لماذا استُعْبِدنا؟

 

إنَّ الاستعباد الذي ابتلينا به في القرن الماضي إنَّما كان نتيجة محتومة لانحطاطنا الديني والخُلُقي والفكري الذي تردَّيْنَا فيه من قرون عديدة، إذ كان قد بلغ بنا الأمر من الضعف والتقهقر والانحطاط، حيث لم يَعُد من الممكن أن يقرَّ لنا قرار أو أن نثبت على أقدامنا بأنفسنا، ففي مثل هذا الوضع كان من المحتوم أن تحلَّ بنا نازلة من النوازل، فها هي ذي قد نزلت في صورة الاستعمار البريطاني وفقاً لقانون الطبيعة.

حالتنا الدينيَّة:

ولنكون على حقيقة من الأمر يجب علينا أن نستعرض، قبل كل شيء، ما كانت عليه حالة بلادنا من الناحية الدينيَّة في القرن الماضي، فإنَّ أهم شيء لدينا هو الدين، ولا غرو فهو ملاك حياتنا وهو الذي يربط بين قلوبنا وأرواحنا ويجعلنا أمة واحدة، وهو الذي لا يمكن أن نقوم ونظلَّ قائمين في الدنيا إلا به.

فالذي يشهد به تاريخنا الماضي أنَّ الإسلام ما انتشر في هذه البلاد نتيجة لمساعٍ مبذولة مُنظَّمة. بل إننا إذا استثنينا الأيام الأولى من الفتح الإسلامي في السند والقرن الذي بعده، لا نكاد نعثر في عصر من العصور على قوة مُنظَّمة بذلت جهودها في نشر الإسلام وتعميم دعوته في هذه البلاد بجانب، وسهرت على تدعيم أركانه واستحكام عُراه حيث انتشر في جانب آخر.

وغاية ما كان من الأمر أن جاء إلى قرية من القرى أو مدينة من المدن رجلٌ مُسلم من أهل العلم والمعرفة فدخلت طائفة من الناس في الإسلام على يده، وجاء إليها تاجر من التجار المسلمين فأسلم عدد من الناس بسبب الاختلاط به، أو نزل بها رجل وَرِعٌ من أنزه المسلمين سيرةً وخُلقاً وعِشْر، فتأثَّر الناس بسمو أخلاقه وصفاء حياته، فقبلوا الإسلام ودخلوا في كنفه، إلا أنَّ هؤلاء الأفراد المنفردين لم يكن بأيديهم من الوسائل ما يُساعدهم على العناية بتعليم الذين أسلموا على أيديهم وتربيتهم وتلقينهم مبادئ الدين وأصوله، ولا كان يهمُّ الحكومات المسلمة وقتئذ أن تُعنى بتعليم هؤلاء المهتدين وتربيتهم حيثما انتشر الإسلام ودخل الناس في حظيرته بمساعي هؤلاء الأفراد المنفردين.

فكان من جرَّاء هذه الغفلة أن ظلَّ عامَّتُنا سَادِرِين في الجهل والجاهليَّة منذ أول أمرهم.

أما المعاهد التعليميَّة فما استفاد منها في مُعظم الأحوال إلا الطبقات العليا أو الوسطى، وما زال الدَّهْماء في جهلٍ تام بتعاليم الإسلام محرومين من آثاره الإصلاحيَّة إلى حَدٍّ عظيم، وقد سبَّب كل ذلك أن كان الناس من غير المسلمين يَدخلون في دين الله شعوباً وقبائل.

إلا أنَّ كثيراً من الرسوم الباطلة والعادات الجاهليَّة مما كانوا عليه قبل إسلامهم، لا تزال مُتفشيَّة بهم إلى يومنا هذا، بل لم تتغيَّر أفكارهم ومُعتقداتهم تغيُّراً تاماً، ولا يزال يوجد فيهم، إلى الآن، كثير من عقائد المشركين وأوهامهم التي ورثوها من أديان آبائهم الكافرين.

وأقصى ما حدث فيهم من الفرق بعد إسلامهم أن أخرجوا من تأريخ الإسلام آلهة لهم جديدة مكان الآلهة التي كانوا يَعبدونها من قبل، واختاروا لأعمالهم الوثنيَّة القديمة أسماء جديدة من المصطلحات الإسلاميَّة، وكان العمل على ما كان عليه من قبل وإنما تغيَّر قشره ولونه الظاهري.

فإن أردتم الشاهد على ما أقول، فسرحوا النظر فيما عليه حالة الناس الدينيَّة في أي بقعة من بقاع بلادكم، ثم ارجعوا إلى التاريخ وابحثوا عن الدين الذي كان الناس يَدينونه في هذه البقعة قبل أن يَأتيهم الإسلام.

فستعلمون أنَّه توجد هناك كثير من العقائد والأعمال التي تشبه عقائد الدين المنقرض وأعماله إلا أنها في شكل آخر ولون غير لونه.

فالبقاع التي كانت فيها الديانة البوذيَّة قبل الإسلام مثلاً، كان الناس يَعبدون فيها آثار بوذا، فهنا سِنٌّ من أسنانه، وهناك عَظْمٌ من أعظمه، وثَمَّة شيء آخر من أشيائه يعبده الناس ويتبرَّكون به، وإنكم لتجدون اليوم أنَّ الناس في هذه البقاع يُعاملون مثل هذه المعاملة شعراً من أشعار النبي صلى الله عليه وسلم، أو أثراً من آثار قَدَمِه، أو يتبرَّكون بآثار بعض صالحي المسلمين وعابديهم.

وكذلك إذا استعرضتم كثيراً من الرسوم والعادات المتفشِّية اليوم ببعض القبائل المتوغِّلة في إسلامها، ثم نظرتم فيما يروَّج في البطون غير المسلمة لهذه القبائل نفسها من الوسوم والتقاليد، فقليلاً ما تجدون فلربما بين هذه وتلك. 

أليس ذلك مما يشهدُ شهادةً ناطقةً بأنَّ الذين كان بيدهم زمام أمرِ المسلمين وشؤونهم الاجتماعيَّة في القرون السالفة، قصَّروا في أداء واجبهم أيما تقصير، إذ لم يَمُدُّوا يد التعاون والمساعدة إلى الذين بذلوا جهودهم في نشر الإسلام بجهودهم الفرديَّة، فقد انجذب مئات الملايين من الناس إلى حظيرة الإسلام مُتأثِّرين بدعوته.

ولكن الذين كانوا سَدَنة لبيت الإسلام مُتولِّين أمورَه، لم يُعنَوا في قليل ولا كثير، بتعليمهم وتربيتهم وتزكية حياتهم وإصلاح فكرهم.

فلم يكتبْ لهم أن يتمتَّعوا ببركات الإسلام ونِعَم التوحيد حق التمتع، ويقوا أنفسهم المضارَّ التي هي نتيجة لازمة للشرك والجاهلية، ثم ارجعوا ببصركم إلى ما كان عليه علماؤنا ومشايخنا في هذه القرون الماضية.

فمما لا مجال فيه للريب والمكابرة إن كان فيهم نفر أَسْدَوا إلى الدين خدماتٍ جلية كانت نافعة بالأمس ولا تزال نافعة إلى اليوم.

إلا أنَّ المشاغل التي شغلت مُعظم علمائنا وألهتهم عن الجدِّ في أمر الدين الحقيقي، كانت من قبل أنهم كانوا يتناظرون في المسائل التافهة غير المهمَّة، ويجسِّمُونها في نظر الناس، ويوارون عنهم المسائل الهامَّة الجليلة، ويجعلون الخلاف أساساً لفِرَقٍ مُستقِلَّة، ويجعلون التحزُّب والتفرُّق مِضْماراً للمُجَادلات والمخاصمات.

ويقتلون أعمارهم في تعليم عُلوم المعقولات اليونانيَّة وتعلمها، أما الكتاب والسنة فلم يكن لهم ولوع بدراستهما ولم يؤتوا حظاً من مَعَارفها، ولذلك لم يتمكَّنوا من تَعميم معارف القرآن والسنة، وترغيب الناس في ارتياد مَناهلها، وأما إن كان لهم بعض شغف بالفقه، فإنما ذلك إلى حَدٍّ يَعينهم على مجادلاتهم ومُناقشاتهم في الجزئيَّات والفروع.

إنهم لم يَلتفتوا ولو أدنى التفات إلى التفقُّه في الدين بمعناه الشامل؛ ولذا فحيثما كان لهم نفوذ أو تأثير ضاقت وجهة نظر الناس في الدين.

فلا عجب إذا كنَّا قد وَرِثْنا اليوم هذا الزرع الأخضر من المجادلات والمناظرات والتحزُّبَات والفتن المستمرَّة.

وإن تعجب، فعجبٌ من حال الصوفيَّة، فإنكم إذا سرحتم النظر فيهم، لا تجدون من بينهم من عَمِلوا بالتصوف الإسلامي الحقيق وعلَّموه الناس إلا عدداً يسيراً، أما مُعْظمهم فكانوا يَدْعون الناس ويرشدونهم إلى تصوُّفٍ كان مِزاجاً من الفلسفات الإشراقية، والمانويَّة، والزرادشتيَّة، وكانت طريق الرهبان والأحبار والإشراقيين والرواقيين اختلطت به اختلاطاً حتى لم تبقَ له علاقة بعقائد الإسلام وأعماله الخالصة إلا قليلاً، ولقد كان عباد الله يرجعون إليهم مُستهدين إلى الله، وهم يَهدونهم إلى طُرق مُعوَجَّة وسُبُلٍ زائفة، ثمَّ لما خَلَف من بعدهم خَلْفٌ، وورثوا فيما ورثوا عن أسلافهم، مُريديهم وأتباعهم، ولم يبقوا مما كان بينهم من العلائق إلا على علاقة النذور والهدايا دون الإرشاد والوعظ والتربية وأكثر مما سعت له هذه الدوائر، ولا تزال تسعى له، هو ألا يتسرب قَبَسٌ من العِلْم الصحيح بالدين إلى حيث مشيختهم النفوذ والتأثير، فإنَّهم يَعْرفون كلَّ المعرفة أنَّه لن يدوم لسحرهم ودجلهم تأثير في الناس إلا ما داموا جاهلين بدينهم.

الحالة الخُلقيَّة:

هذا ما كانت عليه حالتنا الدينية التي كانت لها يد، وأي يد في دفعنا إلى درك الاستعباد في القرن التاسع عشر، ولا تزال هذه الحالة بما فيها من الرذائل والسيئات، مُسيطرة علينا حتى بعد تبلُّج صبح الاستقلال والحريَّة اليوم.

وإذا نظرنا من الوجهة الخلقيَّة، كان الانحطاط والتدهور الخُلُقي المستمر قد بلغ بطبقتنا الوسطى - وهي قَوام كل أمَّة وعماد أمرها كما لا يخفى -  مَبلغاً جعل من رجالها عُمَّالاً مُسْتَأجرين من فِطرتهم أن يخدموا كلَّ من استأجرهم، ثم استعملهم واستخدمهم فيما شاء ولأي غرض شاء، فكان مئات الألوف من رجالنا مُستعدين ليكونوا جُنوداً مُستأجرين يستخدمهم من شاء، ويوقد بهم نار الحرب على من أحبَّ. 

وكذلك كان ألوفٌ بل مئات ألوف من شبابنا مُستعدين ليكتري منهم كلُّ مُتغلِّب فاتح أيديهم وقواهم الذهنيَّة بأجرة بخسة أو وافرة، ثم يُسَيِّر بها إدارة مُلكه، بل يستعملها في مداوراته الدبلوماسيَّة السياسية، فاستغلَّ ضعفنا الخلقي هذا كلُّ عدو من أعدائنا من المرهتة أو السيك أو الفرنسيين والهولنديين، وأخيراً فتح الإنكليز بلادنا ودوَّخوها بسيوف رجالنا، وتحكَّموا في أعناقنا بأيدينا وأذهاننا، ومما يُدمي العين ويفجع القلب أنَّ وعينا الخلقي كان قد – انطفأت جَذْوته، حيث بدأنا نفتخر بأعمالنا بدلاً من أن نشعر بقبح صَنيعها وسوء مصيرها، وقد عدَّها أحد كبار شعرائنا من مَفَاخر أسرته ومآثرها، وقال ما معناه: 

أنَّ الجندية مهنة آبائه وأجداده كابراً عن كابر. 

والحال أنَّ تعاطي المرء الجنديَّة كمهنة، عارٌ عليه وعلى ذويه، بدل أن يكون مفخرة أو محمدة، فأين يكون من المروءة والإنسانية من لا يكاد يفرِّق بين الحق والباطل، ولا يميز صديقه من عدوه؟ 

وكلُّ من ملأ بطنه خبزاً، وكسا جسدَه ثوباً استعدَّ للقتال معه والذود عن حياضه، من غير أن يهمَّه في قليل ولا كثير، من يُقاتله ولمن يظهر بأسه وشجاعته؟. 

فالذين كانوا على مثل هذه الحال من الأخلاق، كان – ويَنبغي أن يكون – من المستحيل أن يوجد فيهم نوعٌ من الأمانة والاستقامة، والولاء الثابت المنيع من قرارة الأنفس وأعماق الصدور. 

وإذا كان من السهل عليهم أن يَبيعوا أنفسَهم لأعداء دينهم وأمَّتهم ويساوموهم فيها، فماذا عسى أن يكون من السبب لأن يَبقى فيهم ضمير حيٌّ قوي طاهر، وما لهم ألا يُسمُّوا الارتشاءَ والغبنَ منحةً ربانيةً وفضلاً من الله تعالى، ومالهم ألا يكونوا انتهازيين يَرتقبون فرص التمتُّع والانتفاع، ويستسلموا لكل قوَّة تظهر بمظهر الغلبة والعلو؟ وما لهم ألا يتخلَّقوا بأن يأتوا كلَّ شيء يُريده منهم من يسخوا عليهم براتبهم غير آبهين لإيمانهم وضمائرهم؟. 

ومن هنا، لكم أن تُقدِّروا أنَّ الصفات التي تظهرها بمظهرها اليوم أغلبيَّة رجال الطبقة الموظَّفة منا، ليس بضعف اتفاقي نشأ فيهم بين عشيَّةٍ وضُحاها بل لها أصول راسخة، وجذور مُستحكمة في تاريخنا الماضي، إلا أنه مما يدعو إلى الأسف أنَّ هذا الضعف الذي كان أعداؤنا يستغلونه بالأمس، ترى اليوم زعماءنا القوميين يَستخدمونه لأغراضهم، ممن كان المرجو منهم أن يكونوا أساةً لأدواء الأمَّة، بدلاً من أن يستغلوها لأغراضهم.

وكذلك كان علماؤنا يُشاركون الطبقة الوسطى في أمراضها الخلقيَّة التي تقدم ذكرها آنفاً، ولا شكَّ أن كان فيهم رجال من ذوي الأخلاق الفاضلة والطباع  المستقيمة كما كان أمثالهم في الطبقة المتوسِّطة، الذين عَرفوا واجبهم حقَّ المعرفة، وبذلوا في أداء مُهَجهم، ولم تستطع قوَّة من قوى العالم  أن تُساومهم في دينهم إلا أنَّ مُعظمهم كانوا من الجهالة الخلقيَّة على مثل ما كان عليه رجال طَبقتا الوسطى، فكانوا ينالون الرواتب والجرايات من الحكومات، وكان شعارهم أن يتعلَّقوا بأذيال أمير من الأمراء، أو ملك من الملوك، أو رجل من حواشيهم، ويعبروا الدين ويؤولوا أحكامه وقوانينه كما يَرضاه ويشتهيه، ويقدموا أهواءهم الشخصيَّة ومصالحهم الذاتيَّة على الدين ومُقتضياته، ويَستعملوا سلاح الدين تَضييقاً على دعاة الحق، وإرضاء لسادتهم وأولياء رزقهم. 

وكان ديدنهم أن يتهاونوا في شأن المسائل الأساسيَّة والمهمَّات الخطيرة، ويشددوا في الفروع والجزئيَّات التافهة، ومن هنا كان شعورهم الديني مُرْهفاً غاية الإرهاف لعامَّة الناس والذين لا نفوذ لهم ولا سلطان، فكانوا لا يكادون يَصْفحون عنهم في التهاون في الأمور المستحبَّة، وكم أوقدوا من نيران الخصومات والشقاق بين الأمَّة لأجل أمثال تلك المسائل الفرعيَّة التافهة.

أما الأغنياء وأرباب الجاه والثروة ومن يَمْلكون النفوذ والسلطة، فظَلُّوا لهم سواء كانوا من المسلمين أو غيرهم، رمزاً للمُجاملة والمصالحة، وأخرجوا لهم الرخص والتسهيلات لا في الفروع والجزئيَّات فحسب، بل في المبادئ والأصول أيضاً.

أما أغنياؤنا فما كان ليهمهم في الدنيا ويشغل بالهم إلا شيئان: البطنُ والفرج، فلم يكن بعدهما شيء في الدنيا يستحقُّ الالتفات والأهميَّة في نظرهم، بل كانت كلُّ مجهوداتهم مرتكزة حولهما مُنحصرة في سبيل خدمتهما، وما كانت أموال الأمة وثروتها تُنفق إلا في سبيل ترقية مِهَن وصناعات وحِرَف تقوم بنوعٍ من الخدمة لهذين، فإذا بذل غنيٌّ من الأغنياء ثروته وقوته في غاية أسمى وغرض أشرف، حاول سائر الأغنياء مجتمعين إسقاطه والتنديد بمنزلته، ولم يتحرَّجوا في المؤامرة مع أعداء الأمَّة لإحباط مَسعاه المحمود، والتغلُّب على أمره.

الحالة الفكريَّة والعلميَّة:

ثم إذا استعرضنا ما كانت عليه حالتنا الفكريَّة والعلميَّة في هذه القرون، ظهر أنَّ باب التحقيق والاجتهاد العلمي كان مُوصداً عندنا إلى ما تركه لنا أوائلنا وأسلافنا، والفكرة التي سادت، وكانت لها جذور مُتأصِّلة في نظام تعليمنا أنَّ كل شيء قد تمَّ على يدِ أسلافنا، هو آخر لَبِنَة في بناء العلم والتحقيق، لا يضاف ولا يمكن أن يضاف إليه بعدها شيء أبداً، وأنَّ أعظم خدمة يُمكن إسداؤها إلى الأمَّة هي أن يذيَّل ما كتبه الأولون بحواشٍ وشُروحٍ، يؤلفونها ويَشتغلون بتدريسها، فلا نكادُ نعثُر في هذه القرون على أثر فكرة مُبتكرة، واختراع مُبتدع، واكتشاف جديد.

وبذلك طرأ علينا جمود فكري وغشى أجواءَنا العقليَّة سحابة سوداء من العُقْم والتبلُّد، فالظاهر أنَّ كلَّ أمة ابتليت بمثل هذه الحال لا يُمكن أن تطول بها الحريَّة ولابد أن تغلب على أمرها أمَّة حيَّة قوية كانت قد أحدثت اليقظة والنشاط في أبنائها.

وكان الشعور بالواجب يسودُ رِجَالها على حسب ما يَفهمون من واجبهم وكان الولاء المستقلُّ الخالص مَوجوداً في علمائها وزعمائها، وأولي الأمر منها: وكان أهل العلم من أبنائها مخترعين للقوى الجديدة، ومُستخدمين إياها في مختلف نواحي الحياة وشؤونها، وكانوا مُستمرين في التقدُّم إلى الرقي، والعُلا في مختلف شعب المدينة والحضارة.

فإذا وجدت في الأرض مثل هذه الأمَّة الحيَّة، فإلى متى كان من الممكن أن تبقى مالكة زمام الأمر مُتصرِّفة في أمور البلاد، أمَّة قد ضربت عليها عوامل الجمود والانحلال الخلقي وتغلغلت في عروقها الجاهليَّة؟ فما كانت هذه الكارثة التي ابتلينا بها حادَّة مُفاجئة، بل إنَّ قانون الفطرة هو الذي اقتضى ألا نحيا إلا تحت نير أمَّة من أمم أوروبا الراقية.

 

وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم.  

المصدر: (مجلة الأزهر، السنة التاسعة والأربعون، شوال 1397 - الجزء 8 ).

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين