للذكرى.. منبر الجامع الأموي بحلب

 

كان يوماً حزيناً حينما تناهى إلى سمعي خبر دمار وسقوط مئذنة الجامع الأموي الكبير بحلب يوم (الأربعاء 24  نيسان 2013 م)، وأصبح اليوم الأشد حزناً وألماً عندما علمت بخبر سرقة منبر الجامع الأموي الكبير يوم (الاثنين 13 أيار 2013 م).

وبعدما أفقت من هول الصدمة، خطر لي أن أحدثكم عن تاريخ هذا المنبر الثمين الذي فقدته حلب ليتعرف عليه وعلى أهميته أهلها، علها تكون ذكرى وأملاً بعودته وعودة المئذنة إن شاء الله عما قريب:

يتناقل بين الحلبيين وغيرهم أن منبر الجامع الأموي الكبير بحلب هو أحد منبرين صنعا بحلب أيام (الملك العادل نور الدين الزنكي) وثانيهما منبر المسجد الأقصى والذي أرسله من حلب (السلطان صلاح الدين الأيوبي) حينما فتح بيت المقدس وحرره من الصليبين.

ولكن الحقيقة غير ذلك..

إذا ما هي؟

لنتعرف:

كان بحلب نجار يعرف بـ (الأختريني) من قرية (أخترين) ليس له قرين في براعته وصنعته، فأمره (نور الدين الزنكي) بعمل منبر للمسجد الأقصى قبل فتح بيت المقدس على أمل أن يفتحه، وقال له: "اجتهد أن تأتي به على النعت المهندم والنحت المهندس"، فجمع النجار الأختريني الصناع وأحسن الإبداع، وأتمه في سنين واستحق بحق إحسانه التحسين.

وحدث حريق في جامع حلب الأموي الكبير أيام (نور الدين الزنكي) واحترق منبره، فاحتيج إلى منبر فنصب ذلك المنبر وكان حسن المنظر، فقام النجار الأختريني بعمل محراب آخر مشابه تماماً للمحراب الأول لا فرق بينهما ومن شاهدهما لا يرى أي اختلاف بينهما بل هما توأمان في الشكل وحسن الصنعة.

وفي (رجب 583 هـ/ أيلول 1187 م)  فتح (السلطان صلاح الدين الأيوبي) رحمه الله بيت المقدس، وكان الصليبيون قد اغتصبوه سنة (492 هـ/ 1098 م)، وبقي في أيديهم (91 سنة). 

وصلى (صلاح الدين الأيوبي) فيه صلاة الجمعة والمسلمون معه في قبة الصخرة، وكان الخطيب والإمام (محيي الدين محمد بن أبي الحسن بن الزكي) قاضي دمشق ثم عين فيه (صلاح الدين الأيوبي) خطيباً وإماماً للصلوات الخمس، وأمر بصنع منبر له، فقيل له إن (نور الدين الزنكي) صنع بحلب منبراً وأمر الصناع بالمبالغة في تحسينه وإتقانه، وقال: هذا قد عملناه لينصب بالبيت المقدس فعمله النجارون في عدة سنين لم يعمل في الإسلام مثله، فأمر بإحضاره فحُمل من حلب ونُصب بالقدس إلى جانب محراب المسجد الأقصى، وكان بين عمل المنبر وحمله ما يزيد على (20 سنة).

وقيل: أن صانعه الأختريني مات قبل تركيبه وعجز الناس عن تركيبه، فرآه ولده في النوم فقال له: عجزتم عن تركيبه؟ قال: نعم، فأراهم كيفية التركيب فأصبح ولده وركبه.   

وقد وصف الرحالة (أبي الحسين محمد بن أحمد بن جبير الكناني الأندلسي) جامع حلب الأموي الكبير برحلته سنة (580 هـ/ 1184 م) وذكر المنبر الموجود في زمنه وهو منبر (نور الدين الزنكي) بقوله: 

"وهذا الجامع من أحسن الجوامع وأجملها، قد أطاف بصحنه الواسع بلاط كبير متسع مفتح كله أبواباً قصرية الحسن إلى الصحن عددها ينيف عن الخمسين باباً فيستوقف الأبصار حسن منظرها. وفي صحنه بئران معينتان، والبلاط القبلي لا مقصورة فيه فجاء ظاهر الاتساع رائق الانشراح، وقد استفرغت الصنعة القرنصية جهدها في منبره فما أرى في بلد من البلاد منبراً على شكله وغرابة صنعه، واتصلت الصنعة الخشبية منه إلى المحراب فتجللت صفحاته كلها حسناً على تلك الصفة الغريبة وارتفع كالتاج العظيم على المحراب وعلا حتى اتصل بسمك السقف، وقد قوس أعلاه وشرف بالشرف الخشبية القرنصية، وهو مرصع كله بالعاج والأبنوس، واتصال الترصيع من المنبر إلى المحراب مع ما يليهما من جدار القبلية دون أن يتبين بينهما انفصال فتجتلي العيون منه أبدع منظر يكون في الدنيا. وحسن هذا الجامع المكرم أكثر من أن يوصف.

أما الكتابات التي على منبر (نور الدين الزنكي) فكانت:

مكتوب في الجهة الشرقية عن يسار المنبر في أطرافه الأربع بعد البسملة: "أمر بعمله العبد الفقير إلى رحمته الشاكر لنعمته المجاهد في سبيله المرابط لإعلاء دينه العادل نور الدين ركن الإسلام والمسلمين منصف المظلومين من الظالمين أبو القاسم محمود بن زنكي بن أيوب ناصر أمير المؤمنين عز الله أنصاره وأدام اقتداره وأعلى مناره في الخافقين ألويته وأعلامه وأعز أولياء دولته وأذل كفار نعمته وفتح له وعلى يديه وأقر بالنصر والزلفا عيناه برحمتك يا رب العالمين وذلك في شهور أربعة وستين وخمسمائة" (1168 م). 

مكتوب على المصراع الأيمن من الباب: "عمله سليمان معالي رحمه الله".

وعلى المصراع الأيسر: "عمله حميد بن ظافر رحمه الله". 

ومكتوب على الجهة الغربية اليمنى في أطرافه الأربع بعد البسملة "في بيوت أذن الله..." إلخ الآية. 

وفي الجهة اليسرى أي الملاصقة للمحراب في الأطراف الأربع أيضاً بعد البسملة "إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله واليوم الآخر وأقام الصلاة وآتى الزكاة ولم يخش إلا الله..." إلخ الآية. 

وكتب على طرفي التاج: "صنعه حميد بن ظافر الحلبي رحمه الله". و"صنعه فضائل وأبو الحسن ولدي يحيى الحلبي رحمه الله".   

وقد احترق هذا المنبر حينما دخل حلب صاحب سيس (عاصمة أرمينيا الصغرى) إلى الجامع وأحرق الجانب القبلي منه وذلك سنة (684 هـ/ 1285 م).

أما المنبر الحالي فقد صُنع زمن المماليك البحرية حكام مصر وكانت حلب تتبعها وذلك في أيام (السلطان الملك الناصر محمد بن قلاوون) وأقامه كافل حلب (قره سنقر الجوكندار) سنة (727 هـ/ 1326 م) عندما رمم جامع حلب، وصانعه (محمد بن علي الموصلي) بتولي (محمد بن عثمان بن الحداد).

وهذا المنبر مصنوع من خشب الآبنوس بديع الصنعة، تخلل أجزاءه قطع رقاق صغار من العاج تدل على براعة صانعه ورقي في تلك الصنعة في ذلك العهد. ولكنه لم يكن مثل المنبر القديم الذي صنعه (نور الدين الزنكي). 

مكتوب على تاج بابه: "عمل في أيام مولانا السلطان الملك الناصر أبي الفتح محمد عز نصره". 

وتحت ذلك: "عمل العبد الفقير إلى الله تعالى محمد بن علي الموصلي". 

وعلى مصراعي الباب: "بتولي العبد الفقير إلى الله تعالى محمد بن عثمان الحداد".

وكتب وراء المنبر في أعلى الجدار: "أمر بعمله المقر العالي الأمير الشمسي قراسنقر الجوكندار الملكي المنصوري عز نصره".  

وقد رمم هذا المنبر في احتفالية حلب عاصمة الثقافة الإسلامية في (17 آذار 2006 م) أيام رئيس سورية (بشار حافظ الأسد) ومحافظ حلب (الدكتور المهندس تامر الحجة). 

وهو منبر دقيق الصنع، مزين بالحشوات الخشبية من خشب الصنوبر والجوز والأبنوس ومرصع بالعاج والصدف وخيوط الفضة. وقد تم عزله عن الرطوبة وحمايته من السوس والحشرات بموادّ خاصة، وتم تعويض بعض الأجزاء المفقودة بناء على دراسة مستفيضة. 

وهو من أقدم المنابر الحلبية الباقية. ويعد من القطع الفنية الثمينة النادرة، حيث صنع من الأخشاب الثمينة كالأرز والأبنوس، وطعّم بالعاج والصدف. ارتفاعه (3.57 م)، وعرضه (1.08 م)، يصعد إليه الخطيب بـ (عشر درجات). ويتألف من أربعة أجزاء: المدخل، المجنبتان، مجلس الخطيب، المعبر.

وأما منبر (نور الدين الزنكي) الذي حُمل إلى القدس فإنه لم يزل باقياً فيها إلى أن احترق حين دخول اليهود بيت المقدس عام (1969 م).

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين