ما الإسلام؟

 

 

إنَّ الإيمان المجرَّد يُنبت شعوراً بالخضوع لله، خضوعاً تمتزج فيه الرغبة والرهبة، وليس في هذا عجب؛ فإنَّ الذي يَعرفُ عظيماً من البشر يحسُّ نحوه بالإعزاز والانقياد، فكيف بمن عرف الله تعالى وفقه صفاته العظمى وأسماءه الحسنى؟ إنَّ الخضوع المطلق يفعم فؤاده، ويجعل مبدأ السمع والطاعة أساس صلته به.

 وأيَّاً ما كان الأمر فإنَّ الدين ليس معرفة التمرُّد وشق عصا الطاعة، هو التسليم التام لله، والإنفاذ الكامل لما حكم به: [فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا] {النساء:65}، وكلمة الإسلام في مدلولها اللغوي، وفي مصطلحها الشرعي تعنى هذا.

 إنها لا تعنى الخضوع الجزئي، أو الخضوع المشروط، أو الخضوع الكاره، إنها خضوع لله سبحانه، ينقل الإيمان المستكنَّ في القلب إلى عمل تصطبغ به الجوارح، ويترجم اليقين الخفي إلى طاعة بارزة في الحياة الخاصَّة والعامة، وهذا الذي نقول يظهر في أركان الإسلام التي ذكرها الحديث المشهور، كما يظهر في سائر شرائعه المبينة في الكتاب والسنة.

معنى الشهادتين:

وأول شرائع الإسلام شهادة أن لا إله إلا الله وأنَّ محمداً رسول الله، وهذه الكلمة العظيمة تعنى شيئاً فوق الإخبار المعْتاد، إنك حين تذهب إلى ساحة القضاء فتذكر ما تعرف في قضية معروضة لا تقصد مجرد الإخبار، إنك بما تقول تحقُّ حقاً كاد الباطل يَغلبه، وتخذل باطلاً كاد يروج وينتصر، إنَّ الإخبار المجرَّد قد يكون قصصاً مُسلياً، وقد يكون حكماً جاداً.

 وشهادة التوحيد حين ترسلها في ساحة الحياة فأنت بهذه الشهادة لا تطلق خبراً هو بعض ما يتداوله الناس من كلام أو يتناقلونه من حديث، إنها شهادة تعني إحقاق حق وإبطال باطل. إنها شهادة تعنى أنَّك قررت المضيَّ في الحياة وفقَ خطةٍ تُنابذ الشركاءَ العداءَ، وتقرُّ لله تعالى بالوحدة.

إنك بهذه الكلمة أبديت وجهة نظرك في قضايا كثيرة تشغل الناس ليلاً ونهاراً، إنَّ الناس في الواقع يخضعون لآلهة شتى، ويطوفون حول كعبة تحفها أصنام المال والجاه والسلطة، وكم في الدنيا من اتخذ إلهه هواه وأضله الله على علم، وذلك عدا من ساء فهمهم في الألوهية، ومن أنكروها بتة.

 في هذه الظروف العصيبة يكون معنى: (أشهد أن لا إله إلا الله) أنَّك في ساحة الحياة تدفع بعملك باطلهم وتجابه بحقك ضلالهم، وتعلن أنَّك مُستمسك بعُرى هذا الحق، وأنك لا تخفيه في سريرتك بل تشهد به ليظهر بين الملأ ويعرف ويتقرَّر.

 إنَّ الشهادة ليست فقط دلالة إيمان، بل هي معالنة برأي، وبداية لسلوك. إنها شهادة تنتقل من ساحة القضاء إلى ساحة الحياة لتكون شارة مذهب معين، وصبغة نفس عرفت الله، وقرَّرت أن تسير باسمه في كل درب!.

 والشهادة بــ: (أنَّ محمداً رسول الله) لم تُذكر في الحديث اكتفاء بالشطر الأول؛ فإنَّ الإيمان بالله سبحانه يًستلزم الإيمان بأنبيائه واحداً واحداً، فمن آمن برجل منهم وكفر بالآخر فهو بهم جميعاً كافر، وهو بالله كذلك كافر، لا فرقَ بين موسى وعيسى ومحمد وسائر المرسلين.

فالله عز وجل أبرَّ بأنبيائه من أن يَدَعَهم لعبث العابثين وتفريط المفرِّطين، سيما وهم لم يعيشوا على ظهر الأرض لأنفسهم، بل عاشوا لربهم يذكِّرون به، ويدفعون الجماهير إليه، فكيف يُبعدهم الله تعالى عنه بعد ذلك؟! 

لقد قال الله تعالى: [إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا أُولَئِكَ هُمُ الكَافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا] {النساء:150-151}

 والشهادة بأنَّ محمداً صلى الله عليه وسلم رسول الله شهادة لجميع المرسلين على اختلاف العصور بأنهم حق، وأنَّ اتباعهم واجب، ذلك لأنَّ محمداً صلى الله عليه وسلم جاء مُصدِّقاً لجميع من سبقوه من النبيين، ومجدداً لتعاليمهم، ومُنصفاً لهم من الأتباع الغالين والجائرين، ورافعاً لذكرهم في الآخرين كما ارتفع في الأولين.

ومعنى: (أشهد أنَّ محمداً رسول الله): أتعهَّد بأن أتخذ من حياته الأسوةَ الحسنةَ وأن أستمسك بالسنة التي رسمها، وأستظلَّ باللواء الذي نصبه.

ولك أن تسأل: من أين هذا التعهُّد؟ والجواب: أنَّ سرَّ العظمة في حياة محمد صلى الله عليه وسلم يرجع إلى أنَّه إنسان كامل، بلغ ذروة الارتقاء البشري عن طريق العبوديَّة الصحيحة لله.

فهو لم يزعم يوماً أنَّ الله جلَّ وعلا حلَّ فيه، أو أنَّ بينه وبين الله نسباً يخلع عنه وصفاً من أوصاف البشريَّة المعتادة، كلا، إنَّه واحد من الناس تخيَّرته العناية العُليا ليبلِّغ عن الله تعالى، وليكون رائداً يتقدَّم صفوف التائبين إلى ربهم: [قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ] {الكهف:110}، [فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ] {هود:112}. 

كان رجلاً سويَّ المشاعر، قوي العضلات، لم تضن بدنه عاهة أو علة، تصله هذه العافية بأقطار الحياة الصحيحة دون عُقَد نفسيَّة. وكان زوجاً وأباً وتاجراً وفَارساً، وكان يتعرَّض للغنى والفَقْر، والنصر والهزيمة، والحزن والسرور، والرضا والغضب.

ومع هذه البشرية التي يشركه فيها سائرُ الخلق فقد انتظم سِرُّه وعَلَنُه في خشوع وجهاد وتفانٍ في ذات الله، جعله يتحدَّث عن نفسه صادقاً مَصدوقاً فيقول صلى الله عليه وسلم: (..، أَمَا وَاللَّهِ إِنِّي لَأَخْشَاكُمْ لِلَّهِ وَأَتْقَاكُمْ لَهُ،..) [أخرجه البخاري ومسلم]، من هنا تجيء الأسوة من بشرٍ مِثلِنا أحرزَ الكمالَ الإنساني على عَنَت الظروف وقوَّة البيئة يتعلَّم الناس ويتعظون، وفى هذا يقول الكتاب العزيز: [قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَرًا رَسُولًا وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الهُدَى إِلَّا أَنْ قَالُوا أَبَعَثَ اللهُ بَشَرًا رَسُولًا قُلْ لَوْ كَانَ فِي الأَرْضِ مَلَائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ مَلَكًا رَسُولًا] {الإسراء:93-95}.

أجل، لأنَّ سكان الأرض بشرٌ تعمل في كيانهم غرائز البدن ورغائب النفس، ويتعرَّضون في حياتهم لمشاعر الضيق والفرج، والشدَّة والرخاء، والكدح والراحة، والتجمع والشتات... إلخ، ناسب أن يجيئهم نبي منهم يتعرَّض لمثل ما يتعرَّضون، ويواجه ما يعرض له بأحسن تصرف وأشرف سلوك.

 من هنا تكون الأسوة، من خطوات هذا الرسول الإنساني في مرضاة الله والوقوف في ساحته وابتغاء وجهه تكون السنة التي يجب أن تُتَّبع: (فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي) [أخرجه البخاري ومسلم].

وكلمة التوحيد تقتعد مكان القيادة في حياة الرجل المسلم والمجتمع المسلم، وعليها المدار في فنون الطاعات التي حفل بها الإسلام، ولما كان الإسلام هو الخضوع التامُّ للهِ سبحانه فربما يُظن لأول وهلة أنَّ المسلم لا ينبغي أن يَرتكب مخالفة، ولا أن يقع في معصية. إذاً العصيان يُنافي الخضوع.

 

وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم.

من كتاب: (الجانب العاطفي في الإسلام، للعلامة محمد الغزالي)

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين