ماذا نفعل إذا أساؤوا إلى النبي عليه الصلاة والسلام؟

 

(1 من 3)

 

أو إذا أساؤوا إلى الخالق جَلّ وعَلا، أو إلى الإسلام أو إلى المسلمين؟ هل نقتل الجُناةَ أم نزلزل الأرضَ بالمظاهرات؟ سأجيب عن هذا السؤال، لكني سأروي لكم أولاً حكاية قصيرة.

 

في عام 1988 أصدرت دارُ نشر بريطانية روايةً عنوانُها "آيات شيطانية" لمؤلف هندي الأصل اسمه سلمان رشدي. كان رشدي قد نشر قبل ذلك ثلاثَ روايات لم تُثِر الأولى منها أي اهتمام، وحصلت الثانية والثالثة على بعض الاهتمام وعلى بعض الجوائز، لكنّ الرجل بقي مجهولاً للعالم الكبير حتى ذلك الحين ولم يُعرَف إلا في دوائر صغيرة متخصصة في عالم النشر والأدب، ولم تُبَعْ من كتبه الثلاثة سوى آلاف النسخ فحسب.

 

حفلت الرواية الرابعة (الآيات الشيطانية) بإساءات بالغة للإسلام ولنبي الإسلام عليه الصلاة والسلام، فأثارت حفيظةَ بعض المسلمين الذين اطّلعوا عليها، وسرعان ما بدؤوا بانتقادها علانية وأثاروا ضجة فجّرت موجة من الغضب في العالم الإسلامي، بدأت بمظاهرات عارمة في عشرات البلاد وانتهت بالفتوى الشهيرة التي أصدرها الخميني وأهدر فيها دم سلمان رشدي، مع عدد من المحاولات الفاشلة لاغتياله واغتيال مترجمي الرواية إلى اللغات الأخرى.

 

النتيجة التي تحققت بعد ذلك كله هي أن الرواية التي كان يُتوقَّع أن تُباع منها آلاف النسخ بيعت منها عشرات الملايين، وبعدما كان حظها أن تبقى حبيسةَ اللغة الإنكليزية التي كُتبت بها إذا بها تُترجَم إلى عشرات اللغات، أمّا الرجل الذي كان أقربَ إلى المجاهيل لا يعرفه إلا أهل المهنة فقد صار بطلاً عالمياً من أبطال الحرية، يعشقه ويتابع كتاباته عشراتُ الملايين حول العالم.

 

لقد قدَّمْنا بقِصَر نظرنا وتهوّرنا خدمة هائلة لعدو من أعداء الله، خدمة ما كان له أن يحصل على مثلها ولو أنفق الملايين. وزيادة في الغباء فقد اشترى المسلمون آلاف النسخ وأحرقوها في الساحات العامة، فساهموا بأموالهم في الحرب على الله ورسوله، لأن الناشر والمؤلف ربحا من بيع النسخ المحروقة أموالاً طائلة، ولم يقدّم هذا العمل الأخرق أيَّ فائدة، إذ سرعان ما طبع الناشر مئة نسخة مقابل كل نسخة أحرقها المتظاهرون.

 

*   *   *

 

مرة أخرى ارتكب المسلمون هذه الحماقة عام 2005، عندما أقدمت إحدى الصحف الدنمركية على نشر صور قبيحة أساءت فيها إلى نبينا الكريم عليه الصلاة والسلام. كان يسعُ مسلمي الدنمرك أن يتجاهلوا الحادثة فتموت في يومها، لا سيما وأن الصحيفة غير معروفة خارج ذلك البلد الصغير ولن يكون لها أثر كبير. ولكنهم صنعوا العكس:

 

أثاروا ضجة هائلة وسيّروا المظاهرات وطيّروا الأخبار في أنحاء الأرض، فعمّ الغضبُ العالمَ الإسلامي وخرجت المظاهرات في طوله وعرضه تهتف بالظاهر ضد الجريدة المجرمة، وتقدم لها بالباطن دعاية لم يحلم بها أصحابها في أكثر أحلامهم جموحاً، فتحولت جريدتهم في أسابيع معدودة من مطبوعة محلية مغمورة إلى مطبوعة عالمية مشهورة، وبدلاً من أن تُدفَن الصور المسيئة في مهدها فلا يطّلع عليها إلا أقل القليل من الناس فقد ساهمت تلك الغضبةُ الإسلامية العارمة في نشرها في أنحاء الأرض، فأعادت نشرَها -خلال الأشهر الأربعة التالية- صحفٌ في النرويج وهولندا وفرنسا وألمانيا وإيطاليا وإسبانيا وبلجيكا وبولندا ونيوزيلندا والولايات المتحدة، وعرضتها هيئة الإذاعة البريطانية، وملأت الإنترنت وشاهدها مئاتُ الملايين.

 

ثم تكررت المأساة نفسُها في حادثة المجلة الباريسية الأخيرة، فبعدما كانت مجلةً يسارية مكروهة بسبب سياستها العدوانية التي لم يسلم منها لا السياسيون ولا رجال الدين، ولا حتى بابا الفاتيكان، وبعدما كانت النسخ التي تطبعها لا تزيد عن ستين ألفاً في بلد فيه عشرات الملايين من القراء، إذا بنا نحوّلها إلى واحدة من أشهر المجلات في العالم!

 

وبدلاً من وقف الإساءة إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقد ضاعف الهجومُ المسلح حجمَ الإساءة مئات المرات، حيث بادرت المجلة نفسها إلى الثأر، فقررت إعادةَ نشر الرسوم القبيحة في عدد جديد أعلنت أنها ستطبع منه مليون نسخة، ثم أعلنت بعد أيام أنها قررت رفع الكمية إلى ثلاثة ملايين بسبب الطلب المتزايد، وأخيراً صدرت المجلة أمس في خمسة ملايين نسخة! ولم تتوقف إساءتنا إلى النبي صلى الله عليه وسلم بأن رفعنا عددَ مشاهدي الرسوم التي تسيء إليه من ستين ألفاً إلى خمسة ملايين في فرنسا، فقد زاد الأمر سوءاً عندما تضامنت مع "شارلي إيبدو" عشراتُ الجرائد والمجلات في أوربا، فأعادت نشرَ رسوماتها لتصل إلى عشرات الملايين في غير فرنسا من البلدان.

 

أرأيتم كيف يسيء المسلمون بجهلهم وتسرعهم إلى نبيهم الكريم بدلاً من تكريمه وصيانته من عبث العابثين وعدوان المعتدين؟ كم يجني المغفلون على الإسلام وعلى نبي الإسلام عليه الصلاة والسلام!

 

*   *   *

 

ما الذي صنعه المسلمون عندما سلكوا ذلك الطريق للردّ على الإساءات الثلاث الموصوفة آنفاً؟ لقد أثاروا ضدهم قوتين جبارتين لا طاقة لهم بهما، فخسروا المعركة وضاعفوا الضرر آلاف الأضعاف.

 

التتمة في المقالة الآتية إن شاء الله.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين