كالخوارج والوعيدية والمرجئة والإمامية وغيرهم، بخلاف بدعة الجهمية والفلاسفة فإنها مبنية على ما يقرون هم بأنه مخالف للمعروف من كلام الأنبياء وأولئك يظنون أن ما ابتدعوه هو المعروف من كلام الأنبياء، وأنه صحيح عندهم.) اهـ.

هذا رابط المقال المردود عليها هــنا

وهذا رابط مقال وظيفة العقل هـــنا

جميع المواد المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين