ليبيا بين محنتين

أكرم علي حمدان

كتبنا مبدأ الثورة الليبية كلمة تفاءلنا فيها ببزوغ فجر ليبيا الجديد، بعد ليل طالت حبائله، واشتد سواده، ولم نكن ندري أن الحماقة بلغت بسفيهها وأبنائه أن يضحوا ببلد برمته، من أجل أن تبقى السلطة بأيديهم، فأسلموا البلاد للغريب يغزوها ببوارجه وطائراته. كتبنا وكنا نرجو ألا تطول المحنة، وأن يزول هذا العتل كما زال من قبله المستبدان في مصر وتونس، لكن الرياح لم تأت بما تشتهي السفن، فتدخل الغريب، ورفع الأخ السلاح في وجه أخيه، وأزهقت أرواح كثيرة، وتضرر خلق كثيرون.
وها نحن اليوم نكتب من جديد وقد بدأت بشائر النصر تلوح من ثنايا فجر قريب، نرجو أن يسفر عن ليبيا حرة قوية، بعد أن قطع الثورا شوطًا بعيدًا، ودقوا أبواب طرابلس، تقدمهم بسالة، ويحدوهم أمل كبير. نكتب اليوم نترحم على من قضى في معارك تحرير ليبيا من طاغيتها الجاهل المستبد، لنعيد التحذير من جديد، مما يمكن أن تؤول إليه أحوال البلاد بعد أن يظن أهلها أنهم قادرون عليها، لأننا نخشى أن تأتيَها ريحٌ عاصف، تُدَمِّرُ كل شيء بإذن المستعمر الغريب، الذي ما زالت الدماء تقطُرُ من براثنه، مما اقترف إبان الحقبة الاستعمارية القريبة. نكتب محذرين، لكن على لسان من عايش تلك المرحلة المشؤومة، وكان خير شاهد على تربص المتربصين، وكيد الكائدين، وهو محبُّ ليبيا، أستاذنا وحبيبنا العلامة، محمد البشير الإبراهيمي، رحمه الله، في كلمة أحببنا أن نثبتها برمتها، إلا من تصرف يسير اقتضاه سياق الكلام، لا سياق الأحداث، فالأحداث متشابهة، وما قيل قبل ستين سنة يحسن أن يقال اليوم، لا تسقط منه كلمة، ولا يخرم منه حرف، واللبيب بالإشارة يفهم.
فليبيا، بأجزائها الطبيعية، قطعةٌ ثمينةٌ من وطن العروبة الأكبر، ومعقِلٌ حصين من معاقل الإسلام الباذخة، مُكتنفَةُ الشمال والجنوب بِجَمالَيْنِ من مياهِ البحر الأبيض، ورمالِ الصحراء المغبرة، مُسوَّرةُ الشرق والغرب بجمالين من عظَمَة مصرَ ومجد تونِس، فهي رقعةٌ من صنع الله مطرزةُ الحواشي بما يسحرُ الألباب، ويفتن النفوس، ويستهوي الأفئدة، ويُذكّر بالعزة، ويفتق القرائح عن روائع الوصف، وبدائع التمثيل، وهي، لذلك كله، نازلةٌ من نفس كل عربيٍّ في مستقرِّ الغيرة والحفاظ، ومن نفس كل مسلم في منزلة الحب والكرامة، فقد كانت مجرَّ عوالي الفاتحين من أسلافنا، ومجرى سوابقهم إلى الشمال الأفريقي، يحملون إليه التوحيد والحكمة والسّلام، فعلى ثراها مرّ عقبة والمهاجرُ وحسّان، ومن بعدهم موسى وطارق، وإدريس وعبد الرحمن؛ وفي جنباتها تصاهلت جيادُ الكُماةِ الصِّيدِ من مضر ويمن، وأنها كانت كذلك مجازًا للأبطال من بني هلال، الذين غرسوا العروبةَ بهذا الشمال، وأنها كانت أختَ الجزيرة: تلك أنبطتْ، وهذه أَحْرَت؛ وتلك أنبتتْ، وهذه أرْوَت؛ وتلك قدحت، وهذه أَوْرَت؛ وأنها صارت بعد ذلك بابَ المغرب إلى الشرق، يوم كان أبرَّ ببنيه، وأحنى عليهم من البحر، لا يَلِجون حظائرَه القدسيةَ إلا منه، حُجّاجًا وتُجّارًا ومستبضعي علم.
قال: إن كل قارئ مطَّلِع في هذا الوطن الجزائري ليعرفُ عن ليبيا وقراها، وجبالها، وأوديتها، ودروبها مثلَ، أو أكثر مما يعرف عن وطنه، لكثرة ما يقرأ عنها في كتب الرحّالين المغاربة، من أمثال الفِهري، والعبدري، وابنِ بطوطة، والتيجاني، والعياشي، والورتلاني. وإن كل عاميٍّ راويةٍ للشعر الملحون لَيحفظُ أسماء قراها، ووديانها، وجبالها، أكثر مما يحفظ من أمثالها من بلاده، لكثرة ما يسمعها في قصائد شعراء الملحون الوصافين لركاب الحج، المعددين لمنازله، احتذاء للبوصيري في "عدة المنازل"، من أمثال محمد الشلالي، وابن السنوسي، وابن خلوف، وابن يوسف، وغيرهم من الشعراء الشعبيين في المائة الثانية عشرة إلى الآن. وهؤلاء هم الذين انتهت إلينا أخبارهم وأشعارهم، عن طريق الحفظ والرواية، وقد كانوا يرحلون ركب الحج من مراكش إلى مكة، ويصفون الجادّة التي يسلكها وصفًا شعريًّا مشوِّقًا، أحسنَ مما يصفه الجغرافي المتقصي، وأَدْخَلَ في النفس منه، حتى يُخَيَّلَ للسامع أن هذه الموصوفات منه بمرأى العين. قال: وأذكرُ أنني في سن الصبا كنتُ سمعتُ أسماء زوارة، وطرابلس، والجبل، ومسراته، والخمس، وزليطن، وبنغازي، ودرنة، وأجدابية، متناثرةً في هذا الشعر، موصوفةً، محددةَ المسافات التي تفصل بينها، قبل أن أقرأها في كتب الرحلات والجغرافيا، وقبل أن أسمعَها من أفواه السفار، أو من أفواه أهلها.
قال: ولإخواننا الليبيين، أو الطرابلسيين كما نسميهم، علينا حقُّ الدين، وحقُّ اللغة، وحقُّ الجنس، وحقُّ الجوار، وحقُّ الاشتراك في الآلام والمحن، وفي الآمال المقترحة على الزمن؛ وهذه كلها أرحام، يجب أن تبل ببلاها، وحقوق في ذمة المروءة والوفاء، يجب أن تؤدّى، وإن من أحسن القضاء عند الكرام الأوفياء أن يكون في وقت الحاجة إليه، وإن هؤلاء الإخوان اليوم في طور امتحان عسير معقّد، تتخلَّلُه الأهواءُ والمطامع، ويحيطُ به الكيدُ والتعنيت من كلِّ جانب، وإن نجاحَهم فيه يتوقف على جمع الكلمة، وتسوية الصفّ، وتوحيد الرأي، ومتانة الإيمان بالحق، والحذر الشديد من الأشراك المنصوبة، والعُصَب الدخيلة،؛ والنظر البعيد في العواقب المخبوءة والمكايد الخفية، والاحتفاظ بكلمة الفصل، يقولها الواحدُ فترددها الملايين، وإنهم في حالة انتقال من حال إلى حال، من حال كانوا يواجهون فيها عدوًّا واحدًا، مكشوفَ النيات والسرائر، حيوانيَّ الشهوات والمنازع، إلى حال يواجهون فيها ثلاثةَ أعداء، متشاكسي المصالح، متبايني المطامع، متظاهرين بالتقوى والعدل، والنصيحة الرشيدة للمستضعفين، ولكنهم متفقون على الاستغلال، لا على الاستقلال، ومن ورائهم ذلك الثعلب القديم، وقد قصمت الحرب ظهره: جائعًا يتضور، وقابعًا يتحفّز، وحانقًا يتلظّى، وراجيًا يتعلّق، وطامعًا يتملّق، ينتصر بالمتات، وينتظر الفتات.
قاوم هؤلاء الإخوانُ الكرامُ الاستعمارَ الإيطاليّ، ووقفوا في وجهه وِقفة المستميت،لم يثنِهِمُ التقتيلُ والتشريد، حتى إذا استيأسوا، وظنّوا أن هذا الجبارَ العنيدَ ختم عليهم بالعبوديّة المؤبدة، جاءت الحربُ الأخيرة، وعاد الرجاء، ونبض عرقُ البطولة، وهبَّ المغاويرُ من سلائل العرب، يثأرون لعمرَ المختار، والشهداءِ الأبرار، حتى اشتفَوا، وأوبقت إيطاليا جرائرُها، فأبادها الله، وما كان إخواننا يدرون أنهم يعينون استعمارًا على استعمار، وأنهم سينتقلون من شدق الأفعى إلى ناب الأفعوان، ولكنهم لم يَهِنوا ولم يفشلوا في طلب استقلالهم، فصُمّت الآذانُ عن سماع صوتهم حينًا، ثم تصادمت المطامع، فكان لأصوات الدول الضعيفة في مجلس الأمم مجال في الآذان الصماء، ومنفذ إلى القلوب الغُلْف، فقضى ذلك المجلس باستقال ليبيا طائعًا كمكره، ولكنه أرجأ الإنجاز إلى أول سنة 1952.
كنا نعرف أن الاستقلال جنّةٌ لا يُعبرُ إليها إلا على جسرٍ من الضحايا، وكنا نَعُدُّ إخوانَنا الليبيين أولَ الداخلين إلى هذه الجنة بلا حساب، لأنهم قدموا من الضحايا ما لم تقدمْه أمةٌ شرقية، ولأنهم جمعوا أسبابَ الفلاحِ الأربعة: الصبرَ، والمصابرةَ، والمرابطةَ، والجهاد. ولكنَّ شيطانَ الاستعمار أبى عليهم ذلك، ووضع في طريقهم برزخًا زمنيًّا، أو جسرًا ثانيًا، غير الضحايا والقرابين والأعمال الصالحة، وهذا هو الأجل المحدد بسنة 1952. ويقول الاستعمار إنه وضعه للإعداد والتشويق، ونقول نحن: إنه وضعه للإبعاد والتعويق، ومرحبًا بالسنتين إذا كنا نقضيهما في الاستعداد والتأهل وإصلاح الفاسد من أخلاقنا ورجالنا وأعمالنا.
واهًا لهذا الوطن المتردد في لهوات الزمان، الذي جنى عليه موقعُه من البحر الأبيض ومن الصحراء، فثبتت عليه أعين الطامعين، وازدحمت عليه أقدام الأقوياء، وحامت عليه حوائم الدرهم والدينار، تَغُرُّ وتُغري، وإن لها في نفوس ضعفاء الإيمان وفاقدي الضمائر لموقعًا، ومن وراء الدرهم والدينار سماسرةٌ تتخطف، وصوالجة تتلقف، وأبالسة تأمر بالمنكر، وتنهى عن المعروف، وتدفع الألقاب قيمًا للممالك، ومن أبناء الوطن فريقٌ من أعوان التفريق، وأعواد التحريق، وهنا أصلُ البلاء، وهنا منبتُ العلة، وهنا –فقط، فقط- جرثومة الطاعون، وهنا العدو الحقيقي فاحذروه...
وحنانًا على إخواننا المجاهدين! كُتب عليهم أن يتجرعوا ثلاث مرارات في جيل واحد: مرارة الإهمال في العهد التركيّ، ومرارة الاستعباد في العهد الإيطاليّ، وها هم أولاء يتجرعون مرارة التنكر من حلفاء دلّوهم بغرور، وسجروا بهم التنور، ثم أخلفوا الوعد، ونقضوا العهد...
من بعض حقكم علينا، أيها الإخوان، أن نسعدكم ولو بقول معروف، من نصيحة خالصة، ودعاية نافعة، وتذكير مُنبِّه، وليُسعد النطقُ إن لم يُسعدِ الحال.
  
 

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين