(لَيْسَ فِتْنَةً بَلْ جِهَاد)

الأستاذ: أحمد إبراهيم.

في كل أسبوع يخرج د. البوطي ويخطب بالناس، وغالباً ما يتطرق في حديثه لما يجري في سورية، ويصف الأمر على أنه فتنةٌ ينبغي اجتنابُهَا، ولا أدري على أيّ أساسٍ أو مستَنَدٍ علمي يبني فضيلته هذا الافتراض، وبما أنَّ د. البوطي أصوليٌّ، وقدَّم الدكتوراه في أصول الفقه، فسأورد له أولاً كلام الأصوليين في هذه المسألة:

أ_ قال الإمام العز بن عبد السلام _رحمه الله_ (ت:660هـ) في كتاب القواعد الصغرى، تحقيق: د. صالح بن عبد العزيز آل منصور، الطبعة الأولى 1417هـ، دار الفرقان، الرياض، السعودية، (ص 165):
(ويجوزُ التغريرُ بالنفوسِ والأعضاءِ في كل قتال واجب؛ لتحصيل مصالحه، وكذلك التغريرُ بالنفوسِ في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عند أئمةِ الجورِ؛ لما فيه من إعزاز الدين، ونصر رب العالمين، وقد جعله _صلى الله عليه وسلم _أفضل الجهاد، فقال _صلى الله عليه وسلم_: "أَفْضَلُ الْجِهَادِ كَلِمَةُ عَدْلٍ عِنْدَ سُلْطَانٍ جَائِرٍ". لأن تغريره لنفسه وبذله لها، آلَمُ من تغرير المجاهدين، فإن المجاهد يرجو أن يُقتل قربة، بخلاف الآمر والناهي للسلطان الجائر).
ب_ قال الإمام العز بن عبد السلام _رحمه الله_ في كتاب قواعد الأحكام في مصالح الأنام (القواعد الكبرى)، تحقيق: د. نزيه حماد ود. عثمان ضميرية، الطبعة الأولى 1420هـ، دار القلم، دمشق، سورية، (ج1 /ص 136 وما بعد): (فصل في اجتماع المصالح مع المفاسد:... والتغريرُ بالأرواحِ في إعزازِ الدينِ جائزٌ). وذكر مثالاً:  التلفظ بكلمة الكفر لمن أكره على ذلك، فأجاز عدم التلفظ بالكفر للمكرَه في سبيل إعزاز الدين، وقال في الفصل السابق نفسه (ج1 /ص 150): (المخاطرة بالنفوسِ في إعزازِ الدينِ مأمورٌ بها... وقد قال عليه السلام: "أَفْضَلُ الْجِهَادِ كَلِمَةُ عَدْلٍ عِنْدَ سُلْطَانٍ جَائِرٍ". جعلها أفضل الجهاد لأن قائلها قد جاد بنفسه كل الجود، بخلاف من يلاقي قَرْنَهُ في القتال، فإنه يجوز أن يقهرَهُ ويقتلَهُ، فلا يكون بذلُهُ نفْسَه مَعْ تجويزِ سلامتِهَا، كبذلِ الْمُنْكِرِ نَفْسَهُ مع يَأسِهِ مِنَ السَّلامةِ). أي أن المجاهد يمكن أن لا يُقتل، أما الذي ينكر على السلطان الجائر، فإنه يعلم يقيناً عدم السلامة، وأظن أن كلام الإمام العز بن عبد السلام _رحمه الله_كان جلياً في الموضوع، ولا يحتاج لمزيد بيان.
ج_ وجاء في إدرار الشروق شرح الفروق للقرافي، الفرق السبعون والمائتان (ج4 / ص437): (وَالتَّغْرِيرُ بِالنُّفُوسِ مَشْرُوعٌ فِي طَاعَةِ اللَّهِ - تَعَالَى - لِقَوْلِهِ تَعَالَى: { وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ }. فَمَدَحَهُمْ ... وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ بَذْلَ النُّفُوسِ فِي طَاعَةِ اللَّهِ - تَعَالَى - مَأْمُورٌ بِهِ، وَقُتِلَ يَحْيَى بْنُ زَكَرِيَّا _صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمَا_ بِسَبَبِ أَنَّهُ نَهَى عَنْ تَزْوِيجِ الرَّبِيبَةِ، وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أَفْضَلُ الْجِهَادِ كَلِمَةُ حَقٍ عِنْدَ سُلْطَانٍ جَائِرٍ".  وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ عَرَّضَ نَفْسَهُ لِلْقَتْلِ بِمُجَرَّدِ هَذِهِ الْكَلِمَةِ، فَجَعَلَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَفْضَلَ الْجِهَادِ، وَلَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ كَلِمَةٍ وَكَلِمَةٍ، كَانَتْ فِي الْأُصُولِ أَوْ الْفَرْعِ، مِنْ الْكَبَائِرِ أَوْ الصَّغَائِرِ، وَقَدْ خَرَجَ ابْنُ الْأَشْعَثِ مَعَ جَمْعٍ كَبِيرٍ مِنْ التَّابِعِينَ فِي قِتَالِ الْحَجَّاجِ وَعَرَّضُوا أَنْفُسَهُمْ لِلْقَتْلِ، وَقُتِلَ مِنْهُمْ خَلَائِقُ كَثِيرَةٌ؛ بِسَبَبِ إزَالَةِ ظُلْمِ الْحَجَّاجِ وَعَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ، وَكَانَ ذَلِكَ فِي الْفُرُوعِ لَا فِي الْأُصُولِ، وَلَمْ يُنْكِرْ أَحَدٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ عَلَيْهِمْ ذَلِكَ).
د_قال الإمام علاء الدين عبد العزيز بن أحمد البخاري (ت:730هـ) في كشف الأسرار عن أصول البزدوي، الطبعة الأولى 1418هـ، دار الكتب العلمية، بيروت (ج2 /ص 461) أثناء الحديث عن أنواع الرخص: (وَفِي الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ يَسَعُهُ الْإِقْدَامُ ، وَإِنْ كَانَ يَعْلَمُ أَنَّ الْقَوْمَ يَقْتُلُونَهُ، وَأَنَّهُ لَا يَتَفَرَّقُ جَمْعُهُمْ بِسَبَبِهِ).
ثانياً_ كلام الفقهاء: قال ابن عابدين في حاشية رد المحتار (ص4 / ج 127):  (نهْي فَسَقَةِ الْمُسْلِمِينَ عَنْ مُنْكَرٍ إذَا عَلِمَ أَنَّهُمْ لَا يَمْتَنِعُونَ بَلْ يَقْتُلُونَهُ، فَإِنَّهُ لَا بَأْسَ بِالْإِقْدَامِ، وَإِنْ رُخِّصَ لَهُ السُّكُوتُ؛ لِأَنَّ الْمُسْلِمِينَ يَعْتَقِدُونَ مَا يَأْمُرُهُمْ بِهِ، فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ فِعْلُهُ مُؤَثِّرًا فِي بَاطِنِهِمْ). وجاء في تبيين الحقائق وحاشية الشلبي (ج5 /ص 186): (فَإِذَا بَذَلَ نَفْسَهُ لِإِعْزَازِ الدِّينِ، وَلِإِقَامَةِ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى، أَوْ حَقِّ غَيْرِهِ مِنْ الْعِبَادِ، كَانَ شَهِيدًا، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ قَاتَلَ دُونَ مَالِ غَيْرِهِ فَقُتِلَ، كَانَ شَهِيدًا).
وجاء في حاشية الرملي(ج4 /ص9): (بذل النفوس في إعزاز الدين مشروع في الجهاد وغيره). وقَالَ الشوكاني في نيل الأوطار (ج7 / ص199): (وَقَدْ اسْتَدَلَّ الْقَائِلُونَ بِوُجُوبِ الْخُرُوجِ عَلَى الظَّلَمَةِ وَمُنَابَذَتِهِمْ ... بِعُمُومَاتٍ مِنْ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ فِي وُجُوبِ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ...وَلَكِنَّهُ لَا يَنْبَغِي لِمُسْلِمٍ أَنْ يَحُطَّ عَلَى مَنْ خَرَجَ مِنْ السَّلَفِ الصَّالِحِ مِنْ الْعِتْرَةِ وَغَيْرِهِمْ عَلَى أَئِمَّةِ الْجَوْرِ، فَإِنَّهُمْ فَعَلُوا ذَلِكَ بِاجْتِهَادٍ مِنْهُمْ، وَهُمْ أَتْقَى لِلَّهِ وَأَطْوَعُ لِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ مِنْ جَمَاعَة مِمَّنْ جَاءَ بَعْدَهُمْ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَلَقَدْ أَفْرَطَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ .. وَمَنْ وَافَقَهُمْ فِي الْجُمُودِ عَلَى أَحَادِيثِ الْبَابِ حَتَّى حَكَمُوا بِأَنَّ الْحُسَيْنَ السِّبْطَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَأَرْضَاهُ بَاغٍ ... فَيَالَلَّهِ الْعَجَبُ مِنْ مَقَالَاتٍ تَقْشَعِرُّ مِنْهَا الْجُلُودُ وَيَتَصَدَّعُ مِنْ سَمَاعِهَا كُلُّ جُلْمُود)ٍ.
قال الشيخ أحمد الزرقا في شرح القواعد الفقهية (ج 1 /ص241): (القاعدة الخامسة والأربعون: إذا تعارض المانع والمقتضي يقدم المانع ... كما في مسألة الخروج على الإمام الجائر إذا كان يترتب على الخروج عليه مفسدة أعظم من جوره، فإنه حينئذ يقدم المانع، أما إذا رَبَا المقتضي على المانع، فالظاهر أنه يقدم المقتضي).
أخيراً أسوق كلام الْجَصَّاصِ في أَحْكَامِ الْقُرْآنِ (ج2 / ص320) حيث قال: (فَأَجْرَى الْنَّبِيّ _صَلى الله عليه وسلم_ فَرْضَ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوْفِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ مَجْرَى سَائِرِ الْفُرُوْضِ، فِي لُزُومِ الْقِيَامِ بِهِ مَعَ التَّقْصِيرِ فِيْ بَعْضِ الْوَاجِبَاتِ، وَلَمْ يَدْفَعْ أَحَدٌ مِنْ عُلَمَاءِ الْأُمَّةِ وَفُقَهَائِهَا، سَلَفُهُمْ وَخَلَفُهُمْ وُجُوْبَ ذَلِكَ، إِلَّا قَوْم مَن الْحَشْوِ، وَجُهَّالِ أَصْحَاب الْحَدِيثِ، فَإِنَّهُمْ أَنْكَرُوْا قِتَال الْفِئَةِ الْبَاغِيَة، وَالْأَمْرَ بِالْمَعْرُوْفِ وَالْنَّهْي عَنْ الْمُنْكَرِ بِالْسِّلاحِ، وَسَمُّوا الْأَمْرَ بِالْمَعْرُوْفِ وَالنَّهْي عَنْ الْمُنْكَرِ فِتْنَةً ... وَزَعَمُوْا مَعَ ذَلِكَ أَنَّ الْسُّلْطَانَ لَا يُنْكَرُ عَلَيْهِ الْظُّلْمُ، وَالجَوْرُ، وَقَتْلُ الْنَّفْسِ الَّتِيْ حَرَّمَ الْلَّهُ، وَإِنَّمَا يُنْكَرُ عَلَىَ غَيْرِ الْسُّلْطَانِ ...فَصَارُوْا شَرًّا عَلَى الْأُمَّةِ مِنْ أَعْدَائِهَا الْمُخَالِفِيْنَ لَهَا؛ لِأَنَّهُمْ أقْعَدُوْا الْنَّاسَ ...َعَن الإِنْكَارِ عَلَى الْسُّلْطَانِ الظُّلْمَ وَالْجَوْرَ، حَتَّى أَدَّى ذَلِكَ إِلَىَ تَغَلُّبِ الْفُجَّار، بَلْ الْمَجُوْسِ وَأعْدَاءِ الْإِسْلَامِ، حَتَّىَ ذَهَبَت الْثُّغُوْر، وَشَاعَ الْظُّلْمُ، وَخُرِّبَتِ الْبِلَاد، وَذَهَبَ الْدِّيْنُ وَالْدُّنْيَا، وَظَهَرَت الْزَّنْدَقَة وَالْغُلُوَّ، وَمَذْهَبُ الْثَّنَوِيَّةِ وَالْخُرَّمِيَّةِ وَالْمَزْدَكِيَّةِ، وَالَّذِي جَلَبَ ذَلِكَ كُلَّه عَلَيهِمْ، تَرْكُ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوْفِ وَالْنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ، وَالْإِنْكَارِ عَلَى الْسُّلْطَانِ الْجَائِرِ، وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ).
فكلام الفقهاء والأصوليين يدل على أن من سكت عن الظلم، فقد أخذ بالرخصة، ومن أراد دفع الظلم، فقد أخذ بالعزيمة، وإن مات، فهو شهيد، وفعله من أفضل الجهاد، فأين الفتنة في الموضوع؟

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين