ماذا نفعل إذا أساؤوا إلى النبي عليه الصلاة والسلام؟ -2-

 

ما الذي صنعه المسلمون عندما سلكوا ذلك الطريق للردّ على الإساءات الثلاث الموصوفة آنفاً (في الجزء الأول من المقالة)؟ لقد أثاروا ضدهم قوتين جبّارتين لا طاقةَ لهم بهما، أولاهما هي قوة الإعلام الدولي.

 

صحيحٌ أن الإعلام غير منصف بالنسبة للإسلام والمسلمين، ولكنّ هذا حكمٌ عام له استثناءات كثيرة، كثيرة جداً جداً، لأن الجهاز الإعلامي الدولي ضخم جداً جداً، ورغم كثرة ما فيه من خصوم للإسلام والمسلمين إلا أن الأصدقاء والمحايدين فيه أيضاً كثيرون، فلماذا نحولهم إلى أعداء؟ إنهم يتضامنون معاً عندما يلاحق الخطرُ عالمَهم ويهدد أهمَّ أساس تقوم عليه مهنتهم: حرية الرأي والتعبير.

 

بعد الهجوم المسلح على مجلة شارلي إيبدو بيوم واحد وجهت منظمة "مراسلون بلا حدود" نداء دولياً إلى وسائل الإعلام تطالبهم فيه بإعادة نشر رسوم "الصحيفة المفجوعة" كما وصفتها، وقال النداء: "لا يمكن لحرية الإعلام أن تتنازل أمام الوحشية ولا أن تستسلم للابتزاز". وسرعان ما انتشرت حالة من السُّعار في مئات الجرائد حول العالم، فظهر كثير منها متشحاً بالسواد وركزت معظمُ عناوينها الرئيسية على الخطر الذي يهدد أهم قِيَم الحضارة الغربية، الحرية. وشاركت في تلك الحملة أكبرُ الصحف العالمية وأهمها، فكانت العناوين الرئيسية للديلي تلغراف والتايمز والغارديان البريطانية على سبيل المثال: "حرب على الحرية"، "هجوم على الحرية"، "حرب على الديموقراطية".

 

*   *   *

 

القوة الجبارة الثانية التي نثيرها ضدنا عندما نسلك هذا المسلك هي واحدة من أقوى الغرائز البشرية، غريزة يشترك بها الناس جميعاً ويعتبرها علماء النفس من أهم خصوصيات الكائن الإنساني، وهي غريزة الفضول. إنها القوة الدافعة التي حركت الإنسانَ على الدوام باتجاه اكتشاف العالم وإبداع وسائل الحياة، وهي من القوة بحيث يبذل الإنسانُ في سبيل إشباعها الجهدَ والمال.

 

لقد ثبت أن أيّ محاولة للحجر على المادة المعرفية (المقالات والقصائد والكتب والصور والأفلام وغيرها) أيّ محاولة لمنع تدفقها وتداولها بالقوة يصنع واقعاً عكسياً، حيث تزداد انتشاراً بسبب شغف الناس بالاطلاع عليها استجابةً للفضول الذي ينمو مع المنع والردع.

 

ومن أهم ما يساعد على انتشارها الانفتاحُ الثقافي العالمي وقوة وسائل التواصل الحديثة وانتشار الإنترنت، وقد صارت هذه الظاهرة منذ اثنَي عشر عاماً حالة أكاديمية موصوفة معروفة في علم الاتصالات تسمى "تأثير سترايْسانْد". اسمحوا لي أن أتحدث عنها قليلاً، لأن فهمها سيساعد الدعاة والعلماء والمربّين والمفكرين على النظر بصورة أفضل إلى واحدة من أكثر المسائل إثارة للجدل في التراث التربوي وفي الفكر الإسلامي المعاصر، وهي مسألة الوصاية على الجمهور وتحديد ما يجوز للناس الاطلاع عليه وما لا يجوز.

 

من باب الاختصار سأتجاوز سبب تسمية الظاهرة إلى وصفها والتعريف بآثارها. عندما تحاول جهة رقابية ما، سواء أكانت جهة حكومية أو دينية أو تجارية أو غيرها، عندما تحاول منع "مادة معرفية أو إعلامية" بالقوة (والمقصود هنا هو قوة القانون بشكل أساسي، ويلحق بها كل أنواع القوة، بما فيها قوة الضغط الشعبي العام) فإن الأثر يكون عكسياً في أكثر الأحيان، حيث يَمنح المنعُ تلك المادةَ قوةً دافعة تساعد على ترويجها ونشرها بدرجات قد تصل إلى آلاف الأضعاف مقارَنةً بوضعها الابتدائي.

 

هذا هو وصف الظاهرة، أما سببها فهو "غريزة الفضول" التي تدفع الناس إلى التساؤل: لماذا مُنعت هذه المقالة؟ لماذا مُنع هذا الكتاب؟ لماذا مُنع هذا الفلم؟ ولا يمكن الجواب إلا بالاطلاع على المادة الممنوعة، فلا تزال تنتشر بمقدار ما يملك الناس من فضول، وفضول الناس غير محدود، لذلك فإن انتشار المادة الممنوعة يصبح -أيضاً- غيرَ محدود.

 

عندما يناقش الأكاديميون هذه الظاهرةَ يضربون لها أمثلة كثيرة، منها موقع "ويكيليكس" الذي حاولت الحكومة الأمريكية منعَه من نشر الوثائق السرية لوزارة الخارجية أواخر عام 2010 ولاحقت مزوّدي الخدمة الذين يستضيفونه، فتسببت في انتشار تلك الوثائق وإعادة نشرها بواسطة آلاف المواقع حول العالم واطلع عليها عشرات الملايين من الناس. لكن مهما تكن الأمثلةُ التي يضربونها للتأكيد على صحة هذه النظرية فإنهم لن يجدوا أفضلَ من الأمثلة التي قدّمتُها في الجزء الأول من هذه المقالة: كتاب سلمان رشدي ورسومات صحيفة "يولانس بوسدن" الدنمركية ومجلة "شارل إيبدو" الفرنسية.

 

*   *   *

 

سيقول قائل: هل معنى هذا أن نسكت عن كل إساءة إلى نبينا وديننا تصدر عن أي مجلة أو جريدة في الدنيا؟ نقول: لا، ليس بالمطلق، بل نَقدر لكل حالة قَدْرَها، فإذا كانت الإساءة محدودة مغمورة فلا ينبغي، بل لا يجوز، أن نساهم نحن بجهودنا الذاتية في إذاعتها ونشرها، أما إذا كانت إساءة مشهورة منشورة فعلينا أن نتصدى لها ونحاول وقفها (بالمنهج الذي سأعرضه في الجزء الثالث من المقالة غداً إن شاء الله).

 

لكن ما هي النقطة التي تفصل بين الإعراض والإنكار؟ إنها النقطة التي يحددها قانون "المنفعة الحدّية"، وهو قانون مشهور في علم الاقصاد ولكنه يُستعمَل في كل نواحي الحياة تقريباً. خذوا الطعام الذي نأكله على سبيل المثال: كم نأكل؟ إن الكمية التي يأكلها العقلاء محددة بهذا القانون، فأنت تبدأ بالأكل لدفع الجوع، وتكون اللقمة الأولى هي الأعلى من حيث الأهمية، ثم تنخفض القيمة المُضافة مع كل لقمة جديدة، وكلما مضيت بالأكل اقتربتَ من تحديد الكفاية، فإذا وصلت إلى "نقطة التعادل" أو إلى رأس منحنى الفائدة سيبدأ المنحنى بالانحدار باتجاه التخمة والضرر، وكلما زاد أكلك بعد تلك النقطة زاد الضرر وصولاً إلى نقطة الضرر الأكبر.

 

لم يعرف علماؤنا الأقدمون هذا القانون، ولكنهم أدركوا بفطنتهم أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يمكن أن يؤدّيا أحياناً إلى عكس المطلوب، إلى إضعاف المعروف وتقوية المنكر، فماذا يكون حكم الأمر والنهي في تلك الحالة؟ لقد صاغوا قاعدة من أهم قواعد "الحسبة" للجواب عن هذا السؤال، وهي قولهم إن إنكار المنكر واجبٌ ما لم يتسبب في منكر أكبر، فإذا تسبب فيه فتركُ الإنكار هو الواجب. أخذوا هذا الحكم الراشد من القاعدة الأصولية العظيمة: "درء المفاسد مقدَّم على جلب المصالح"، وفي هذا المعنى يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: "لا يجوز دفعُ الفساد القليل بالفساد الكثير ولا دفعُ أخف الضررين بتحصيل أعظم الضررين".

 

*   *   *

 

عندما نطبق ما سبق على حوادث الإساءة الإعلامية الغربية إلى النبي عليه الصلاة والسلام (أو إلى الإسلام) فإننا نجد أن إهمال المطبوعة الصغيرة القليلة الانتشار يحقق منفعةً عُليا مقارَنةً بالإنكار والإشهار، وكلما زادت أهميةُ المطبوعة ومعرفةُ الناس بها تتضاءل منفعة الصمت لصالح منفعة الاعتراض والاستنكار، حتى نصل إلى نقطة يصبح الاحتمالان عندها متعادلَين، وبعدها، ومع مطبوعات أكثر رواجاً وأكثر قرّاءً، يصبح الصمت والتجاهل أكثرَ ضرراً من الإنكار، وعندها ينبغي البدء بالعمل الصحيح لوقف الإساءات وتحجيمها.

 

أما كيف يكون "العمل الصحيح" الذي يقلل الضرر ولا يَزيده فهذا هو موضوع الحلقة الثالثة والأخيرة في هذه السلسلة إن شاء الله.

 

الجزء الأول من المقال تجده هنا

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين