ماذا نفعل إذا أساؤوا إلى النبي عليه الصلاة والسلام -3-

 

 

بعيداً عن ملابسات الحادثة الأخيرة وردود الفعل عليها يبقى أصل الموضوع قائماً: إنّ حُبّ النبي -صلى الله عليه وسلم- من الإيمان، بل هو من أرفع درجات الإيمان، فلا يكون العبد مؤمناً إيماناً كاملاً حتى يكون النبيّ أحبَّ إليه من نفسه ومن الناس جميعاً. ومن تَبِعات محبته -عليه صلاة الله وسلامه- الانتصارُ له والدفاع عنه، فلا يسكت عن الإساءة إليه ويترك الانتصارَ له مع القدرة عليه إلا منافق أو مؤمن ناقص الإيمان. ولكن كيف يكون الانتصار الحقيقي لنبينا الكريم وكيف يكون الدفاع عنه والإحسان إليه؟

 

*   *   *

 

إن سَبَّ النبي عليه الصلاة والسلام جريمةٌ تستحق القتل ما لم يَتُب السابّ (في أحد قولَي الفقهاء، وهو ما أختارُه لأنه يوافق فعلَه عليه الصلاة والسلام؛ قال شيخ الإسلام في "الصارم المسلول": "كان أصحابه إذا رأوا مَن يؤذيه أرادوا قتله، فيعفو عنه صلى الله عليه وسلم ويبيّن لهم أن عفوه أصلح"). ولكننا نصطدم هنا بسؤال مهم: هل يحق لعامة الناس إقامةُ الحدود وتنفيذ القصاص؟ وفي الحالة التي نبحثها الآن، حالة الإساءة إلى النبي عليه الصلاة والسلام في دول الغرب، يواجهنا سؤال آخَرُ كبير أهم من هذا بكثير.

 

جواب السؤال الأول مقطوع فيه عند العلماء، فقد اتفقوا على أن إقامة الحدود (ومثلها القصاص، خلافاً للتعزير) من اختصاص الإمام أو نائبه الذي فوّضه بإقامتها. قال ابن رشد في "بداية المجتهد": "وأما من يقيم هذا الحد (يريد جلد شارب الخمر) فاتفقوا على أن الإمام يقيمه، وكذلك الأمر في سائر الحدود". وفي "الموسوعة الفقهية": "اتفق الفقهاء على أنه لا يقيم الحدّ إلا الإمام أو نائبه".

 

السؤال الثاني الأهم: ما حكم إقامة الحدود وغيرها من أحكام الإسلام في غير أرض الإسلام، في البلاد التي لا يحكمها المسلمون ولا يشكلون سوى أقليات ضئيلة فيها؟ اتفق فقهاء المذاهب الأربعة على أن الجرائم الموجِبة للعقوبة هي التي تُرتكَب في دار العدل، أي في دار الإسلام، ولا عقوبةَ على الجرائم المرتكَبة في دار الحرب (دار البغي) لأنها لا ولايةَ لوليّ الأمر عليها، إنما تنحصر ولايته في دار الإسلام.

 

*   *   *

 

إن محبة النبي صلى الله عليه وسلم توجب الحرص على وقف الإساءة إليه، فإنّ وقفَها ومنعَها من الانتشار والتكرار هو الهدف وليس الثأر والانتقام، فكيف نحقق الهدف المطلوب، نحن أفراد الناس العاديين، بعدما عرفنا الجواب عن السؤالين السابقين؟

 

لو عزمَت جريدةٌ من جرائدهم على نشر ما يُسيء إلى ديننا ونبينا واتصلنا بها محاولين إقناعها فلم تستجب، فماذا نفعل؟ نهدد ونتوعد وننذر بالقتل والتفجير؟ لا هذا الطريقُ مضمونٌ ولا ذاك، فقد اتصلت الجاليةُ المسلمة في الدنمرك بجريدة "يولانس بوسْدن" حين أعلنت عن مسابقتها المشؤومة لرسم نبينا الكريم عليه الصلاة والسلام، فلم تستجب وأصرّت على المضيّ في المشروع. وتلقّت مجلة "شارل إيبدو" الفرنسية تهديدات لا تُحصى، ولم تَرْعَوِ أيضاً. لا، إنه طريق طويل محفوف بالمزايدات والابتزاز؛ القانون هو الحل.

 

على كل ما فيه من علل ونقائص يبقى العالم الغربي في هذا العصر أقربَ إلى العدالة والنظام من أكثر بلدان المسلمين، والمدخل الصحيح لمعالجة هذه التجاوزات الآن وفي المستقبل هو المدخل القانوني، فلو كان المسلمون واعين صادقين فعليهم أن يشكّلوا جماعات ضغط سياسية في البلاد التي يقيمون فيها، وعلى القانونيين منهم أن يدرسوا قوانين تلك البلدان ويبحثوا حتى يهتدوا إلى أفضل الطرق لتشريع قوانين تجرّم الإساءة إلى المقدسات والرموز الدينية.

 

ينبغي أولاً السعي إلى إعادة صياغة القوانين التي تحمي حرية الرأي والتعبير بحيث تتضمن شرطاً ينص على احترام الرموز الدينية -الإسلامية وغير الإسلامية- وعدم الإساءة إليها، باعتبار أن الإساءة إليها هو إساءة إلى أتباع الديانات أنفسهم. ولن يكون تقنين هذا الشرط صعباً لأن له سابقة في القوانين الأوربية كلها، وهو قانون "منع معاداة السامية" الذي تقرّه كل الدول الأوربية تقريباً. ولنا أيضاً سابقة فيما صنعه اليهود مؤخراً، فقد نشطوا في العقدين الأخيرين لإضافة قوانين تجرّم إنكارَ المحرقة اليهودية وتعتبر إنكارها نوعاً من اللاسامية، ونجحوا في ذلك نجاحاً باهراً، فصار إنكارُ المحرقة جريمةً يعاقب عليها القانون في عشر دول أوربية على الأقل (ألمانيا والنمسا وبولندا وفرنسا وبلجيكا وإيطاليا وإسبانيا وسويسرا وسلوفاكيا ولوكسمبورغ).

 

الطريق الآخر الذي ينبغي أن تمشي فيه الجاليات الإسلامية في أوربا هو تفعيل "القوانين المتعلقة بالإساءة إلى الرموز الدينية" والتي يكاد لا يخلو منها النظامُ القانوني في أي بلد أوربي، حيث تُعتبَر الإساءة إلى الأديان مخالَفةً قانونيةً في القوانين الجنائية في بريطانيا وهولندا والنمسا وإسبانيا وفنلندا على سبيل المثال، كما ينصّ البند الخامس في القانون الأساسي الألماني (غروندغيستس) على حق حرية الرأي والتعبير بشرط عدم إثارة الكراهية ضد الأعراق والديانات.

 

*   *   *

 

أخيراً ينبغي أن يدرك المسلمون (والناس جميعاً) أن الرصاصة لا تقتل فكرة. لم يحصل في التاريخ قط أن ماتت فكرةٌ لأن صاحبها مات في سبيلها، بل العكس هو ما يحصل على الدوام، فإذا أردتَ أن تُحيي فكرة اقتل صاحبَها لتعيش. أليس هذا هو ما حصل مع الغلام الذي قتله الملك؟ مات الغلام وانتشرت فكرته بين الناس فآمن بها أكثر الناس. وفي هذا المعنى الرفيع يقول سيد قطب رحمه الله كلمته المشهورة التي تحفظونها وترددونها في كل حين: "إن كلماتنا تظل عرائس من الشمع حتى نموت في سبيلها، فإذا متنا في سبيلها دبّت فيها الروح وكُتبت لها الحياة".

 

إنها قاعدة إنسانية وليست قاعدة إسلامية: كل فكرة تكون نبتة ضعيفة أو شتلة صغيرة، فإذا رُويت بالدماء استحالت دوحةً باسقة تضرب جذورُها عميقةً في الأرض وتمتد أغصانها عاليةً في السماء.

 

لا بد من إقرار قاعدة القواعد في الخلافات والصراعات الفكرية (بما فيها إساءات الكفار إلى ديننا وقرآننا ونبينا العظيم الكريم): كما أنّ القوةَ لا تردّها إلا القوةُ والحديدَ لا يفلّه إلا الحديدُ كما قالت العرب، فكذلك نقول: لا تهزم الكلمةَ إلا كلمةٌ ولا تردّ الفكرةَ إلا فكرة، وإنّ حرب الكلمات والأفكار لتعلو في كثير من الأحيان على حروب المدافع والرصاص.

 

وإن من عجيب أمر القرآن أنه قرر هذا المبدأ بكل وضوح، فطالبَنا بالردّ على القوة بالقوة وعلى الفكرة بالفكرة، فقال -عز وجلّ- في موضع السلاح والقتال: {وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا} وقال في موضع الدعوة والمناظرة: {وجادلهم بالتي هي أحسن}.

 

إن الإعلام الدولي قوة هائلة، بل إنه واحدة من أقوى قوى العصر على الإطلاق، وعندما نستعدي جزءاً منه فإننا سنستعدي الكل وسوف نفتح على أنفسنا معركة لا طاقة لنا بها ولن نخرج منها أبداً منتصرين. قلتُ آنفاً (في جزء المقالة الثاني) إن الإعلام ليس معنا بجملته، ولكنه عالم واسع جداً ولا بد أن فيه كثيرين، كثيرين جداً، ممن يحملون قلوباً رحيمة وعقولاً منصفة، ممّن كنا نرجو منهم الانتصار للحق والاصطفاف مع المظلومين. لقد خسرنا منهم في الجولة الماضية كثيرين، وينبغي علينا، بل يجب وجوباً، أن نبذل ما في وسعنا من الجهد والحكمة لاسترجاعهم، وأن نخوض هذه المعركةَ بالذات بالسلاح الوحيد الذي يصلح لها: سلاح الكلمات والأفكار.

 

إن من أعجز العجز أن نردّ على الفكرة برصاصة؛ لا يصنع ذلك إلا من يخشى الهزيمة في معركة الأفكار لأن أفكاره ضعيفة متهافتة، وليست هذه أبداً من خصائص ديننا الإسلامي العظيم.

لمتابعة الحلقة الثانية من المقال الرجاء اضغط هنا

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين