لماذا معركة بدر؟

لماذا معركة بدر؟

 

ماجد الدرويش

قلما يتكلم متكلم عن معركة بدر الكبرى؛ أول مواجهة عسكرية فعلية بين المشركين من أهل مكة وبين مجتمع المدينة؛ إلا ويعللون ذلك بأن المسلمين خرجوا لاعتراض عير (قافلة) قريش بهدف استرجاع بعضٍ من الأموال التي صادرتها قريش منهم.

هذا التعليل ، وهو اجتهاد من قُرّاء الحدث ، لا أجده مكافئا لمجريات التحركات العسكرية النبوية في تلك الفترة، وبخاصة أننا لو استقرأنا كل النشاط العسكري للمسلمين منذ السنة الأولى للهجرة حتى السنة الثالثة سنجده يتركز على اعتراض قوافل قريش التجارية ، ومعلوم أن كل اقتصاد قريش يقوم على هذه القوافل، وبدونها يكون الوضع المعيشي في مكة كارثي.

وكل هذه الغزوات التي انطلقت لاعتراض قوافل قريش لم تفلح في موافاة قافلة منها ، ولم يحدث أن المسلمين سطوا على قافلة فأخذوها ، إلا قافلة واحدة التي كان يقودها ابن الحضرمي، والتي وافقت رجوع سرية الاستطلاع بقيادة ابن عمة النبي صلى الله عليه وسلم ، عبد الله بن جحش، علما أن النبي صلى الله عليه وسلم ، نهاهم في هذه السرية عن القتال، فخالفوا أمر النبي صلى الله عليه وسلم باجتهاد رأوه ، وهاجموا القافلة وكان الوقت شهر حرام ، فقامت قائمة المشركين حيث اتهموا النبي صلى الله عليه وسلم بانتهاك الأشهر الحرم، علما أنه ما أمر بذلك، حتى نزل قوله تعالى: ﴿يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه... ﴾ الآيات ، فلم تبرئ المسلمين من الخطأ ولكنها قارنت بين جرمهم وجرم المشركين فيما كانوا يرتكبونه من بحق المسلمين من أهل مكة.

المهم أنه لو كان الهدف من التحرك العسكري لاعتراض قوافل قريش استرداد أموال المسلمين التي سطت عليها قريش ، على الأقل ، كانوا خططوا للسيطرة عليها بشكل فعلي ، بل؛ ما أظنه؛ أن المهاجرين سلموا بأن ما خلَّفوه في مكة قد انتقلت ملكيته إلى من وضع يده عليه ، وكأنه عرف عند النزاعات ، كما حصل عند طرد اليهود من المدينة، فقد سكن المهاجرون مكانهم، والدليل على هذا الفهم ما جاء في صحيح ابن حبان  يوم فتح مكة المكرمة أنه قيل للنبي صلى الله عليه وسلم: يا رسولَ اللهِ انزِلْ في دارِك بمكَّةَ ، قال: (وهل ترَك لنا عَقيلٌ مِن رِباعٍ أو دُورٍ )؟ وكان عَقيلٌ ورِث أبا طالبٍ هو وطالبٌ ولم يرِثْه جعفرٌ ولا عليٌّ شيئًا لأنَّهما كانا مسلِمَيْنِ وكان عَقيلٌ وطالبٌ كافرَيْنِ.

فهذا تسليم بانتقال ملكية ما خلفه المهاجرون في مكة إلى الذين غلبوهم وقهروهم.

فاذا كان الأمر كذلك، فلم كان اعتراض قوافل قريش؟ ولم كان التركيز النبوي في النشاط العسكري على ذلك؟

برأيي أن السبب الأساس وراء ذلك هو الضغط على قريش من أجل تحقيق أمور عدة:

منها: وقف تحريض قريش للعرب واليهود على المسلمين ، كما نجده عند أبي داود في سننه في كتاب الجهاد، باب بني النضير، وكيف أن قريشا حرضت ابتداءً ابن أبي سلول على طرد المهاجرين ، فلم  تفلح كل تلك الجهود، واستطاع النبي صلى الله عليه وسلم إطفاء نار الفتنة التي أرادت قريش إشعالها. وكانت هذه المحاولة قبل معركة بدر الكبرى.

ثم وقعت معركة بدر بتقدير وترتيب رباني، وجاءت نتيجتها لصالح مجتمع المدينة، الأمر الذي قضى على كل محاولة إقصاء للمهاجرين يمكن أن يقوم بها ابن أبي سلول.

فتوجهت جهود قريش إلى يهود، وراسلت كعب بن الأشرف ، وهو من طيء ، لكن أمه يهودية، وكان سيدا مطاعا في قومه ، وحرضوه على قتال المسلمين، فأخذ يتعرض بالتشبيب لنساء المسلمين، ويتوعد المهاجرين والأنصار، وبدأت جهوده تثمر تجميعا لبعض القبائل لأجل عزل مجتمع المدينة وطرد المهاجرين،  حتى أمر النبي صلى الله عليه وسلم باغتياله ، فانطفأت فتنته ، وهرع زعماء اليهود إلى مهادنة النبي صلى الله عليه وسلم ، فكتب بينه وبينهم وثيقة المدينة المنورة. هذا كله يفيدنا أن الهدف كان تأمين مجتمع المدينة الوليد وحمايته من الذين يتربصون به الدوائر.

ومنها: ولعله الأمر الأهم في هذا التحرك العسكري ، هو الضغط على قريش لتعترف بالواقع الجديد. فالمدينة باتت بعرف اليوم دولة ، لها حدودها ، فينبغي احترام هذه الحدود. وقوافل قريش كانت تعبر أراضي المدينة في طريقها إلى الشام، ولم يكن أحد يتعرض لها. أما الآن فعلى قريش احترام الواقع الجديد وعدم استعمال أراضي دولة المدينة دون اتفاق بين الطرفين، أو على الأقل أخذ الإذن من أهل الأرض بعد الواقع الجديد، لذلك فإن غالب تحركات المسلمين ضد قوافل قريش كانت تقع ضمن حدود المدينة (الإقليمية). والتركيز على القوافل لتشكيل ضغط على فريش عن طريق معيشتها، كما سبق وذكرنا، فإن شريان الحياة الاقتصادية في مكة يتغذى من قوافل التجارة.

وقد أفلحت هذه الضغوط في العام السادس في صلح الحديبية. ومع يقين النبي صلى الله عليه وسلم وسلم أنه لن يدخل مكة تلك السنة، حيث التقط الإشارة الإلهية من بروك ناقته القصواء، وقوله: (حبسها حابس الفيل)، إلا أنه كان حريصا على عدم الرجوع خالي الوفاض، الأمر الذي سيعتبر عسكريا انتصارا لقريش، لذلك قرر التفاوض مع قريش على الإنسحاب الذي هو مقرر أصلا شرعا، لكن لا بد من توظيفه لصالح استقرار مجتمع المدينة، وضرورة شعور أهلها بالأمان، لذلك وضع شعارا تعظم في الكعبة، والهدف امن المدينة، فانتزع أهم وأغلى اعتراف من قريش بمجتمع المدينة، فمجرد التفاوض اعتراف بهذا المجتمع، ثم كان الصلح الذي أسماه الله تعالى فتحا مبينا، وكانت أهم بنوده التي أرادها النبي صلى الله عليه وسلم، وهو ان تضع الحرب أوزارها عشر، سنين.

وإذا حسبنا عدد الذين كانوا مع النبي صلى الله عليه وسلم في عمرة الحديبية (حوالي 1400) ، وعدد الذين دخلوا تحت لواء النبي صلى الله عليه وسلم مكة فاتحين بعد عامين فقط (10000)، أدركنا أهمية الأمن الذي كان يريد النبي صلى الله عليه وسلم الاستحصال عليه. والله أعلم.

إن اختصار التحرك العسكري النبوي في الجزيرة لاعتراض قوافل قريش لاستخلاص الأموال أمر يسئ، برأيي، إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وإلى الإسلام، ويُعَمّي على القيادة الرائعة التي كان النبي صلى الله عليه وسلم يمارسها، والديبلوماسية الحكيمة ، وبخاصة في إدارة الحروب، التي كان يُنَشّئُ عليها صحابته، ثم أمته، الذين يهيؤهم ليكون روادا للعالم الجديد.

وقد برزت أولى نتائج هذه التربية القيادية بعيد انتقاله صلى الله عليه وسلم إلى الرفيق الأعلى، في سقيفة بني ساعدة، حيث أثمرت هذه التربية تجاوز الأمة لأخطر قضية عرضت لها، ألا وهي غياب جسد النبي صلى الله عليه وسلم من بينهم. فاستوعبوا الحدث مع فظاعته، وأنتجوا قيادة جديدة، وأكملت الأمة مسيرتها.   

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين