ماكرون وأزمته مع العلمانية قبل الإسلام

لما بدأت الهجرة مطلع القرن العشرين بسبب الظروف الاقتصادية التي فجّرتها الحربان العالميتان الأولى والثانية اللتان كانتا أوربيتين بامتياز،

اختار المسلمون فرنسا في الدرجة الأولى،

لأنّهم كانوا يسمعون عنها أنّها بلد الحريات وحقوق الإنسان التي يقال إنّ العلمانية الفرنسية ترعاها هناك،

لكنهم بعد مائة عام من الهجرة والاستيطان كانوا أكثر الناس معرفة بفساد الطبقة السياسية الفرنسية، وزيف شعاراتها، ومراوغة علمانيتها، فلم تتمكن تلك القيم المزيفة من أن تدغدغ أحلامهم، أو تستهوي قلوبهم، أو تنال قَبولاً في عقولهم ،

لأنهم مع بزوغ فجر كل يوم كانوا يشاهدون كذباً وخداعاً وانحلالاً وتمييزاً عنصرياً ودولة ذات هوية كاثوليكية دينية بغطاء علماني لم يزدهم بفسادها إلا إيماناً، وما الصور الفاسدة التي شنت صحيفة (شارلي ايدو) حرباً تشويهية على الإسلام والمسلمين باسم الحرية من خلالها إلا خير شاهد على ما أقول.

وخلال تلك العقود المتطاولة كان الساسة الفرنسيون يراهنون على ذوبان المسلمين في المجتمع الفرنسي تدريجياً، إلا أنّه بعد مسيرة قرنٍ من الزمان تبين للرئيس الفرنسي (مانويل ماكرون) ولغيره من ساسة فرنسا أنّهم خسروا رهانهم ،

فقد قدَّرتْ إحصائية العام الماضي عدد المسلمين في فرنسا بأنّه بات يقترب من ستة ملايين مسلم فرنسي بما يقارب نسبة ال 9%من مجمل السكان، بينما تطالعنا التقارير العالمية بأن عدد المسلمين في فرنسا قد يتجاوز الثلاثة عشر مليوناً بحلول عام 2025!.

أما في العام 2050 فالأرقام التي تقدمها الدراسات عندما توضع على طاولة ديكتاتور مثل ماكرون لا يعرف لغة التلاقح الحضاري القرآنية(شعوباً وقبائل لتعارفوا...) فإنّها تبدو مرعبة بالنسبة له،ولأمثاله ممن لا يعرفون الاعتراف بالآخر إلا في دائرة ذوبانه في ثقافتهم،

وإنّما يستخدمون لغة الإقصاء على طريقة داعش وسائر الغلاة المتطرفين!.

ومما جعل ماكرون ومن كان على شاكلته ترتعد فرائصهم من تألق الإسلام في بلادهم أنّ الكثير من هؤلاء المسلمين هم من أبناء فرنسا الأصليين الذين ولدوا فيها وآباؤهم وأجدادهم فرنسيون،ومن ثَمَّ دخلوا في الإسلام باختيارهم دون أن يكون وراء إسلامهم جيوش أموية تغزو أوربا من الغرب، أو عثمانية تغزو أوربا من الشرق، ودون أن يقدم لهم الدعمَ أحدٌ من الخلق،

فإنْ هي إلا عَمَالَةٌ وافدة متواضعة قَدِمَتْ إلى باريس لتحسين وضعها الاقتصادي بسبب ظروفٍ دولية مجحفة كانت الطبقة السياسية الفرنسية شريكةً في إيصال البشرية إلى آلامها، فما كان ممن أغلقت في وجوههم سبل العيش في بلادهم التي كانت تستعمرها فرنسا إلا أن شدُّوا رحالهم نحو باريس بحثاً عن بصيص أملٍ في الدولة المستعمرة التي أوصلتهم إلى هذا المصير في ظلّ حاجة تلك الدولة إليهم على خلفية المجزرة الأوربية الدموية التي نتجت عن الحربين العالميتين،

فلما استقرّ المقام بالعمال المسلمين هناك أخذوا يبحثون عن مكان لصلاة الجمعة في قبو عمارة مأهولة،أو حديقة عامة لأدائها جماعة،

وبهذا الشكل بدأت القصة بكل بساطة إلى أن انتهت بهم مع الأيام إلى تأسيس مراكز إسلامية في كافة ربوع البلاد الفرنسية، وعلى رأس ذلك تم بناء مسجد باريس الكبير الذي غدا معلماً حضارياً من معالم أوربا المعاصرة.

اختلاط الفرنسيين مع المسلمين جعل الجليد الذي صنعه الإعلام المضلل يذوب شيئاً فشيئاً، فأخذوا يتعرفون على الإسلام وينخرطون في أمته يوماً بعد يوم فرادى وجماعات، فإذا بشخصيةٍ مثل شخصية المفكر الفرنسي (روجيه غارودي) التي كانت مرشحة الحزب الشيوعي الفرنسي لرئاسة الجمهورية الفرنسية في سبعينيات القرن الماضي تدخل في الإسلام، وتكتب سفراً في ذلك بعنوان: (الإسلام دين المستقبل)!.

وإذا بشخصية أخرى مقربة من قصر الإليزيه في وقتها من نحو الطبيب الفرنسي الكبير (موريس بوكاي) تدخل في الإسلام أيضاً، وهو ما صار يتكرر يومياً على كافة المستويات والشرائح الفرنسية في مشهد يصبح فيه الولاء لقيم الإسلام العظيمة مقدماً على قيم العلمانية المزيّفة، فإذا ما قالت العلمانية بحرية المرأة في أن تخرج عارية في الشارع قال الإسلام كلمته: إنّ من الواجب الشرعيّ على المرأة المسلمة أن تستر جسدها ومفاتنها أمام الرجال، فإذا بالفرنسيات المسلمات تسترْن أجسادهنّ استجابة لقيم الإسلام،بعيداً عن الحرية المطلقة للعلمانية!.

وإذا ما قالت العلمانية إنّ الربا في التعاملات المالية جائز أعلن الإسلام حكمه دون مواربة: إنّ الربا حرام بنصّ السنة والكتاب،لأنّ المال لا يلد المال،

ولأنّ المال لا يأتي إلا من خلال عملية اقتصادية متكاملة منعاً من تسلط طبقة ثرية على أخرى مسحوقة، فإذا بنا نجد المسلمين الفرنسيين لا يتعاملون بالربا،

وإنّما يشيّدون المصارف الإسلامية ليضعوا مدّخراتهم فيها.

وإذا ما قالت العلمانية الفرنسية إنّ الاختلاط بلا ضوابط مباح على إطلاقه رفع الإسلام صوته بما يعكس حكمه وثوابته وثقافته: إنّ الاختلاط حرام إلا من خلال ضوابط تحفظ الطرفين، وتمنع المرأة من أن تكون ألعوبة بيد الرجل،

فإذا بنا نجد المسلمين الفرنسيين يفتتحون مدارسهم النموذجية الخاصة بهم للمحافظة على قيم الإسلام وأحكامه التي تحدّد هويتهم،وتمنع الاختلاط المطلق فيما بين ذكورهم وإناثهم.

وإذا ما قالت العلمانية بإباحة الزواج المثلي بين رجلين أو امرأتين لم يتردّدِ الإسلام في أن يقول بملء فيه: إنّ هذا شذوذ في الفطرة الإنسانية،بعيداً عن هدف الحفاظ على النسل البشري المرجو من حكمة الزواج ناهيك عن الأمراض النفسية والجسدية والأخلاقية من وراء هذا الانحراف، فإذا بالمسلمين الفرنسيين يعلنون ثقافة تحريمه و تجريمه والنفور منه!.

هذا ما عناه ماكرون في حديثه عن النظام الموازي داخل المجتمع الفرنسي حين قال: (إنّ هناك عزماً معلناً على إحلال هيكلية منهجية ويعني بها الشريعة الإسلامية للالتفاف على قوانين الجمهورية، وإقامة نظامٍ موازٍ يقوم على قيم مغايرة....)!.

ولو أنّ ماكرون أمعن في كلماته لأدرك أنّ شرائح من الفرنسيين تزداد أعدادها و لا تتناقص لم تعد تؤمن بقيم العلمانية،وإنما بالقيم الإسلامية،

وأنّ قيم جمهوريته هزمت أما الإسلام من دون أن يستخدم الإسلام جيوش دولته التي أفلت مؤقتاً على أيدي أجداد ماكرون ومكائدهم وإرهابهم،

لكن ها هو الإسلام ذاته يهزمه في عقر داره!.

وبالتالي فمشكلة ماكرون ليست مع الإسلام في المقام الأول، وإنما هي مع قيم جمهوريته الزائفة التي فقدت بريقها، وسجلت تراجعها بين أبناء الشعب الفرنسي الذي بات يُقبل على الإسلام وقيمه ويعتز بها وليس على علمانية الجمهورية الفرنسية التي أعلنت هزيمتها أمام زحفه الحضاريّ الهادئ، لاسيما وأن الإسلام يأمر أتباعه في أن يحافظوا على الشعوب التي يعيشون بين أبنائها،

ويقدروا القوانين التي تحكم تلك المجتمعات مع الحفاظ على عقيدتهم وثقافتهم وخصوصيتهم ، وهو ما يصنعه المسلمون في كافة بلاد العالم التي يقيمون فيها،فقد أثبتت العقود المنصرمة أنّ المسلمين كانوا إيجابيين داخل تلك المجتمعات،

وفاعلين ومؤثرين في بناء الحب والتبادل الحضاري المشترك، أما وجود أفراد متطرفين صنعتهم الاستخبارات الغربية يغردون خارج السرب فهؤلاء يدينهم الإسلام ويدينهم المسلمون في كل مكان، وهؤلاء لا قيمة لهم في الميزان لأنه لا يخلو مجتمع من المجتمعات الإنسانية من أمثالهم بما فيه المجتمع الفرنسيّ نفسه.

وفي الواقع لو أنّ ماكرون عاد إلى خطابه لأدرك أنّ النظرية العلمانية تعطي الحرية لأفراد المجتمع دون تمييز، لكنه في كلماته الممجوجة يصرّ على أن يعطي المرأة حريتها في أن تتعرّى، ويمنع الفرنسية المسلمة من حريتها في أن تحتشم وتختار ما يناسبها من لباسها!.

وأنّ علمانيته المزعومة تعطي المواطن الفرنسي الحقّ في أن يتعلم عقيدته ويمارس شعائره، لكنه يصرّ على اتخاذ حزمة من القوانين تستثني المسلم الفرنسي من ذلك، وتحضه حضاً على أن يذوب في ثقافته التي يفرضها على المسلمين بالإكراه على طريقة كافة الديكتاتوريات التي تنتشر في العالم وتمنع الخصوصية الشخصية، لهذا يريد ماكرون منع المسلمين من تعلّم دينهم، وتحفيظ قرآنهم لأبنائهم في مدارسهم،ويأبى إلا أن يلاحقهم حتى في بيوتهم، بينما مدارس فرنسا الدينية الكاثوليكية تنتشر داخل فرنسا وخارجها بما في ذلك في دول عربية وإسلامية كلبنان ومالي، فأي تناقض صارخ هذا الذي يقع فيه دعيّ الحضارة ماكرون الذي لم يعلم بعد في أنّ الانسجام لا يأتي بمنطق القوة وإنما بقوة المنطق.؟!.

وأين هي العدالة والحرية الشخصية والمساواة في المجتمع الفرنسي الذي يتغنى بقيمه ماكرون من سياساته الجائرة تلك؟.

بل هل بقيت قيم في فرنسا بعد هذا كله؟.

_أقول لماكرون:

تسمح لنفسك أن تهاجم القرآن، ونبي الإسلام،وتصادر حريات المسلمين باسم الحرية ثم تصادر حريات الفرنسيين المسلمين متنكراً لقيم الجمهورية الفرنسية التي ما برحتَ تلقلق بها ليل نهار، ثم تزعم بعد ذلك أنك متحضر تعيش في بلدالحريات؟!.

_لقد قرأ كل متتبع لخطابك هزيمتك في ذلك الخطاب،

واهتزاز مواقفك، وضياع البوصلة لديك!.

كما قرؤوا اعترافك بأنّ الإسلام بات موجوداً في كل مكان من أنحاء الأرض حيث قلت:

(الإسلام يعيش أزمة في كل مكان)!.

والحقيقة أنّها أزمتك التي تعيش فيها غربةً مع علمانيتك،

وأزمة هزائمك المتلاحقة، وأزمة تدخلك في الشعوب المسلمة،

وأزمة نهب ثروات الشعوب في أفريقيا ولبنان وشرق المتوسط وفي كل مكان،

وأزمة جهلك بهذا الدين العظيم الذي رسمتَ صورته لنفسك من خلال ثقافة موروثة من العصور الوسطى التي انطلقت فيها حروب أجدادك الصليبية التي أسميناها نحن حروب الفرنجة فجاءت تصريحاتك من ثقافة تلك العصور الموغلة في الدماء لآبائك الذين سترِثُ عنهم الهزيمة على نحو ما ورثت ثقافة العنف والإقصاء في السياسة والخطاب!.

وفوق ذلك سأسجل لك كلمة استباقية للتاريخ من خلال تصريحي بأنّك ستعود من مخططك هذا خالي الوفاض، مهزوماً للمرة الثانية أمام الإسلام بالرغم من حزمة الإجراءات الإرهابية التي اتخذتها ضده، فسينال منك إسلامنا بلا سيف،

ودون أن يأتي إلى سواحلك بأساطيل تملأ الأفق، لأنّه دين الله الذي يستمد قوته من تأييد الله، ومن مخاطبته للفطرة والعقل السليمين معاً،ومن منهج حضاري راسخ في أسسه ورؤيته، ولأنّ الإسلام واضح في مسيرته فهو منذ أن وطأت قدماه أرض الجمهورية الفرنسية لم يتسلل إليها من شقوق جدرانها الخلفية،وإنّما حطّ رحله فيها بجواز سفر سليم وبتأشيرة صحيحة، وبإقامة نظامية، فشقّ طريقه من أبوابها المشرعة الأمامية،معرّفاً عن نفسه بنفسه، ومحاوراً أهل فرنسا بقوة المنطق، وروح المنطق في مواجهة منطق القوة التي تلوّح بها وترهب من أسلم أو يفكر في أن يعتنق الإسلام.

لقد قدم الإسلام إلى فرنسا بلغة التعايش والتلاقح الحضاري والسلم والسلام فاكتسب مزيداً من قلوب أبناء فرنسا في مقابل خسارتك لهم بذات الأدوات الفكرية،وسيكتسب منهم المزيد وأمام عينيك، ولن تستطيع أن تحرّك ساكناً،

لذلك لم تجدْ بدّاً من مواجهة المنطق الإسلامي وأَسْرِهِ للعقول والقلوب إلا بسلطة القوانين الجائرة التي تتنافى أول ما تتنافى مع علمانيتك المزيفة،

التي ضاقت ذرعاً بكل ما هو حضاري،كما ضقتَ به ذرعاً أيضاً،

لذلك ليس من المستبعد وقد أيّدتَ صحيفة (شارلي إيدو) الساخرة المتطرفة أن تعود إلى سياسة محاكم التفتيش الإرهابية التي يقشعر من إجرام أدواتها الثقلان،

ثم أنت في كل هذا إنما تعلن حقداً استقرّ في قلبك على الإسلام يشهد عليك فيه كتاب الله عز وجل حين قال:

(قد بدتِ البغضاء من أفواههم وما تخفي صدورهم أكبر)،

كما أنك في كل هذا تصنع ردود أفعالٍ ضدك أنت المسئول عن نتائجها تظن أنك قادرّ على استثمارها في وجه دين الرحمة الإسلام الذي يدخل الفرنسيون فيه كل يوم أفواجاً، والذي لن يتناقص المقتنعون به بعد حملاتك الحاقدة بل سيزدادون،

وستزداد أزمتك معه يوماً بعد يوم في هزيمتك وشخصيتك وجهلك بمبادئ هذا الدين الحنيف سواء كنت في سدّة الحكم أو أخرجك أصحاب الستر الصفراء منه إلى بيتك لتعيش ألماً جديداً فوق آلامك، وسيسجل التاريخ أنّ ماكرون كان أشهر قامع للحريات في باريس التي يسمونها بلد الحريات.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين