لماذا يختلف المسلمون في تحديد أعيادهم الدينية؟ (2)

تحدثنا في الجزء الأول من الموضوع عن الخلاف بشأن الهلال ومعرفة بداية الأشهر الهجرية قديم جديد، وقد عُقدت لأجله المؤتمرات والندوات، وصدرت بشأنه القرارات والبيانات، فلماذا يستمر الاختلاف بشأن بداية رمضان والعيد؟ وهل الإشكال فقهي أم فلكي؟ وهل هناك أمل في القضاء على هذا الاختلاف أم علينا أن نتكيف معه ولا حرج أن تختلف الدول والأقطار في أعيادها الدينية؟

 

    الجمود على الرؤية البصرية وعدم اعتماد الحسابات الفلكية يؤدي في حقيقة الأمر وواقعه إلى الإخلال بالتكليف الشرعي بالصيام كما حدث في سنوات سابقة، حيث قبلت دول عربية شهادة الشهود بالرؤية رغم استحالتها لعدم ولادة الهلال، وبذلك صام الناس يوما ليس من رمضان أو أفطروا يوما منه وهذا إخلال بالتكليف الشرعي كما لا يخفى

 

الجمود على الرؤية البصرية يُخل بالتكليف الشرعي للصيام

 

إن التكليف النبوي بالرؤية البصرية لبدء الصيام والعيد ليس تعبدا بالرؤية البصرية، وإنما للتيقن من أن رمضان قد دخل فنبدأ الصيام أو انتهى فنفطر، حتى لا يقع الإخلال بالتكليف فنصوم يوما من شعبان على أنه من رمضان أو نفطر يوما من رمضان على أنه من شعبان ومثله في شوال، ولو كانت الرؤية البصرية تعبدية لوجب علينا تحري الهلال يوم إكمال العدة وهو الثلاثين، وعدم الاكتفاء بالتحري ليلة 29 بما أن التعبد في الرؤية.

 

فعلة إكمال العدة هي بنص الحديث: "فإن غم عليكم" أي أن الهلال موجود في الأفق لكن الطقس الغائم حجب الرؤية فإذا زال السبب في اليوم التالي وجب علينا الرؤية، وهو ما لا نفعله ليقيننا أن الشهر قد دخل بإكمال العدة.

 

إن الجمود على الرؤية البصرية وعدم اعتماد الحسابات الفلكية يؤدي في حقيقة الأمر وواقعه إلى الإخلال بالتكليف الشرعي بالصيام كما حدث في سنوات سابقة، حيث قَبلت دول عربية شهادة الشهود بالرؤية رغم استحالتها لعدم ولادة الهلال، وبذلك صام الناس يوما ليس من رمضان أو أفطروا يوما منه، وهذا إخلال بالتكليف الشرعي كما لا يخفى، والأخذ بالحسابات الفلكية يجعلنا نصل إلى اليقين بدخول الشهر وخروجه فنصومه كاملا دون زيادة أو نقصان، وهو عين مراد النبي صلى الله عليه وسلم مِنْ أمره بالرؤية تماما كسنة السواك التي أمر بها نبينا الكريم صلى الله عليه وسلم.

 

فالتعبد في تنظيف الأسنان وتطييب رائحة الفم، واستعمال عود السواك هو وسيلة سهلة مقدور عليها للناس في العهد النبوي، فإن تحقق التعبد والسنية بغير هذا العود كالمعجون والفرشاة والخيط والانتظام في الذهاب لطبيب الأسنان تحققت السنة وإن لم يُستعمل هذا العود، والعكس إن استعمله ولم يطيِب رائحة الفم ولم ينظف الأسنان على النحو المطلوب.

 

ومن مقاصد التوجيه النبوي للرؤية البصرية التسهيل والتسيير على الناس، وهذا التسهيل يتحقق اليوم بالحسابات الفلكية لا بالرؤية البصرية، خاصة مع التلوث البيئي وتعقد أمر الرؤية، وانظر كم عدد الفرق التي تتراءى الهلال اليوم في العالم وكم تحتاج من الجهد والوقت والمال لتصل إلى نتيجة ظنية أمام قطعية الحسابات.

 

    إشارة البيان لدقة وصحة إعلان العيد الجمعة وفق الرؤية العالمية ومقررات مؤتمر إسطنبول الذي شارك فيه معظم الموقعين على البيان جاءت باهتة خفية رغم كونها الأصل وغاية ما يحلم به كل فلكي، ولو أحسن الموقعون على البيان لاكتفوا ببيان رأيهم قبل رمضان والعيد بفترة كافية وفق معيارهم

 

بيان فلكي يعمق الأزمة بدلا من حلها

 

أصدر 26 فلكيا بيانا قبل يوم تحري الهلال بيوم أي يوم 19 أبريل/نيسان 2023 يقطع بعدم إمكان رؤية الهلال الخميس، وأن قبول شهادة الشهود بالرؤية في المنطقة العربية ليكون العيد الجمعة خطأ، وعليه لا بد أن يكون العيد السبت في العالم العربي والإسلامي، ورغم شرف القصد من البيان وهو محاصرة ومنع القبول بالشهادات الخاطئة لرؤية الهلال والمتعارضة مع الحسابات الفلكية، ورغم أني شخصيا متفق معهم على عدم دقة الرؤية البصرية من المنطقة العربية في هذا اليوم، فإني أرى أنه تعبير عن موقف صحيح بطريقة خطأ، وأنه بيان غير موفق في توقيته ومضمونه، وقد أحدث عكس ما أراده الموقعون عليه مع التقدير الكامل لهم ولعلمهم، وذلك لأسباب أهمها:

 

 

    أنه شكَك عموم المسلمين في الحسابات الفلكية التي قطعنا أشواطا في رفع منسوب الوعي بها والتأكيد على قطعيتها ودقتها، وسهَل البيان على المعارضين للحسابات الفلكية الخلط بين المتفق عليه والمختلف فيه فلكيا، ذلك لأن معهد البحوث الفلكية المصري أصدر بيانا فلكيا أن الهلال الجديد سيمكث في سماء مكة المكرمة لمدة 23 دقيقة، وفي القاهرة لمدة 27 دقيقة بعد غروب شمس يوم الرؤية الموافق 29 رمضان 2023، وفي محافظات مصر يبقى الهلال الجديد في سمائها لمدة تتراوح بين 24 و29 دقيقة، وبالنسبة لعددٍ من المدن والعواصم العربية والإسلامية، يبقى الهلال الجديد بعد غروب شمس ذلك اليوم لمدة تتراوح بين 10 و35 دقيقة، وعليه فالرؤية ممكنة والعيد الجمعة، وهو بيان فلكي من جهة موثوقة تقول بعكس البيان الآخر، فماذا يفعل الناس والفقهاء أمام هذا التناقض؟

    أنه دفع بطريق غير مباشر دار الإفتاء الليبية للإعلان عن العيد السبت ولم يقبل كثير من الناس الإعلان وأفطروا الجمعة، وحدثت فتنة غير مسبوقة في البلاد بسبب اتفاق الدول المجاورة كلها على أن العيد الجمعة، ولو أحسنت دار الإفتاء لخالفت منهجيتها الدقيقة فلكيا لتمنع الفتنة والبلبلة التي وقعت، ووقع الشيء ذاته في أستراليا حيث قوى البيان الفلكي مجلس الإفتاء الأسترالي على موقفه من إعلان العيد السبت رغم ما أحدثه من انقسام كبير في صفوف المسلمين ومؤسساتهم.

    أن البيان خلط بين استحالة الرؤية وعدم إمكانها، وفرق كبير بينهما يعلمه كل فلكي، وكان على البيان أن يثمن هذا التطور الذي صارت عليه الدول العربية حيث كانت تقبل بشهادة الشهود رغم استحالة الرؤية وعدم ولادة الهلال فيما مضى، والآن تقبل بشهادتهم في ظل اختلاف فلكي حول صعوبة الرؤية البصرية وفق معيارهم وإن أمكنت حسب معيار غيرهم أو بالتلسكوبات.

    أن إشارة البيان لدقة وصحة إعلان العيد الجمعة وفق الرؤية العالمية ومقررات مؤتمر إسطنبول الذي شارك فيه معظم الموقعين على البيان جاءت باهتة خفية، رغم كونها الأصل وغاية ما يحلم به كل فلكي، ولو أحسن الموقعون على البيان لاكتفوا ببيان رأيهم قبل رمضان والعيد بفترة كافية وفق معيارهم، ولتجنبوا القطعية والحدية المفضية إلى ما أفضت إليه من إشكالات، مع القبول بإمكان الرؤية وفق معايير غيرهم وإن خالفوها، خاصة أنهم يعلمون جميعا بالتجربة أن كل الدول العربية والإسلامية ستعلن العيد الجمعة وستقبل بشهادات الشهود.

 

    يبدأ الشهر الهجري إذا كان تحقق الشرط التالي في أي مكان في العالم قبل الساعة 12:00 ليلا بتوقيت غرينتش. أن يكون البعد الزاوي بين القمر والشمس (الاستطالة) وقت غروب الشمس 8 درجات أو أكثر، وأن يكون ارتفاع القمر عن الأفق وقت غروب الشمس 5 درجات أو أكثر

 

مقررات مؤتمر إسطنبول هي الأمل في وحدة الأمة شرقا وغربا في رمضان والأعياد

 

هل يمكن الخروج من هذه المشكلة الكبرى المتكررة في أعياد المسلمين؟ وهل وحدة المسلمين في العالم كله في يوم صومهم وعيدهم ممكنة عقلا وشرعا؟ الجواب: نعم، والحل في العمل بمقررات مؤتمر إسطنبول 1978 وقد شاركت فيه 58 دولة إسلامية، ومؤتمر إسطنبول 2016 الذي انتهى إلى إقرار التقويم الهجري الموحد بمشاركة 127 عالما من الفقهاء والفلكيين، وقد صوت منهم 80 للتقويم الأحادي، و27 للتقويم الثنائي، وهذا التقويم يعتمد على إمكانية الرؤية في العالم سواء كانت بالعين المجردة أم بأجهزة الرصد، دون الاعتداد باختلاف المطالع كما هو المعتمد لدى جمهور الفقهاء ومعظم المجامع الفقهية، وعلى المعايير الفلكية والضوابط الفقهية المعتمدة، بحيث لا يتعارض مع أي نص شرعي أو قاعدة فلكية قطعية وذلك وفقا للمعايير الآتية:

 

1- أولا مناطق التقويم: يعتبر التقويم الأحادي جميع مناطق العالم وحدة واحدة، بحيث يبدأ الشهر الهجري في جميع مناطق العالم في اليوم نفسه.

 

2- ثانيا قاعدة التقويم: يبدأ الشهر الهجري إذا كان تحقق الشرط التالي في أي مكان في العالم قبل الساعة 12:00 ليلا بتوقيت غرينتش. أن يكون البعد الزاوي بين القمر والشمس (الاستطالة) وقت غروب الشمس 8 درجات أو أكثر، وأن يكون ارتفاع القمر عن الأفق وقت غروب الشمس 5 درجات أو أكثر.

 

3- ثالثا: تعديلات التقويم: وفقا للقرارات المتخذة في الاجتماع الخامس للجنة العلمية بشأن الحالات الاستثنائية استخدم الفلكيون في إعداد مشروع التقويم الأحادي المعايير التالية:

 

    إذا أمكن رؤية الهلال بمعايير إسطنبول 1978 -كما هو مبين أعلاه- في أي مكان من العالم وتم الاقتران قبل فجر نيوزيلندا باعتبارها في أقصى العالم القديم يدخل الشهر القمري الجديد.

    اعتبر في إمكانية الرؤية يابسة القارة الأميركية ولم يؤخذ احتمال الرؤية في البحر دون احتمالها في اليابسة، وهذا الشرط لا بد منه لإزالة الحالات التي طلب تعديلها.

 

إننا نسعى لتوعية عموم المسلمين بهذا الملف الدقيق والمهم لتجنب وقوع الخلاف والفرقة وتعدد الأعياد الدينية للمسلمين حول العالم ليومين أو 3 أيام، وتبقى المسؤولية الأكبر على الفقهاء والعلماء والقادة والزعماء أن يأخذوا بهذا التوجه الذي يحقق الوحدة ويجعل التقويم الهجري الموحد بديلا عمليا للتقويم الميلادي.


جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين