ليلة النصف من شعبان بين النافين والمثبتين

شهر شعبان شهر مبارك عظيم، وهو مقدمة شهر رمضان أعظم شهور العام، وقد وردت في فضله الأحاديث والآثار، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يخصه بكثرة الصيام، وما صام من شهر بعد رمضان ما صام من شعبان، وعندما سئل عن سر ذلك أخبر بأن فيه ترفع الأعمال، فعن أسامة بن زيد رضي اللّه عنهما قال: قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ، لَمْ أَرَكَ تَصُومُ شَهْرًا مِنْ الشُّهُورِ مَا تَصُومُ مِنْ شَعْبَانَ؟ قَالَ:« ذَلِكَ شَهْرٌ يَغْفُلُ النَّاسُ عَنْهُ بَيْنَ رَجَبٍ وَرَمَضَانَ، وَهُوَ شَهْرٌ تُرْفَعُ فِيهِ الْأَعْمَالُ إِلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ، فَأُحِبُّ أَنْ يُرْفَعَ عَمَلِي وَأَنَا صَائِمٌ» [ أخرجه أحمد 5/201؛ والنسائي في الصيام 2357، بإسناد حسن]. وفي الحديث عن عَائِشَةَ أم المؤمنين رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أنها قَالَتْ: لَمْ يَكُنْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَصُومُ شَهْرًا أَكْثَرَ مِنْ شَعْبَانَ، فَإِنَّهُ كَانَ يَصُومُ شَعْبَانَ كُلَّهُ....» [ البخاري في الصيام: 1869 ؛ مسلم في الصيام: 1156].


كما أن ليلة النصف منه لها فضل عظيم وفيها أحاديث وآثار، اضطرب الناس من أهل العلم قديماً وحديثاً في القبول والإنكار، فمن منكر لكل ما ورد في فضلها ووصمه بالوضع والنكران، إلى مثبت لفضلها ومعضد ما ورد فيها بالحسن والجبران.

ولكل منهم العذر فيما أداه إليه بحثه واجتهاده، لأن الأحكام إنما تثبت مع صحة وقبول الآثار، فمن أنكر فقد استند لعدم ثبوت الأحاديث في ذلك، ومن أثبت فقد استند لصحة وثبوت ما ثبت من هذه الأحاديث والآثار.
ولا أريد أن أدخل في حديثي هذا في سجال وحوار، لأنني إنما قصدت من مقالتي هذه اغتنام الخير والاستفادة من خصائص الأوقات والأعمار، وللسجال العلمي والقيل والقال مكان آخر يقضيه الظرف والحال.

ولعل من أصح الأحاديث التي رُويت في فضل ليلة النصف من شعبان، هو قول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:«
إِنَّ اللَّهَ لَيَطَّلِعُ فِي لَيْلَةِ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ فَيَغْفِرُ لِجَمِيعِ خَلْقِهِ إِلَّا لِمُشْرِكٍ أَوْ مُشَاحِنٍ». [أخرجه أحمد في المسند عن عبد الله بن عمرو 2/176؛ وابن ماجه في إقامة الصلاة والسنة فيها عن أبي موسى برقم 1390؛ والطبراني في الكبير والأوسط ورجالهما ثقات ـ مجمع الزوائد للهيثمي 8/126؛ والبزار في مسنده عن أبي بكر 1/18؛ والبزار عن عوف بن مالك 1/423؛ وابن حبان في صحيحه عن معاذ 12/481؛ والبيهقي في شعب الإيمان عن أبي موسى 3/379 وعن كثير بن مرة 3/381 وقال مرسل جيد. ولفظ آخر للطبراني وهو بسند حسن: « إن الله يطلع على عباده في ليلة النصف من شعبان فيغفر للمؤمنين و يملي للكافرين و يدع أهل الحقد بحقدهم حتى يدعوه».]

وقد رُوي هذا الحديث عن عدد من الصحابة بألفاظ متقاربة، منهم: أبو بكر الصديق، وعائشة، ومعاذ بن جبل، وأبو موسى الأشعري، وعبد الله بن عمرو بن العاص، وأبو ثعلبة، وعوف بن مالك، ومن مرسل كثير بن مرة، رضي الله عنهم جميعاً، وجاء من طرق متعددة بعضها أقوى من بعض، ولكنها بمجموعها وشواهدها ترتقي إلى الصحة التي تنفي أي شك.

كما ورد حديث مرسل عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « إن الله يطلع على عباده في ليلة النصف من شعبان، فيغفر للمستغفرين، ويرحم المسترحمين، ويؤخر أهل الحقد كما هم». [أخرجه البيهقى فى شعب الإيمان 3/382 قال المنذرى (2/74) : رواه البيهقى من طريق العلاء بن الحارث عنها ، وقال : هذا مرسل جيد يعنى أن العلاء لم يسمع من عائشة ].

ولذلك نجد أن جمهور الفقهاء رحمهم الله ذهبوا إلى ندب إحياء ليلة النصف من شعبان بالدعاء والصلاة والتوجه إلى الله تعالى بالتوبة والاستغفار وإزالة أسباب القطيعة والخلاف، إلا أنهم كرهوا أن تكون مظاهر العبادات في هذه الليلة المباركة بصورة جماعية، وهذا هو قول عطاء بن أبي رباح وابن أبي مليكة والأوزاعي، وذهب خالد بن معدان ولقمان بن عامر وإسحاق بن راهويه إلى استحباب إحيائها جماعة. [ انظر: حاشية ابن عابدين 1/461؛ مراقي الفلاح 219ـ220؛ مواهب الجليل 1/74؛ أسنى المطالب 1/208؛ الإحياء 3/423؛ الفروع 1/440].

قال ابن رجب الحنبلي: «
فينبغي للمؤمن أن يتفرغ في تلك الليلة لذكر الله تعالى ودعائه بغفران الذنوب، وستر العيوب، وتفريج الكروب، وأن يقدم على ذلك التوبة فإن الله تعالى يتوب فيها على من يتوب» . [لطائف المعارف ص 138].

وأذكر هنا ما قاله ابن تيمية رحمه الله في شأن ليلة النصف من شعبان: «
وأما ليلة النصف من شعبان ففيها فضل، وكان في السلف من يصلي فيها، لكن الاجتماع فيها لإحيائها في المساجد بدعة، لكن الذي عليه كثير من أهل العلم أو أكثرهم من أصحابنا وغيرهم على تفضيلها، وعليه يدل نص أحمد لتعدد الأحاديث الواردة فيها، وما يصدِّق ذلك من الآثار السلفية وقد روي بعض فضائلها في المسانيد والسنن وإن كان قد وضع فيها أشياء أخر ..». [ الفتاوى الكبرى لابن تيمية 5/342]

وقال أيضاً: «
ومن هذا الباب ليلة النصف من شعبان فقد رُوي في فضلها من الأحاديث المرفوعة والآثار ما يقتضي أنها ليلة مفضلة، وأن من السلف من كان يخصها بالصلاة فيها، وصوم شهر شعبان قد جاءت فيه أحاديث صحيحة ..». [اقتضاء الصراط المستقيم 1 / 302].

وقال ابن رجب الحنبلي رحمه الله: «
وليلة النصف من شعبان كان التابعون من أهل الشام كخالد بن معدان ومكحول ولقمان بن عامر وغيرهم يعظمونها ويجتهدون فيها في العبادة وعنهم أخذ الناس فضلها وتعظيمها ..» [ لطائف المعارف ص 137].

وإذا كان من خصائص هذه الليلة المباركة تجلي الرحمن على عباده المؤمنين بالغفران، فإن من خصائصها أيضاً إجابةَ الدعاء وكشفَ الكربات، وما أحوج أمتنا اليوم لمثل هذه المواسم التي اختصها الله بمزيد من الفضل والأعطيات، فقد ورد عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه قال:
خمس ليال لا يرد فيهن الدعاء: ليلة الجمعة، وأول ليلة من رجب، وليلة النصف من شعبان، وليلتي العيدين. [ مصنف عبد الرزاق 11/122].

وما كان لابن عمر رضي الله عنهما ليقول ذلك لولا أنه بلغه أثر فيه، لشدة ما علم من اتباعه للسنة رضي الله عنه.

وهذا الإمام الشافعي رضي الله عنه يقول: بلغنا أن الدعاء يستجاب في خمس ليال: ليلة الجمعة والعيدين وأول رجب ونصف شعبان قال: وأستحب كل ما حكيت في هذه الليالي... .[ لطائف المعارف ص 137].

وأما صيام يوم النصف من شعبان فهو من جملة الأيام البيضاء التي يستحب صيامها، ولا مانع يمنع من صيامه، فقد قال ابن رجب الحنبلي: «
وأما صيام يوم النصف منه فغير منهي عنه، فإنه من جملة أيام البيض الغر المندوب إلى صيامها من كل شهر». [ لطائف المعارف ص136].

فنسأل الله تعالى في هذا الشهر المبارك وفي هذه الليالي المباركة أن يمن على أمتنا بالفرج والنصر القريب، وأن يفرج ما حل بنا من هموم وأحزان وكروب، وأن يغفر لنا، وأن يرحمنا، وأن يتوب علينا، إنه سميع قريب مجيب.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين