لماذا هذه الأعمار تذهب في المحبس؟!

أرسل إليَّ من محبسه يقول:

ألم يكن خيرا لهذه الأعمار أن تكون في ميادين الخير والدعوة والأبوة وأصناف الخير؟!

أما كان أجدى وأنفع لأمتنا أن تستفيد بهذه الأعمار بدلا من حبسنا كل هذه السنين!!

لماذا اختار الله لنا هذه بدلا من تلك؟!!

فقلت له: أما من حيث الحقوق، فأوطانكم حقا وأولادكم وزوجاتكم أحق بكل لحظة معكم لا كل عام

ثم إن شدة الأسر، وطول الحبس ما كانت يوما من عقوبات الإسلام في شيء لا سيما لأطهار الناس، وأكارمهم

والأمة كلها كما قال ابن تيمية رحمه الله معنية بفك الأسير ما استطاعت إلى ذلك سبيلا

لكن من حيث تصريف الأعمار وتوزيعها وتقدير أماكن أصحابها فإنها حق الله لا حق العبد

أنت تريدها هناك لكن الله سبحانه يراها خيرا لك هنا

أنت تريدها حيث تشاء من الراحة لقِصَر نظرك الدنيوي، والله يريدها حيث يرى لك من الخير الأخروي

موسى عليه السلام مكث أجيرا عند شعيب عشر سنين، بينما أهل مصر وبنو إسرائيل كانوا أحوج ما يكونون إلى كل يوم من هذه السنوات العشر

وأيوب عليه السلام حُبس في جلده لعلة المرض ثلاثة عشر عاما، وقيل ثمانية عشر عاما، وقد كان الناس أشد احتياجا لعافيته-فيما يبدو لنا- من حاجتهم لمرضه

وامرأته كذلك قاسمته بلاء الزمان الطويل، وقد كانت بالطبع تتمنى حياة معه في رغد وعافية حسبما تراها هي، لا حيث يعلم الله سبحانه!

ويوسف عليه السلام لبث في السجن بضع سنين بينما أهل مصر كلهم على الكفر!

من حقنا أن نتوق للحرية لكنه ليس من حقنا أن نحدد الخيرية!!

عقولنا يا صاحبي لها حدود لا تستطيع تجاوزهالكن علم الله لا حدود له..

آخر حدود عقولنا بعض عالم الشهادة، لكن الله سبحانه يعلم الغيب والشهادة لذلك يدبر الأمر حسب علمه سبحانه لا علمنا

وقديما تمنى بعض الناس أنهم كانوا يحيون أيام النبي صلى الله عليه وسلم ليؤمنوا به ويدافعوا عنه فرد عليهم سيدنا المقداد بن الأسود ردا عجيبا ومخيفا في آن واحد، كما حكى ذلك جبير بن نفير فقال:

"جلسنا إِلَى الْمِقْدَادِ بْنِ الْأَسْوَدِ يَوْمًا، فَمَرَّ بِهِ رَجُلٌ فَقَالَ: طُوبَى لِهَاتَيْنِ الْعَيْنَيْنِ اللَّتَيْنِ رَأَتَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَوَدِدْنَا أَنَّا رَأَيْنَا مَا رأيت، وشهدنا ما شهدت، فاستغضب المقداد، فجعلت أعجب لأنه مَا قَالَ إِلَّا خَيْرًا، ثُمَّ أَقْبَلَ إِلَيْهِ فَقَالَ: مَا يَحْمِلُ الرَّجُلَ عَلَى أَنْ يَتَمَنَّى مَحْضَرًا غَيَّبَهُ اللَّهُ عَنْهُ لَا يَدْرِي لَوْ شهده كيف يَكُونُ فِيهِ، وَاللَّهِ لَقَدْ حَضَرَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَقْوَامٌ أَكَبَّهُمُ اللَّهُ عَلَى مَنَاخِرِهِمْ فِي جَهَنَّمَ لَمْ يُجِيبُوهُ وَلَمْ يُصَدِّقُوهُ، أَوَ لَا تَحْمَدُونَ اللَّهَ إِذْ أَخْرَجَكُمْ من بطون أمهاتكم لا تعرفون إلا ربكم مصدقين بما جَاءَ بِهِ نَبِيُّكُمْ قَدْ كُفِيتُمُ الْبَلَاءَ بِغَيْرِكُمْ؟ لَقَدْ بَعَثَ اللَّهُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى أَشَدِّ حَالٍ بَعَثَ عَلَيْهَا نَبِيًّا من الأنبياء في فترة جَاهِلِيَّةٍ، مَا يَرَوْنَ أَنَّ دِينًا أَفْضَلَ مِنْ عِبَادَةِ الْأَوْثَانِ، فَجَاءَ بِفُرْقَانٍ فَرَّقَ بِهِ بَيْنَ الحق والباطل، وفرق بين الوالد وولده، إِنْ كَانَ الرَّجُلُ لَيَرَى وَالِدَهُ وَوَلَدَهُ أَوْ أَخَاهُ كَافِرًا وَقَدْ فَتَحَ اللَّهُ قُفْلَ قَلْبِهِ لِلْإِيمَانِ يَعْلَمُ أَنَّهُ إِنْ هَلَكَ دَخَلَ النَّارَ، فَلَا تَقَرُّ عَيْنُهُ وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّ حَبِيبَهُ فِي النَّارِ، وَإِنَّهَا الَّتِي قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: (وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا هَبْ لَنا مِنْ أَزْواجِنا وَذُرِّيَّاتِنا قُرَّةَ أَعْيُنٍ)."

وقد رأيت ذلك بعيني رأسي أناس خرجوا من أسر السجان إلى أسر الكبائر، وأناس دخلوا السجن عصاة فصاروا أولياء!!

أعلم يا صاحبي أن طول الأسر يصنع في النفس بعض الوهن، ويُحضِر التساؤل كل حين لكني أوقن كذلك أن الأمر عند الله محسوب وِفق حكمة بالغةٍ علمها من علمها وجهلها من جهلها

وإن لم نسلِّم بهذه الحكمة طاشت العقول

وإلا كيف كان المرء منا يستوعب كيف لمثل ابن تيمية أن يؤسر سبع سنين، وللسرخسي أن يحبس خمس عشرة سنة، وللبخاري أن يموت شريدا طريدا، وغيرهم آلاف من صلحاء الأمة في كل زمان بينما العالم كان أحوج ما يكون إلى كل نفَسٍ من أنفاسهم!

نحن يا صاحبي كما قال السابقون:

ستارٌ للقدرة، ونأخذ الأجرة

وما دامت يد الله هي التي أعملت فينا قدرها، فلا نملك إلا التسليم لها لا تسليم عاجز، بل تسليم راض وموقن من حيث العمل القلبي، ورافضٍ ومقاومٍ من حيث الأخذ بالسبب المادي..

فقلوبنا يا صاحبي رأس مالنا، فإن أصابتها الآفة تكالبت عليها أثقال المحنة وإني أعيذك ومن معك من هذه الآفات يا صاحبي.

 

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين