مآسي البيت النبويّ، تزامناً مع الإنجازات النبويّة التاريخيّة

إنّ أعظم درسٍ لنا في الواقعيّة النبويّة، واقتراب هذه الواقعيّة بنا من الأرض والواقع البشريّ، يتجلّى في وفاة أحبّاء النبيّ (ص) وأقرب الناس إليه، وفقدانه لأولاده وبناته جميعاً في حياته واحداً بعد الآخر، باستثناء السيّدة فاطمة التي توفّيت بعده بستّة أشهر. لم يكن أيٌّ من أولاده البنين حين تُوفّوا يَتجاوز سنّ الطفولة، ولم تكَد أيٌّ من بناته تتجاوز الثلاثين، فضلاً عن وفاة عددٍ من أحفاده الصغار أيضاً. إنّ أحدنا لن يتمنّى أبداً أن يقع له معشار ما وقع للنبيّ (ص) من محنٍ ومصائب في أهل بيته.

كانت السيّدة خديجة هي أُولى زوجاته، وهي أمّ أولاده جميعاً (إلّا إبراهيم الذي أنجبه من مارية القبطيّة). لقد عاشت معه، لا تشاركها زوجةٌ أخرى، خمسةً وعشرين عاماً، وكانت أوّلَ من صدّقه وآمن به حين تلقّى الإشارات الأولى من السماء وهو في سنّ الأربعين.

كان معتكفاً، على عادته، في (غار حِراء) خارج مكّة، وفوجئ حال خروجه من الغار بصوتٍ غير بشريٍّ يناديه! نظر في كلّ الاتّجاهات فلم يرَ أحداً حوله، ورفع رأسه إلى السماء ليفاجأ برؤية الملاك جبريل في صورته الكاملة يسدّ الأفق. انتابته رجفةٌ شديدة، وأسرع عائداً إلى بيته في مكّة وهو ينادي (دثّروني، دثّروني). استقبلته زوجته خديجة، وهدّأت من رُوعه، واستيقنت أنّ أمراً جَللاً يوشك أن يقع، وقالت له، كما تروي لنا السيّدة عائشة:

-       ".. أَبْشِرْ، فواللَّهِ لا يُخْزيك اللَّهُ أبداً، إنك لَتَصِلُ الرَّحِمَ، وَتَصْدُقُ الحديثَ، وَتَحْمِلُ الكَلَّ أي تساعدُ الضعيف ، وَتَقْري الضيفَ أي تُكْرِمُه ، وَتُعينُ عَلَى نَوائبِ الحَقِّ". [رواه البخاري]

كانت السيّدة خديجة بعد ذلك أوّل مَن صدّق نبوّة محمّدٍ حين كذّبه قومُه واضطهدوه وعذّبوه، مثلما فعلوا بعد ذلك مع كلّ مَن آمَن به واتّبعه.

لقد سبق أن فقد أباه عبدَ الله قبل أن يولد، ثمّ فقد أمّه آمنة وهو في السادسة، فتبنّاه جدّه عبد المطّلب، ولكن ليموت الجَدّ أيضاً بعد عامين والفتى الصغير ما يزال في الثامنة، فيتبنّاه عمّه أبو طالب إلى أن يشبّ عن الطوق ويتزوّج من خديجة.

وترفض قبيلته قريش الرسالةَ التي يحملها من ربّه، رفضاً شديداً وعدوانيّاً، وتحاصره في شِعب أبي طالب لمدّة ثلاث سنوات، وتجوّعه مع زوجته وأولاده، فتَمرض خديجة أثناء الحصار مرضاً ينتهي بموتها. وجاءت وفاتها بعد ثلاثة أيّامٍ فقط من وفاة عمّه وراعيه أبي طالبٍ، فيفقد بموتهما معاً خير سنَدَين له بعد الله في مواجهة المحاصِرين والمكذّبين والمتطاولين عليه من قومه.

وحدث أن فقد، قبل البعثة النبويّة، وقبل موت خديجة، ابنه الأوّل (القاسم) وعمره 17 شهراً.

ثمّ فقد بعد البعثة، عقب وفاة خديجة وقبل الهجرة، ابنه الثاني، والوحيد، عبد الله، وهو في السادسة.

ثمّ يضطرّه قومه إلى الهجرة من مكّة مع أهله وأصحابه، واللجوءِ إلى المدينة (يَثرِب آنذاك) ليبدأ هناك معركته التاريخيّة الكبرى لإقامة دولة الإسلام، وتأسيس عاصمتِها الأولى.

وفي المدينة، وعلى مدى أحد عشر عاماً هي التي تبقّت من حياته، عاش معارك وتحدّياتٍ خطيرةً ومصيريّةً ومتتاليةً أمام المشركين والمتربّصين بالإسلام شرّاً.

بدأت معاركه معهم منذ العام الثاني لهجرته من مكّة: معركةُ بدر أوّلاً، ثمّ معركة أحُد، معركة الخندق والأحزاب، صلح الحُدَيبِيَة، فتح مكّة، غزوة حُنين، الطائف، تبوك، فضلاً عمّا يزيد على عشرين غزوةً فُرضت عليه ضدّ المشركين، أي بمعدّل معركتين أو أكثر في كلّ عام، من أجل تطهير الجزيرة العربيّة من الوثنيّة وأعداء الرسالة الجديدة الخاتمة لكلّ الرسائل السماويّة، ولترسيخ جذور الدعوة ونشرها في العالم كلّه، قبل أن يستأثر به الله تعالى ويردّه إليه.

في الفترة نفسها؛ يَفقد كبرى بناته (زينب)، ولمّا تُكملِ الواحدة والثلاثين، وقد أنجبت عَليّاً وأُمامة.

وفي السنة الثانية للهجرة؛ يفقد ابنته (رُقَيّة)، وقد مرضت عشيّة غزوة بدر، فأمر زوجَها عثمان بن عفّان بالتخلّف عن الجيش والبقاء إلى جانبها لرعايتها، ولكنّها تموت قبل عودة الجيش من المعركة، وكانت ما تزال في السادسة والعشرين من عمرها.

ثمّ يَلحَق بها ولدها (عبد الله) وهو في السادسة.

وفي السنة التاسعة للهجرة، يفقد ابنته (أمّ كلثوم) وهي في الثلاثين. وكان قد تزوّجها عثمان بن عفّان بعد وفاة أختها رُقَيّة.

ومع كلّ هذه المآسي والأحداث، فإنّ المرّة الوحيدة التي نطق فيها النبيّ (ص) بالمعجزة، وخرج عن خطّه الواقعيّ في هذه السلسلة المتتابعة من الفقدان العائليّ المؤلم، والتي لم توقِفْهُ لحظةً واحدةً، مع ذلك، عن متابعة دعوته وفتوحاته وإنجازاته التاريخيّة الكبيرة، وقعت حين أخبر أقرب بناته إليه (السيّدة فاطمة الزهراء)، وقد كانت الوحيدة التي تبقّت من أولاده، بأنّ التحاقه بالرفيق الأعلى قد اقترب، وبأنّها ستكون أوّل مَن سيلحق به مِن أهله بعد موته:

-       عَنْ عَائِشَةَ أمِّ المؤمنين قَالَت: "اجْتَمَعَ نِسَاءُ النَّبِيِّ (ص) فَلَمْ يُغَادِرْ مِنْهُنَّ امْرَأَةٌ، فَجَاءَتْ فَاطِمَةُ تَمْشِي كَأَنَّ مِشْيَتَهَا مِشْيَةُ رَسُولِ اللَّهِ (ص)، فَقَال: مَرْحَباً بِابْنَتِي. فَأَجْلَسَهَا عَنْ يَمِينِه، أَوْ عَنْ شِمَالِه، ثُمَّ إِنَّهُ أَسَرَّ إِلَيْهَا حَدِيثاً، فَبَكَتْ فَاطِمَة، ثُمَّ إِنَّهُ سَارَّهَا فَضَحِكَتْ أَيْضاً! فَقُلْتُ لَهَا: مَا يُبْكِيك؟ فَقَالَتْ: مَا كُنْتُ لأُفْشِيَ سِرَّ رَسُولِ اللَّهِ (ص). فَقُلْتُ أي في نفسي مَا رَأَيْتُ كَالْيَوْمِ فَرَحاً أَقْرَبَ مِنْ حُزْنٍ.. حَتَّى إِذَا قُبِضَ أي الرسولُ (ص) سَأَلْتُهَا، فَقَالَتْ: إِنَّهُ كَانَ حَدَّثَنِي أَنَّ جِبْرِيلَ كَانَ يُعَارِضُهُ بِالْقُرْآنِ أي يراجعُه معه كُلَّ عَامٍ مَرَّةً، وَأنَّهُ عَارَضَهُ بِهِ فِي هذا الْعَامِ مَرَّتَيْن، وَلا أُرَانِي يقول (ص) إلّا قَدْ حَضَرَ أَجَلِي، وَإِنَّكِ أَوَّلُ أَهْلِي لُحُوقاً بِي، وَنِعْمَ السَّلَفُ أَنَا لَكِ. فَبَكَيْتُ لِذَلِك. ثُمَّ إِنَّهُ سَارَّنِي فَقَال: ألا تَرْضَيْنَ أَنْ تَكُونِي سَيِّدَةَ نِسَاءِ الْمُؤْمِنِين، أَوْ سَيِّدَةَ نِسَاءِ هَذِهِ الأُمَّة؟ فَضَحِكْتُ لِذَلِك". [رواه مسلم]

والمرّة الوحيدة التي تدخّلت فيها السماء لتضع النبيّ (ص) بوضوحٍ وجلاءٍ في الصورة القادمة، والمؤلمة، قبل أن تتحقّق هذه الصورة على الأرض، كانت بعد غزوة الأحزاب في السنة الخامسة للهجرة، حين نزل في أمر هذه الغزوة سورةٌ كاملةٌ هي سورة الأحزاب، لتؤكّد له الإرادةُ الإلهيّة، وفي آيةٍ قصيرةٍ واحدة، أمرين معجزين يضافان إلى معجزاته النبويّة العديدة، وإلى معجزات القرآن الكريم:

-       مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَٰكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ [الأحزاب: 40]

إنّه التأكيد الإعجازيّ الموجَّه لكلٍّ من النبيّ، أوّلاً، ثمّ لمعاصريه من البشر، مسلمين وغير مسلمين، وكذلك لنا وللأجيال البشريّة المتأخّرة، ثانياً، بأنّه:

1-   لن يبعث الله نبيّاً بعد محمّدٍ (ص) أبداً، فهو النبيّ (خاتَم النبيّين). ولقد مرّ أربعة عشر قرناً على بعثته لتتأكّد هذه الحقيقة بجلاءٍ للعالم كلّه. إنّه فاصلٌ زمنيٌّ طويلٌ لم يعرف مثلَه تاريخُ النبوّات، فلم يَحدث أن زاد أطولُ فاصلٍ بين نبيّين عن ستّة قرونٍ أو أقلّ من ذلك، وكان ذلك بين المسيح ومحمّد عليهما الصلاة والسلام.

2-   لن يعيش للنبيّ غلامٌ ذَكَرٌ يبلغُ مبلغَ الرجال. ومع ذلك، ورغم تلك النبوءة الإلهيّة الصريحة والمؤلمة، وللمفاجأة الصارخة للجميع، يُرزق بعد عامين بولده الثالث والأخير (إبراهيم). ولنا أن نتخيّل موقف المشركين والمنافقين من ولادة هذا الغلام. لقد وضع إنجابُه النبيَّ (ص)، في نظرهم، أمام تحدٍّ كبيرٍ آخر: كيف يدّعي إلهك أنّك لن تكون أباً لرجلٍ، وها قد وُلد لك غلامٌ جديد، وسوف يكبر ويغدو رجلاً؟! ولكن ما يلبث الوعد الإلهيّ أن يتحقّق، ويموت إبراهيم في السنة الثامنة للهجرة[1] ولمّا يبلغ العام. ثمّ لم يولد له (ص) ولدٌ بعد ذلك أبداً حتّى وفاته، رغم أنّ معظم زوجاته كنّ ما زلن في سنّ الحمل والولادة.

وكما أخبرها (ص)، لحقت فاطمة الزهراء بأبيها بعد ستّة أشهرٍ من التحاقه بالرفيق الأعلى، وهي لمّا تزَل في الثامنة والعشرين من عمرها، بعد أن أنجبت من عليّ بن أبي طالب كلّاً من الحسن، والحسين، والمحسن (توفّي المحسن في حياة جدّه أيضاً)، وولدت له كذلك أمَّ كلثوم (زوجةَ عمر بن الخطّاب) وزينبَ الكبرى (زوجة عبد الله بن جعفر بن أبي طالب).

سلسلةٌ مؤلمةٌ ومتواليةٌ من مآسي البيت النبوي، وفقدان أفراد الأسرة، كباراً وصغاراً، واحداً بعد آخر، واكبَتْ مسيرة الرسول (ص)، وتسارعت في السنوات القليلة المتبقّية من حياته، منذ خروجه في رحلته التاريخيّة، من أرض مولده، مكّة، هارباً من ملاحقة أهله وعشيرته وقومه، ومن اضطهادهم له وإنكارهم الشديد لنبوّته. تلك الرحلة التي أصبحت تاريخاً يؤرَّخ به ظهور الدولة الإسلاميّة.

لم يكن معه في رحلته إلّا صديقه المخلص أبو بكر الصدّيق. كانا يمشيان في الصحراء متسلّلَين متخفّيَين عن أعين الطامعين بالجائزة التي رصدتها قبيلتهما قريش لقتلهما، ولكنّه، مع ذلك، وبكلّ الثقة والإيمان بربّه، وبرعايته له وتسديده لخُطاه، كان ما يفتأ يُهدّئ من خواطر صاحبه، وهو يرى أقدام مطارديهما وقد وصلت إلى مدخل الغار الذي اختبآ فيه (غار ثور)، فيُطَمْئنَه بأنْ "لا تحزنْ، إنّ اللهَ معَنا" [التوبة: 40]:

-       عن أنسِ بنِ مالك: "أَنَّ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ حَدَّثَهُ قال: نَظَرْتُ إلى أَقْدَامِ المُشْرِكِينَ علَى رُؤُوسِنَا وَنَحْنُ في الغَارِ فَقُلتُ: يا رَسولَ اللهِ، لو أنَّ أَحَدَهُمْ نَظَرَ إلى قَدَمَيْهِ أَبْصَرَنَا تَحْتَ قَدَمَيْهِ لأنّ الغار كان أسفلَهما، فكان يكفي أحدَ المطاردِين أن يَخفضَ نظرَه وينظرَ إلى قدميه ليكتشف بسهولةٍ وجودَهما هناك -! فَقال: يا أَبَا بَكْرٍ ما ظَنُّكَ باثْنَيْنِ؛ اللَّهُ ثَالِثُهُمَا؟". [متّفق عليه، واللفظ لمسلم]

 واستطاع الخروج أخيراً من الغار، وتَمكّن من إكمال رحلته الشاقّة إلى (المدينة)، حيث ستتحقّق، خلال ما لا يزيد عن خمسة عشر عاماً من تاريخ هذه الهجرة، في عهده أوّلاً، ثمّ في عهد خلفائه الراشدين، الانتصارات الساحقة على الإمبراطوريّتين الأعظم في العالم في ذلك الوقت، الروم والفرس.

ومن (المدينة) ينطلق الجيش الإسلامي عام 12 للهجرة بقيادة خالد بن الوليد لينتصر على الجيش الفارسيّ بقيادة (هرمز) في معركة (ذات السلاسل) الكبيرة في موقع (كاظمة) بين الكويت والعراق الآن -.

ومن (المدينة) ينطلق الجيش الإسلاميّ عام 15 للهجرة (636 م) بقيادة خالد بن الوليد ليفتح مدينة (دمشق)، عاصمة الشام ومعقل الرومان المحتلّين آنذاك، بعد انتصاره على الرومان في (معركة اليرموك) الحاسمة جنوبي دمشق، وقد وقعت بعد أربع سنواتٍ من وفاة النبيّ (ص).

ومن المدينة، وفي العام نفسه؛ ينطلق جيشٌ إسلاميٌّ آخر بقيادة سعد بن أبي وقّاص ليفتح (المدائن) عاصمة الإمبراطوريّة الفارسيّة، وينتصر في (معركة القادسيّة)، في العراق، فقط بعد شهرٍ واحدٍ من معركة اليرموك الفاصلة.

كانت سلسلة المآسي النبويّة تواكب باستمرار سلسلة الإنجازات الاجتماعيّة، والإداريّة، والسياسيّة، والعسكريّة، والعلميّة المتلاحقة، تلك التي استطاع النبيّ (ص) تحقيقها في تلك الفترة القصيرة من عمره الدعويّ منذ أن تسلّم من السماء رسالة الإسلام، والتي لم تكن كلُّها قد تعدّت ثلاثةً وعشرين عاماً حين توفّي وهو في الواحدة والستّين من عمره (الثالثة والستّين بالسنين القمريّة).

 



[1] وفي روايةٍ أنّه" توفِّي يومَ الثلاثاءِ عاشرَ شهرِ ربيعِ الأوّلِ سنةَ عشرٍ من الهجرةِ".

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين