ما الإحسان؟

 

 

إنَّ شرائعَ الإسلامِ كثيرةٌ، والأركان الخمسة المذكورة هنا هي بعضُ الإسلام لا كله، والمهمُّ أنَّ الإسلامَ خضوعٌ تامٌّ لكلِّ صغيرة وكبيرة جاء بها الوحي، ولن يتمَّ إسلامُ المرء إلا إذا قال من أعماقِ قلبه بإزاء كلِّ ما أوصى الله به: [آَمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آَمَنَ بِاللهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ المَصِيرُ] {البقرة:285}.

 

ما الإحسان؟

عند صدق الإيمانِ وتمام الإسلام يجيءُ الإحسان نتيجةً لازمة لهما، قال تبارك وتعالى: [إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا] {الكهف:30}، لقد علمت أنَّ الإيمان حُسن معرفة لله وثقة نامية فيه، وأنَّ الإسلام استجابة مُطلقة لتعاليمه، وتحرٍّ دقيق لرضاه، فإذا تجمَّعت هذه العناصر، وجرت فيها مَشَاعر اليقين، وأينعتْ فيها صوالحُ الأعمال، فإنَّ المرءَ يكونُ لا محالةَ مُحسناً.

والحديثُ الذي بين أيدينا عرَّف الإحسان: (أنْ تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك)، ورؤية وجه الله تعالى في العمل هي الباعثُ على إجادته والحادي على إتقانه، وهي ليست تخيلاً لقوَّة مَوهومة، بل هي شعور بالوجود القائم، وإدراك لحقه، فإذا لم يبلغ المرءُ هذه المرتبة من الحسِّ فلن ينزلَ عن المرتبة الأخرى، وهي الشعور بإشراف الله ورقابته عليه وعلى كل شيء حوله.

 ونريد أن نقف عند هذه الكلمة: (أن تعبد الله): 

إنَّ العبادة تشمل نوعين من الأعمال: الأول: الفروض العينيَّة التي لا يخلو منها مُكلَّف، وهي فروضٌ تنتظم الناسَ فرداً فرداً، ويعتبر كلُّ أحد مسؤولاً برأسه عن أدائها.

الآخر: الفروض التي يُسأل المجتمع بجملته عنها، ويكلف بتوفيرها في نطاقه العام، ويعدُّ أفراده قاطبةً مُقصرين مَلومين إذا خلا المجتمع منها، وهذا ما يُسمَّى في اصطلاح الفقهاء بالفروض الكفائيَّة. 

والفروض العينيَّة تتصل بالخصائص الماديَّة والأدبيَّة التي يتساوى البشر في أصلها، فما من إنسان على ظهر الأرض يمكن أن تسقط عنه الصلاة أو يمكن أن يباح له الزنى، إنَّ هذه الفروض تستهدف تزكيةَ كلِّ نفس، فما تصلح أي نفس إلا بها، ومن هنا كان وجوبها عينياً.

 أما الفروض الكفائيَّة: فهي تتصل ابتداءً بالملكات والمواهب التي يتفاوتُ الأفرادُ فيها، وتختلف مُيولهم إليها اختلافاً بَيِّناً، ومع ذلك فإنَّ المجتمع يقوم على أداء كل فرد لما يحسن منها. لو أنَّ الناس كلهم فَلاَّحون فمن يتاجر؟ ولو كانوا جميعا صُنَّاعاً فمن يَزرع؟! إنَّ إيجاب عملٍ بعينه على فردٍ بعينه شيء مُتعذِّر، وإنما تُفرَّق الأعمال عليهم وفق رغباتهم ويرشحهم استعدادهم له. وهذا التوزيع يقوم المجتمع به تلقائياً، لضمان مَصَالحه كلها، فإذا وقع خَلَلٌ في ذلك كان مسؤولاً عن تلافيه.

وربما سأل سائلٌ: وما علاقة هذه الأعمال العاديَّة بالدين؟ والجواب: أنَّها من صميم العبادات، وأنها حقاً فروض كفايات، وأنَّ الهندسة، والطب والفلاحة، والصناعة، ومختلف الحرف وأسباب العمران من أركان الإسلام، وأنها تدخل دخولاً محتوماً في دائرة الإحسان التي تناولها الحديث الشريف بهذه العبارة الموجزة: (أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك)؛ وذلك لأنَّ الإنسان - وهو محور النشاط الديني وموضع التكاليف السماوية - لا تستقرُّ له حياة، ولا يستقيم له وجود إلا إذا كفلت له مَعَايشه وتعاونت ظروف البيئة على ضمانها.

أي: أنه يوجد ويستقر أولا ثم تلاحقه الواجبات بعد ذلك، وهذا الوجود منوط بالكدح سحابة النهار والاستعداد له ـ بالراحة ـ أثناء الليل، قال الله تعالى: [هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا] {يونس:67}، وقال أيضاً: [وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاسًا وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشًا] {النَّبأ:11}.

إنَّ تعاقبَ الليلِ والنهار مجال النشاط العمراني الذي تقومُ به الحياة الدنيا، وهو كذلك مجال النشاط الديني الذي يعرف به الله سبحانه، وتُكفل به الحياة الأخرى، قال الله تعالى: [وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا] {الفرقان:62}، فلابدَّ للإنسان من أن يعمل عملاً ما، عملاً تُرشِّحه له ملكاته وخصائصه ويلزمه المجتمع الذي يعيش فيه بأن يقوم به.

 وفى شبكة الأعمال المنثورة على هذا وذاك، يسري تيَّار الحياة العامَّة قوياً، ويتوزَّع على الأفراد ما يَصُون مَعَاشهم، ولن يستطيعَ أحدهم صلاة وصياماً إلا إذا تحقَّق هذا المعاش الحتم، ففروض العين لا توجد إلا بعد أن تتحقق فروض الكفاية!، وربما استطاعت أمَّةٌ من الأمم أن تحيا على نحو بدائي ييسر الكفاف لبنيها ويجعل ما يقيم أَوَدَهم شيئاً ضئيلاً لا يتطلب إلا أدنى الجهد، وبذلك يكون كفاحهم العمراني ضيق الدائرة، ينصرفون بعده إلى الفروض العينيَّة من صلاة وصيام. وإذا كان ذلك عسير التصور في حياة الجماعات فهو سهل التصوير في حياة الأفراد.

الإحسان فريضة مكتوبة على كل شيء:

 

وهذا كلامٌ يحتاج إلى فضل بيان، نعم، يقدر أحد الناس على تناول أقراصٍ من الخبز، وارتداء ألبسة من الخيش، والانزواء بعد ذلك في مكانٍ خَرِب أو عَامر يعبد الله كما يَرى. والبيئة التي يُوجد فيها هذا الصنف من الناس ربما لا تتطلب أكثر من رحى للطحن، ومغزل للنسيج، وعدد من الأشغال التافهة هي التي تمثل (فروض الكفاية) في مجتمع ساذج. لكن الإسلام لا يصلح في هذه البيئة، ولا تعاونه أدواتها على السير، ولا على مجرد البقاء.

لو كان الإسلام رهبانية صوامع ربما انزوى في جانب منها واكتفى بأي لون من العيش، ولكنه دين يبغي الاستيلاء على الحياة، وإقامة عوجها ومحاربة طواغيتها. وعُدَّة هذا الجهاد تتطلب أمدادا موصولة من النشاط والخبرة والتضلُّع في علوم الحياة، والتمكُّن من أشتات الحِرَف.

أي: أنَّ المجتمع الإسلامي لابدَّ أن تزدهر فيه جميع الفنون والصناعات التي تشيع بين أجيال البشر في أرجاء الأرض كافة، وينبغي أن تبلغ براعة المسلمين في هذه الميادين حدَّ التفوق، فإذا قورن بهم غيرهم في النواحي المدنية والعسكرية كانوا أرجح كفَّة وأهدى سبيلاً، وإتقان هذه الأمور في طليعة درجة الإحسان التي شرحها الحديث.

تصوَّر مثلاً أنَّ المسلمين مُتخلِّفون في صناعةِ الدواء، وأنَّهم في هذا عالةٌ على غيرهم من الأممِ الشيوعيَّة والصليبية! أتظنهم بهذا التخلُّف يُسْدُون إلى دينهم أو إلى أنفسهم جميلاً؟ أم أنهم بهذا التخلُّف يهزمون مبادئهم ومثلهم العليا في أول معركة مع عدوهم؟. 

تصور أنَّهم مُتخلِّفون في فنِّ الطباعة، أتراهم يَستطيعون السيطرة على وسائل النشر وإبراز الحقائق وإغراء ألوف القراء بمطالعتها والإقبال عليها؟ إنَّ مهنة صيدلي، أو مهنة طَبَّاع، فرائض على المجتمع الإسلامي كالصلاة والصيام سواءً بسواء، غاية ما هناك من فرق أنَّ الصلاة والصيام لا يتخلَّف عن أدائها أحد، أما فروض الكفاية فيختار لها من يصلح لها، ومن لم يصلح لحرفة معينة صلح لغيرها، وكلف بالقيام بها، وعندما يقع الاختيار على واحد بعينه للقيام بفريضة اجتماعيَّة أصبح مَسؤولاً عنها لفوره مسؤوليته عن الركوع والسجود، وأصبح إحسانه لمهنته - أي مهنة - كإحسانه للصلاة.

إنَّ عبادةَ الله في الحقلِ كعبادته في المحراب، وعبادته في المصنع كعبادته بالسعي والطواف. وتشبع المرء من الطعام ليقوى على الجهاد، كتقلُّله من الطعام في عبادة الصيام، وصور الطاعات شتى، ومكان الإحسان فيها لا يتناهى.

 

وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم.

من كتاب: (الجانب العاطفي من الإسلام، للعلامة: محمد الغزالي).

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين