ماذا على المسلم بعد الحج حاجاً أو غيره -2-

 

 

1. الدعاء

وسط آيات الصيام جاءت آية الدعاء ، وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ"[1]  والمعنى اللطيف فيها أن العبد فِي مَقَامِ الدُّعَاءِ لَا وَاسِطَةَ بَيْنَه  وَبَيْنَ الله تعالى لهذا لم يَقل " فقل إنى قريب " بل قال " فإنى قريب " ووسط آيات الحج جاء الدعاء الجامع "رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ"[2]  ومعنى الصلاة فى أصل لسان العرب الدعاء. قال العلامة القاري[3]  (( ( «الدعاء هو العبادة» )) الحقيقية التي تستأهل أن تسمى عبادة، لدلالته على الإقبال على الله * والإعراض عما سواه *؛ بحيث لا يرجو ولا يخاف إلا إياه * قائماً بوجوب العبودية * معترفاً بحق الربوبية * عالماً بنعمة الإيجاد * طالباً لمدد الإمداد * على وفق المراد * وتوفيق الإسعاد *، ((ثم قرأ {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ[4]}وفى التنزيل أخبر تعالى أن الكفار أنهم إذا مسهم الضر في البحر دعوا الله مخلصين له الدين، وأن الإنسان إذا مسه الضر دعاه لجنبه أو قاعداً أو قائماً. "قُلْ ما يَعْبَؤُا بِكُمْ رَبِّي لَوْلا دُعاؤُكُمْ"[5]

 

والدعاء من أقوى الأسباب في جلب المنافع ودفع المضار وفى الصحيح  "مَنْ لَمْ يَسْأَلِ اللَّهَ غَضِبَ الله عليه "[6]

 

اللَّهُ يَغْضَبُ إِنْ تَرَكْتَ سُؤَالَهُ ... وَبُنَيَّ آدَمَ حِينَ يُسْأَلُ يَغْضَبُ

 

قال ابن عقيل: قد ندب الله تعال إلى الدعاء، وفي ذلك معان: أحدها: الوجود، فإن من ليس بموجود لا يدعى.

 

الثاني: الغنى، فإن الفقير لا يدعى.

 

الثالث: السمع، فإن الأصم لا يدعى.

 

الرابع: الكرم، فإن البخيل لا يدعى.

 

الخامس: الرحمة، فإن القاسي لا يدعى.

 

السادس: القدرة، فإن العاجز لا يدعى.بهذا يتبين أن الدعاء مخ العبادة ولبها، وأنه من أهم أنواع العبادة ، وأنه مما لا ينفك عنه مسلم فى أي طرفة عين أو تنفس نَفَس، فى موسم أو قبله أو بعده أو خلاله. حتى يأتيه اليقين

 

2. التقرب الأسبوعي

 

من فاته التقرُّب أو تقرَّبَ - أيام النحر – فأمامه فرصة أسبوعيا ليتقرَّب إلى الله تعالى فى الصحيح: «مَنِ اغْتَسَلَ يَوْمَ الجُمُعَةِ غُسْلَ الجَنَابَةِ ثُمَّ رَاحَ، فَكَأَنَّمَا قَرَّبَ بَدَنَةً، وَمَنْ رَاحَ فِي السَّاعَةِ الثَّانِيَةِ، فَكَأَنَّمَا قَرَّبَ بَقَرَةً، وَمَنْ رَاحَ فِي السَّاعَةِ الثَّالِثَةِ، فَكَأَنَّمَا قَرَّبَ كَبْشًا أَقْرَنَ، وَمَنْ رَاحَ فِي السَّاعَةِ الرَّابِعَةِ، فَكَأَنَّمَا قَرَّبَ دَجَاجَةً، وَمَنْ رَاحَ فِي السَّاعَةِ الخَامِسَةِ، فَكَأَنَّمَا قَرَّبَ بَيْضَةً.."[7]  هذا تقرُّب دائم بلا مال ولا دماء ، ولا ضيق فى الزمان ، ألا ما أعظم فضل الله وفيضه لمن تعرَّض له .وعن فضل التقرب إلى الله تعالى فى الصحيح يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: ، إِنْ تَقَرَّبَ إِلَيَّ بِشِبْرٍ تَقَرَّبْتُ إِلَيْهِ ذِرَاعًا، وَإِنْ تَقَرَّبَ إِلَيَّ ذِرَاعًا تَقَرَّبْتُ إِلَيْهِ بَاعًا، وَإِنْ أَتَانِي يَمْشِي أَتَيْتُهُ هَرْوَلَةً " }[8] ويقول أيضًا "..وَمَا تَقَرَّبَ إِلَيَّ عَبْدِي بِشَيْءٍ أَحَبَّ إِلَيَّ مِمَّا افْتَرَضْتُ عَلَيْهِ، وَمَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ، فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ: كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ، وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ، وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا، وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا، وَإِنْ سَأَلَنِي لَأُعْطِيَنَّهُ، وَلَئِنِ اسْتَعَاذَنِي لَأُعِيذَنَّهُ، وَمَا تَرَدَّدْتُ عَنْ شَيْءٍ أَنَا فَاعِلُهُ تَرَدُّدِي عَنْ نَفْسِ المُؤْمِنِ، يَكْرَهُ المَوْتَ وَأَنَا أَكْرَهُ مَسَاءَتَهُ "[9]

 

3. السيئات يُذهبن الحسنات

 

قال تعالى {أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ لَهُ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاءُ فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ}[10]  نَبَّهَ سُبْحَانَهُ الْعُقُولَ عَلَى قُبْحِ الْأَعْمَالِ السَّيِّئَةِ الَّتِي تُحْبِطُ ثَوَابَ الْحَسَنَاتِ، وَشَبَّهَهَا بِحَالِ شَيْخٍ كَبِيرٍ لَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاءُ، بِحَيْثُ يَخْشَى عَلَيْهِمُ الضَّيْعَةَ وَعَلَى نَفْسِهِ، وَلَهُ بُسْتَانٌ هُوَ مَادَّةُ عَيْشِهِ وَعَيْشِ ذُرِّيَّتِهِ، فِيهِ النَّخِيلُ وَالْأَعْنَابُ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ، فَأَرْجَى وَأَفْقَرَ مَا هُوَ لَهُ وَأَسَرَّ مَا كَانَ بِهِ إِذْ أَصَابَهُ نَارٌ شَدِيدَةٌ فَأَحْرَقَتْهُ، فَنَبَّهَ الْعُقُولَ عَلَى أَنَّ قُبْحَ الْمَعَاصِي بَعْدَ الطَّاعَةِ كَقُبْحِ هَذِهِ الْحَالِ، وَضَرَبَ لِقُبْحِهَا هَذَا الْمَثَلَ وَبِهَذَا فَسَّرَهَا عُمَرُ، وَابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ لِرَجُلٍ غَنِيٍّ عَمِلَ بِطَاعَةِ اللَّهِ زَمَانًا، فَبَعَثَ اللَّهُ لَهُ الشَّيْطَانَ، فَعَمِلَ بِالْمَعَاصِي حَتَّى أَغْرَقَ أَعْمَالَهُ، ذَكَرَهُ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ. ؟[11] وكما أن " الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ"[12] فكذلك السيئات يُذهبن الحسنات لحديث المفلس فى الصحيح "..إِنَّ الْمُفْلِسَ مِنْ أُمَّتِي يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِصَلَاةٍ، وَصِيَامٍ، وَزَكَاةٍ، وَيَأْتِي قَدْ شَتَمَ هَذَا، وَقَذَفَ هَذَا، وَأَكَلَ مَالَ هَذَا، وَسَفَكَ دَمَ هَذَا، وَضَرَبَ هَذَا، فَيُعْطَى هَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ، وَهَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ، فَإِنْ فَنِيَتْ حَسَنَاتُهُ قَبْلَ أَنْ يُقْضَى مَا عَلَيْهِ أُخِذَ مِنْ خَطَايَاهُمْ فَطُرِحَتْ عَلَيْهِ، ثُمَّ طُرِحَ فِي النَّارِ»[13]

 

4. الحذر من الانتكاسة :

 

الطفل بعد أن تتم فترة رضاعته ويستوفي حقه منها تماما على النحو الذي فصَّل الله عـزَّ وجلَّ في كتابه " والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين لمن أراد أن يتم الرضاعة "[14]. أقول بعد هذه الفترة ،لا يرجع  الوالدان به إلى الرضا ع من جديد  ولا يسمحان له بالعود إلى ذلك  لأن هذه  انتكاسة  لا يُسمح للطفل بها  أبدا ، تربيةً للعزيمة وتقوية لإرادته ، وكما أن الأمر هكذا للطفل فهو هكذا للنفس فنحن– حُجَّاجًا أو صائمين - أخذنا أنفسنا بالعزيمة وفطمناها عن المعاصي خلال أداء هذه العبادات وأعاننا المولى على ذلك  فحبس الشيطان أو دحرها خلالها، فينبغى الحذر من الانتكاسة بالعود إلى المعاصي من جديد  لأنها انتكاسة ما بعدها انتكاسة

 

والنفس كالطفل إن تهمله  شبَّ            على حب الرضاع وإن تفطمه ينفطم

 

ولنحذر نقض غزلنا بعدما أبرمناه قال تعالى :"وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِن بَعْدِ قُوَّةٍ أَنكَاثاً تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ .." [15] ، شبَّه الله من يُبطل عمله الصالح بالسيئات بعد الصالحات بامرأة خرقاء حمقاء في الجاهلية كانت تغزل غزلها إلى أن تعمل منه ثوباً، ثُم تنقضه ! أتكون مثلها كلما عقدت عقداً نقضته، وكلما عاهدت عهداً غدرت به؟! فبعد ما كنتم أقوياء بالإيمان فارقتم ذلك بالمعاصي ورجعتم القهقري!  وللحديث بقية بحول الله وقوته فى الجزء الثالث والله وحده ولي التوفيق وأسأله العصمة من الزلل والخطأ والخلل فى القول والعمل.

 

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

[1] البقرة : 186

[2] البقرة: 201

[3] من علماء الحنفية (ت:1014هـ)

[4] [غافر: 60]

[5] الْفُرْقَانِ: 77

[6] صحيح الأدب المفرد (ص: 246)

[7] صحيح البخاري كِتَابُ الجُمُعَةِ بَابُ فَضْلِ الجُمُعَةِ أخرجه مسلم في الجمعة باب وجوب غسل الجمعة على كل بالغ من الرجال وباب الطيب والسواك يوم الجمعة

[8] صحيح البخاري  كِتَابُ التَّوْحِيدِ بَابُ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَه }أخرجه مسلم في الذكر والدعاء والتوبة باب الحث على ذكر الله تعالى وباب فضل الذكر والدعاء والتقرب إلى الله تعالى. وفي التوبة باب الحض على التوبة والفرح بها

[9] صحيح البخاري - كِتَابُ الرِّقَاقِ بَابُ التَّوَاضُعِ

[10] البقرة: 266

[11] مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين (1/ 256)

[12] هود: 114

[13] صحيح مسلم كتاب الْبِرِّ وَالصِّلَةِ وَالْآدَابِ بَابُ تَحْرِيمِ الظُّلْمِ

[14] البقرة / 233

[15] النحل: 92

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين