ماذا وراء العدوان على نبيّ الهدى والرحمة؟ (1) صلى الله عليه وسلم

العدوانُ على رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم لم يتوقّف في يوم من الأيّام، وتاريخ العلاقة بين الأديان يعجّ بالمواقف السيّئة المسيئة، تجاه الإسلام ونبيّه صلى الله عليه وسلم وقرآنه.. معَ ما كان يتحلّى به المسلمون، من تسامح، وطيب معاملة، وترفّع عن الإسفاف في الخصومة، والكذب والافتراء، وقد كان المسلمون أصحاب القوّة والغلبة، والسلطان والحضارة.. فما حدث في عصرنا ليس جديداً، ولا غريباً في حقيقته، ولكنّه غريب ومستنكر ومستهجن منْ حيثُ إنّ المسلمين كانوا يتوقّعون ممّن يختلفون معهم في الدين أن يتخلّوا عن عقليّتهم القديمة، ويتحلّوا بسلوك يتلاءم مع ما يدّعون من تقدّم حضاريّ، وقدر من التسامح وسعة الصدر، وشيء من الموضوعيّة، والاحترام لحرّيّةِ الإنسان، وأن يتقبّلوا الآخرين، ويحترموا أفكارهم ومشاعرهم.

وينبغي أن نعيَ ماذا وراء هذا العدوان الأثيم على سيّد الأنبياء والمرسلين صلى الله عليه وسلم.؟! وخلفيّاته التاريخيّة والنفسيّة، لنعرف ما يجب علينا.؟ وكيف يكون التفنيد والردّ، ولا نقف عند ظاهر هذا الموقف، ولا نتجاوزه..

وبادئ ذي بدء إنّنا نستطيع أن نرصد ثلاثة مواقف ومحطّات في تارِيخِ علاقة الغرب بالإسلام ونبيّه صلى الله عليه وسلم وكتابه.

فالمحطّة الأولى: هي الكذبُ والافتراء، والإساءة والإيذاء، وهذا الموقف قديم قدم ظهور الإسلام، وإعلان النبيّ صلى الله عليه وسلم دعوته على الملأ، فقد واجهه المشركون بشتّى أنواع الإساءات والاتّهامات والافترءات، من الجنون إلى الكذب، إلى السحر والشعر، إلى الغمز واللمز، والإيذاء الجسديّ والاستهزاء.. وعندما كلّت سواعد المشركين عَنْ حمل هذا اللواء الأثيم، تلقّفه عنهم أكثر أهل الكتاب من اليهود والنصارى، واشتدّت وتيرة هذه الحرب الفكريّة الثقافيّة مع ارتفاع وتيرة انتصار الإسلام وامتداد فتوحاته الكاسحة في شرق الأرض وغربها.. فعندما انْحَسر سلطان الكنيسة، وأفل نجمها، وفقدت هيمنتها على كثير مِنْ بقاع الأرض عكف كثير منْ رجالاتها في الغرب، الذي كان يئنّ في ظلمات تخلّفه وهمجيّته على نسج الأكاذيب والأساطير حول شخصيٌة النبيّ صلى الله عليه وسلم بما لا يتصوّره عقل عاقل، وذلك لتحصينِ مجتمعاتهم فيما يظنّون من خطر الحضارة الإسلاميّة، التي انتشر نورها في أكثر بقاع الأرض، وامتدّ خيرها وبرّها.. واستنام الغرب على هذا الأسلوب؛ يبدئ فيه ويعيد، ويكرّر ويزيد.. ولاشكّ أنّ الكذب والافترَاء بضاعة الحمقى المفلسين، ولن تكون لها الغلبة، مهما روّجوا لها، واتّخذوا من أساليب، وربّما خدع بها بعض البسطاء المغفّلين إلى حين.. وكانت ذروة هذا الموقف الحروب الصليبيّة الهمجيّة، التي قاد لواءها الحقد الأرعن على الإسلام وأهله، وكان فيها من البغي والإفساد في الأرض باعتراف مؤرّخيها ما يندى له جبين الإنسانيّة، ثمّ اندحرت، واندحر أصحابها بما فيهم من شرّ وبلاء..

ثمّ صحا فريق من الغربيّين المتحرّرين من سلطان الكنيسة وهيمنتها، الذين يحترمون عقولهم، بعدما ذاقوا منها الويلات، فكانت منهم المراجعة العلميّة الدقيقة، لكلّ ما ورثوه عنها من عقائد وأفكار، وأحكام وأخبار، في كلّ جانب من جوانب الحياة.. فكانت المحطّة الثانية من محطّات الموقف من الإسلام ونبيّه صلى الله عليه وسلم، وهي محطّة الإقرار والاعتراف والإنصاف على وجه العموم، ونفي الأكاذيب والأباطيل حول شخصيّة النبيّ صلى الله عليه وسلم ودعوته.

على أنّ أصحاب الموقف الأوّل لم يتخلّوا عن استراتيجيّتهم وخططهم في مواجهة الإسلام ونبيّه ودعوته، وإن كان صوتهم قد خفت لِتراجُعِ دورهم وتسلّطهم، وتهميش هيمنتهم على حياة الغرب الاجتماعيّة والفكريّة والسياسيّة، بعد الصراع المرير الذي خاضه المجتَمعُ معهم، فأقصاهم وهمّشهم..

ومع تراجع مدّ الاستعمار الجغرافيّ في العصر الحديث، وظهور الاستعمار الفكريّ والغزو الثقافيّ لبلاد المسلمين، ثمّ تراجع المدّ القوميّ واليساريّ، وظهور الصحوة الإسلاميّة تيّاراً كبيراً، وخياراً أوّلَ للأمّة عادت رحى الموقف الأوّل إلى الظهور، تدور من جديد، فكانت المحطّة الثالثة من محطّات الموقف من الإسلام ونبيّه صلى الله عليه وسلم، وهي محطّة حملة التشويه والسخرية والاستهزاء، باسم الأدب، وباسم الحرّيّة الشخصيّةِ، وباسم حرّيّة الرأي والإبداع، ويقود لواءها هذه المرّة الحداثة الغربيّة الملحدة، ومن ورائها قوى الاستكبار العالميّ، التي تسعى لبسط نفوذها وهيمنتها على أمم الأرض وشعوبها، بدعوى أنّهم متخلّفون عن ركب الحضارة، وأنّ أولئك هم أصحاب التقدّم الحَضاريّ، والوصاة على نشر الديمقراطيّة، والدفاع عن حقوق الإنسان..

ثمّ لابدّ لنا أن نتساءل: من أين أُتينا.؟ ويأتينا الجواب القاطع من القرآن الكريم: {... قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنْفُسِكُمْ...}[آل عمران:165]، فلابدّ أنّنا نتحمّل نحن المسلمين قدراً كبيراً من المسئوليّةً عمّا حدث، لأسباب ومواقف، قد تختلف بين فئة وأخرى، وعلى حسب ما تكون عليه من موقع ومسئوليّة..

فماذا وراء هذه الإساءات.؟ إنّنا يمكننا أن ننظر إلى هذا الموضوع من عدّة زوايا مجملة، بعدما تحدّثنا باختصار عن المحطّات التاريخيّة، التي مرّت بها علاقة الغرب بالإسلام، وهي لا تزال تتجاور في هذا العصر، ثمّ تحتاج كلّ زاوية منّا إلى بيان موجز، وتفصيل غير مسهب:

1 ـ الزاوية الأولى: زاوية أزمة الحضارة الغربيّة على وجه العموم، وما تعاني من تخبّطات.

2 ـ الزاوية الثانية: أزمة العقيدة النصرانيّة بحدّ ذاتها، وما تعانيه من تناقضات في المواقف، واختلال في الأقوال والتصريحات، ممّا هو ناشئ من مصادر النصرانيّة نفسها.

3 ـ الزاوية الثالثة: أزمة الصليبيّة العالميّة والتنصير، وما تتعرّض له من انتكاسات متنوّعة، وعلى أصعدة متعدّدة، حتّى على مستوى المسئولين الدينيّين والقادة.

4 ـ الزاوية الرابعة: زاوية النموّ السريع للإسلام في الغرب، وتخوّف الغرب من آثار ذلك، وعواقبه في المستقبل القريب.

5 ـ الزاوية الخامسة: زاوية واقع الضعف المزري للأمّة الإسلاميّة، وتقصيرها وتفريطها، وإساءة بعض أبنائها إلى دينها وقيمها.

1 ـ فأمّا الزاوية الأولى: زاوية أزمة الحضارة الغربيّة على وجه العموم وتخبّطاتها، فيمكن توضيحها، والإشارة إلى أهمّ جوانبها في النقاط التالية:

* شهادة كثير من علماء الغرب ومفكّريه أنّ العدّ التنازليّ للحضارة الغربيّة قد بدأ منذ زمن بعيد، وأنّ مسألة انهيار الحضارة الغربيّة مسألة وقت، والبديل المرشّح لميراث هذه الحضارة هو الإسلام.. والمعطيات والأدلّة التي يسوقها هؤلاء على ذلك كثيرة، أهمّها:

- الفساد الأخلاقيّ: من الفساد الجنسيّ، والشذوذ الجنسيّ، وأمراضهما المتفشّية، والخمر والمخدّرات، والجريمة المنظّمة، وتحكّم مافيا الفساد بكثير من المجتمعات الغربيّة ومقدّراتها، وتفكّك الأسرة، وسيرها في طريق الانهيار، وضياع الطفولة، وفساد أوضاع المرأة، وشيخوخة المجتمعات وتآكلها، والمجتمع القائم صورة لا روح فيه ولا قيم..

- الانشطار الإنسانيّ النوويّ للمجتمعات الغربيّة، وتسلّط الأنانيّة وتقديس الذات: حتّى أصبح الفرد محور الفلسفة، التي يقوم عليها المُجتمع، ولولا النظامُ الصارم الذي يحكمهم لانهار المُجتمع منذ عهدٍ بعيد.

- انهيار القيمِ في المجتمعات الغربيّة، وسنّة اللهِ في الحضاراتِ أنّ الحضارةَ عندما تفقد قيمها تؤذن بسقوطها وانهيارها، ولو بعد حين: {وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُواْ فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا}[الإسراء:16].

- اعتزاز الغربِ بالقوّة المادّيّة، والعلوم الدنيويّة، واغتراره بها، وارتكانه عليها، وبغيه في الأرض وتجبّره، وظلمه وعدوانه، وما مآل المفسدين المستكبرين إلاّ إلى تباب..

- وإنّ جزءاً لا يتجزّأ من بغي الغرب وطغيانه: عدوانه على قيم الآخرين، واستخفافه بها، وبوجه خاصّ عدوانه على القيم الإسلاميّة الإنسانيّة الرفيعة، فهذه بضاعة الفارغين، كما أنّه يخشى أن يفيء عقلاؤه إلى قيم الحقّ، ممّا يعجّل بسقوط منظومته المتآكلة المهترأة..

* إفلاس الحضارة الغربيّة من القيم الروحيّة، وفقد الكنيسة للهيمنة الروحيّة على الشعوب التي تؤمن بها.

وإنّ مثل الغرب في إدباره عن الإسلام، وكيده الدائب له كمثل المريض الذي يأبى أن يعترف بمرضه، ويأبى أن يعترف للطبيب بطبّه، ولا يكتفي بذلك، بل يرفع أعلى صوته، ويدّعي بغرور لا يحسد عليه أنّه الطبيب الأوحد، لجميع الناس، ومن كافّة العلل والأمراض.!؟ إنّ الناس لا يمكن أن يستجيبوا له إلاّ في حالة واحدةٍ، وهي إذا فقدوا عقولهم.. وأظنّ أنّهم لن يتخلّوا عن عقولهم بهذه السهولة..

2 ـ وأمّا الزاوية الثانية: وهي أزمة العقيدة النصرانيّة بحدّ ذاتها، وما تعانيه من تناقضات في المواقف، واختلال في الأقوال والتصريحات، ممّا هو ناشئ من مصادر النصرانيّة نفسها، وفقدها لمصداقيّة الثبوت، ممّا حمل كثيراً من أتباعها على الانفضاض عنها، فقد كتب العلماء والباحثون حتّى من النصارى أنفسهم عن ذلك الكثير، وأثبتوا من كتبهم نفسها اختلال عقائدهم بدءاً من عقيدة التثليث، التي لا تجد سنداً من منطق العقل، ولا حجّة من النقل.. وقد كشف الدكتور محمّد عبده يمانيّ، جانباً مهمّاً من تاريخ ذلك المعاصر وملابساته، إذ يقول في معرض حديثه عن دور وسائل الإعلام تُجاهَ نُصرة النبيّ صلى الله عليه وسلم: ".. مواجَهة أهل الكتاب بما جاء في سفر أشعيَا، الذي عثر عليه كاملاً في إحدى مغارات الأردنّ سنة /1958/ م، مع مخطوطات دينيّة كثيرة، وقد كان الرهبان والمؤمنون يختفون في هذه المغارات رهبانيّة، أو خوفاً من أهل الشرك أن يقتلوهم، أو يفتنوهم عن دينهم، كما كان الحال في قصّة أهل الكهف، وكان الموجود من سفر أشعيَا في التوراة جزءاً ممّا جاء في السفر المكتشف، وقد قام الفاتيكان بفحص هذا السفر ودراسته من سنة /1961/ م إلى /1965/ م فتبيّن لهم أنّ لهذا السفر تأثيراً كبيراً على قواعد المسيحيّة، وأنّها تلتقي مع الإسلام في كثير من الأصول، فأصدر الفاتيكان كتاباً أثنوا فيه على الإسلام خيراً، ودعوا فيه إلى الحوار مع المسلمين، وإلى نسيان الماضي، ثمّ أصدر الفاتيكان وثيقة أخرى هامّة، تضمّنت اعترافاً بالإسلام لأوّل مرّة، جاء فيها كما ذكرت: " إنّ كلّ من آمن بعد اليوم بالله خالق السموات والأرض، وربّ إبراهيم وموسى، فهو ناجٍ عند الله، وداخل في سلامه، وفي مقدّمتهم المسلمون ".

في هذه الفترة انتهز الفاتيكان فرصة وقوف المسلمين بعرفة سنة /1965/ م فوجّه منْ إذاعته تهنِئة إلى الملك فيصل رحمه الله، وإلى المسلمين بأداء مناسك الحجّ، وأجاب الملك على التحيّة بمثلها من الإذاعة، ولم يلبث الفاتيكان أن وجّه الدعوة إلى الحوار مع المسلمين للتعاون بخصوص حقوق الإنسان، وقد ذهب الدكتور معروف الدواليبيّ رحمه الله بأمر من الملك فيصل مع السفير السعوديّ في روما إلى الفاتيكان، وتمّ الحوار مع وزير الدولة في الفاتيكان الكاردينال " بينادولي " بكلّ مودّة واحترام، وتقرّر مواصلة الحوار فيما بعد، وقد أبلغ الدكتور الدواليبيّ الملك فيصل بنتائج اللقاء الودّيّ، ثمّ سافر وفد من علماء المملكة، كنت أنا واحداً منهم، وتمّ الحوار مع الفاتيكان في جوّ من الاحترام المتبادل، ثمّ دعانا مجلس الوحدة الأوربيّ في " ستراسبورغ " إلى جنيف لفتح الحوار مع مجلس الكنائس العالميّ البروتستانتي، ثمّ دعينا إلى وزارة العدل الفرنسية، ثمّ إلى جمعيّة الصداقة السعوديّة الفرنسيّة، وكانت لقاءاتنا يسودها روح المودّة والتعاون، وفي يوم مغادرتنا الفاتيكان خاطبنا الكاردينال " بينادولي " قائلاً: " لقد قرّرنا إيقاف التنصير الكاثوليكيّ في العالم الإسلاميّ، ونحن نطلب منكم أن تعودوا إلينا بالبشارة " يريد البشارة كما جاءت في سفر أشعيا، والتي تقول: " بعد المسيح يأتي نبيّ عربيّ من بلاد فاران ـ وفاران باللغة الآراميّة هي بلاد الحجاز ـ وعلى اليهود أن يتّبعوه، وعلامته أنّه إن نجا من القتل فإنّه النبيّ المنتظر، لأنّه يفلت من السيف المصلت على رقبته، ويعود إليها بعد ذلك بعشرة آلاف قدّيس " وهذا النصّ شاهد عليهم بقول الله عزّ وجلّ: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءهُمْ وَإِنَّ فَرِيقاً مِّنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُون}[البقرة:146]، وقد كتب البابا بولس السادس بعد ذلك إلى الملك فيصل رسالة إجلال واحترام، ذكر له فيها أنّ السفير الإسرائيليّ في روما طلب في اليوم التالي لسفر الدكتور الدواليبيّ مقابلة الكاردينال " بينادولي "، وطالب إيقاف الحوار بين الإسلام والمسيحيّة، ثمّ كرّر الطلب في خمسة أيّام متتالية، ثمّ لم يمض بعد ذلك إلاّ وقت قصير حتّى فوجئ العالم بموت البابا بولس في ظروف غامضة، ثمّ مات بعده الكاردينال " بينادولي " فتوقّف الحوار، ممّا يدلّ على صلة قتلة الأنبياء بموت البابا والكاردينال، لأنّهما رفضا طلب السفير الإسرائيليّ بإيقاف الحوار مع المسلمين ".

" ولعلّ من الأمور المهمّة جدّاً ما نشر حديثاً في كتاب: " مُحَمّد مؤسّس الدين الإسلاميّ، ومؤسّس أمبراطوريّة المسلمين " لمؤلّفه: القسّ جورج بوش المتوفّى سنة /1859/ م، وهو الجدّ الأكبر للرئيسين جورج بوش الأب والابن، ورغم أنّ الكتابَ مليء بالطعن والإنكار والخبث، فإنّ المؤلّف يناقض نفسه تحت ضغط الحقائق الدامغة، والتي يعرفها في العهدين القديم والحديث فهو يؤكّد أنّ النبيّ مُحَمّداً صلى الله عليه وسلم مكتوب في التوراة والإنجيل، ويقرّ أنّ النبوءات المسيحيّة وَاليهودِيّة تشيرُ إلى ظهوره وانتشار دعوتِه، كما يقرّ هو نفسه بصحّة نبوّته ورسَالته صلى الله عليه وسلم، وانتشار دعوتِه، ويشير إلى معجزة الإسراء والمعراج، فينقل ممّا هو مكتوب عندهم أنّه سيناطح " جند السموات "، وأنّه هو " النجم إذا هوى "، وقد وصفه بأنّه النبيّ، وأنّه الرسول، ثمّ أرجع ذلِك إلى عقيدة القضاء والقدر، وأنّه لا يقع في ملك الله إلاّ ما يريده الله، ثمّ يقول: " إنّ الله أراد أن ينتشر الإسلام، ولكن إلى حين، ثمّ يعودون إلى حظيرة الكنيسة، وأنّ الله أرسله عقوبة لأصحاب الديانات السالفة عندما انحرفوا، ويقول: إن الانتصارات الباهرة التي حقّقها النبيّ صلى الله عليه وسلم، وامتداد الدولة المذهل في ثمانين سنة فقط لا تفهم إلاّ أنّها من عناية الله المقدّرة سلفاً، ولكنّه يرى أنّها جاءت تأديباً لأصحاب الديانات السالفة الذين ضلّوا عن سواء السبيل، وقد ترجم الكتاب إلى العربيّة الدكتور عبد الرحمن عبد الله الشيخ من الأردنّ، وهذا الكتاب مهمّ لفهم عقيدة المحافظين الجدد، وفهم السياسات الأمريكيّة الداعمة لليهود بغير حدود، وهو واحد من مجموعة كتب هذا القسّ، الذي أعماه التعصّب عن رؤية النور المحمّديّ، وقد وعد المترجم بترجمة هذه الكتب، وطلب الدعم والعون ممّن يستطيعون ذلك " [مجلّة الرابطة العدد/490/ ربيع الأوّل 1428 هـ ص/56/]

وممّن يصوّر انفضاض الشعوب النصرانيّة عن الكنيسة أدقّ تصوير المفكّر المسلم محمّد أسد في كتابه: " الإسلام في مفترق الطرق " إذ يقول: " إنّ أهمّ العوامل الفكريّة التي تعوق التجديد والإحياء الدينيّ في أوروبا هو الرؤية المعاصرة لطبيعة المسيح على أنّه ابن الربّ، فالمفكّرون الأوروبيّون ينفرون غريزيّاً من صورة الإله التي تروّجها تعاليم الكنيسة، ولكنّ هذا هو التصوّر الوحيد المألوف لهم، ولذلك بدءوا برفض وإنكار صورة الربّ، ومعها كافّة الديانات " انظر: " الإسلام كبديل " د. مراد هوفمان ص/209/.

ويقول بعض الفلاسفة الغربيّين: " إنّ المأساة الحقيقيّة للمسيحيّة هي الدين المسيحيّ نفسه.. أي وعظ الناس بفكرة الربّ الإنسان ".

ومع كلّ ذلك فإنّ الغرب نصرانيّ صليبيّ حتّى العظم، عصبيّة، أو حرصاً على بعض المصالح والمنافع المادّيّة، أو حيث لا بديل عن ذلك إلاّ الخواء الروحيّ القاتل، بخلاف ما يشاع ويقال عن علمانيّة الغرب، وإنّ التحليل لعلمانيّة الغرب، وفكّ الرباط الدينيّ بين الكنيسة والدولة يوضّح بالرغم من كلّ ما يقال أنّ الدولة والمجتمع أي السياسة في أوسع معانيها إنّما هي ذات صبغة مسيحيّة، بالرغم من كلّ ما يساق لنفي هذه الحقيقة، سواء كان هذا من الدين المسيحيّ أو الحضارة المسيحيّة، لذلك يرى جيفري لانج أنّ تعبير علمانيّة الغرب تعبير خاطئ، ويجانبه الصواب تماماً.

إنّ الدين والدولة في جمهوريّة ألمانيا الاتّحاديّة على سبيل المثال يبدوان منفصلين، ولكن هناك أعياد وإجازات دينيّة تقرّها الدولة وتحميها، وهناك كذلك جمعيّات دينيّة تحظى باعتراف وحماية الدولة، وتحصّل الجهات الماليّة الحكوميّة ضريبة الكنيسة من أجل مساندتها، ويقوم مدرّسون حكوميّون بتدريس مادّة الدين في المدارس الحكوميّة، كذلك يتمّ الأخذ بالقَسَم بالله أمام المحاكم، وفي القوّات المسلّحة، كما يتمّ توظيف رجال الدين بهذه القوّات، وتجد على حوائط الفصول الدراسيّة بالمدارس المسيح مصلوباً ".

للمقالة تتمة في الجزء التالي..

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين