لتكن همَّتنا على قدر مهمتنا

 

ما هي مهمتنا في الحياة؟ قال الله تعالى: (وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الارض خليفة ) (وما خلقت الجن والانس إلا ليعبدون)

قال الإمام الرازي في تفسير معنى العبادة: (( ما العبادة التي خلق الجن والإنس من أجلها؟ قلنا: التعظيم لأمر الله والشفقة على خلق الله))

وقال الشاعر :

 قد رشحوك لأمر لو فطنتَ له              فاربأ بنفسك أنْ ترعى مع الهَمَل

وقال الشاعر :

داؤك منك وما تشعر                ودواؤك فيك وما تبصر

وتزعم أنك جرم صغير             وفيك أنطوى العالم الاكبر

ما الذي يدفعني إلى التحلي بالهمة العالية؟

أولاً:الهِمَّة العاليةهي الباعث للعمل قال الشيخ عبدالقادر الكيلاني: (همُّك ما أهمك فليكن همك ربك عز وجل وما عنده)، وقال :(سبحان الذي ألقى في قلبي نصح الخلق وجعله أكبر همي) وقال ابن القيم الجوزية: (ولله الهمم ما أعجب شأنها وأشدُّ تفاوتها فهمة متعلقة بالعرش وهمة حائمة حول الأنتان والحش)

وقال المودودي (إنه من الواجب أن تكون في قلوبكم نارٌ مُتَّقدة تكون في ضرامها على الأقل مثل النار التي تتقد في قلب أحدكم عندما يجد أبنا له مريضا ولا يدعه حتى يجره إلى الطبيب أو عندما لا يجد في بيته شيئا يسد رمق أولاده فتقلقه وتضطره إلى بذل الجد والعصي)

أمثلة على الهمة العالية:

أ: همة طير الهدهد للنبي (سليمان) عليه السلام حيث رغم صغر حجمها طارت من فلسطين إلى اليمن حيث مملكة الملكة (سبأ)ثم رجعت إلى النبي سليمان عليه السلام وأخبرته بنبأهم فدعاهم إلى الإسلام فأسلموا (قالت ربِّ إني ظلمت نفسي وأسلمت مع سليمان لله رب العالين).

ونأخذ من هذا الهدهد:الأمانة في النقل وسمو الهمة وحمل هم الدعوة.

ب:الخليفة الراشد أبو بكر الصديق رضي الله عنه استطاع في أقل من سنتين أن يخرج المسلمين من دائرة حصار المرتدين إلى أن تحاصر جيوشُه أعظم إمبراطوريتين(الفارسية والرومانية)فيهزم الإمبراطرية الفارسية في السنة (14)من الهجرة ويهزم الامبراطورية الرومانية في السنة (15) من الهجرة في أيام عهد الخليفة الراشد عمر بن الخطاب رضي الله عنه..

ج:المرأة المسلمة: ( خديجة) أم المؤمنين رضي الله عنها ,قلبها أول قلب خفق بالإسلام وتألق بنور الإسلام حيث كانت مبعث الغبطة والسكينة للرسول (ص) عند تدافع النوب واشتداد الخطوب قال الرسول (ص) : آمنت بي إذ كذبني الناس وآوتني إذ رفضني الناس ورزقت منها الولد وحرمتموه مني.

والداعية كثير التفكير في أحوال أمته وسبل إصلاحها وأسباب قوتها، وهو دائماً يحمل هموم الأمة ويعاني من جراحاتها، ويحزن لآلامها ،وتمتزج هذه الهموم مع إيمانه بالله ويقينه بنصره؛ فيتولد في قلبه الإصرار على العمل، وتنبثق في نفسه همة عالية لا ترضى بالدون، ولا تقنع بما دون البذل الكامل والنصر التام؛ لأنه سائر في طريق الله، مجاهد في سبيل دعوة الله، ولسان حاله يقول:

إذا غامرت في شرفٍ مروم

 


فلا تقنع بما دون النجوم

 

أيها الداعي إلى الله ترجم على أرض الواقع كلمات ربيعة بن كعب لما قال له المصطفى:
سلني ما شئت، فقال: أسألك مرافقتك في الجنة. وأنت تعلم أن المصطفى عليه الصلاة والسلام قال: ألا إن سلعة الله غالية ألا إن سلعة الله الجنة، والثمن بذل في سبيل الله، لا يُستثنى منه شيء حتى الروح (إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة يقاتلون في سبيل الله فيقتلون ويُقتلون...)[النوبة:111] وأنت – أيها الداعية تعرف الحياة وغايتها وقصرها ونهايتها فلتكن عندك مطية الآخرة التي هي المطمع والمطمح.
ومن هنا فإن الهم يولد الهِمّة، والهمة تدفع للعمل وتظل أكبر منه دائما

وإذا كانت النفوس كباراً

 


تعبت في مرادها الأجسامُ

 

 

ثانيا: الشعور بالمسؤولية: إنَّ الطامة الكبرى أن تسود المؤمنين حالة من اللامبالاة وعدم الإحساس بعظم التبعية و المسؤولية المترتبة على عصيان الأمر واجتناب النهي ،. قال تعلى (وقفوهم إنهم مسؤولون ) وقال (صلى الله عليه وسلم ) : « لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربع : عن عمره فيما أفناه وعن جسمه فيما أبلاه وعن علمه ما عمل به وعن ماله من أين اكتسبه وفيما أنفقه » وقال: «إنَّ أول ما يُسأل عنه العبد يوم القيامة من النعيم أن يقال له: ألم نُصح لك جسمك ونرويك من الماء البارد»

-ولنقرأ قصة الصحابي سعد بن سهل ،t  وكيف أنه خرج إلى السوق ليشتري أثاث الزواج فسمع في السوق منادياً ينادي :يا خيل الله اركبي وإلى الجنة ارغبي.فانطلق من سوق أثاث الزواج إلى سوق السلاح، واشترى سيفا ورمحا وفرسا ووضع على وجهه لثاما،حتى لا يعرفه احد وانطلق مع المؤمنين على فرسه مجاهدا في سبيل الله وقُتل شهيدا في تلك الغزوة وبينما رسول الله صلى الله عليه وسلم  يمر بين القتلى من الشهداء إذا به يرفع اللثام عن وجهه فرآه ثم أعرض عنه بوجهه فقال له أصحابه يا رسول الله أتعرض عنه وقد قتل شهيدا في سبيل الله ؟فقال :«لقد رأيت إحدى زوجتيه من الحور العين تلاعبه فيما بين جبته وجسده» وهذا هو الشعور بالمسؤولية لنصرة الإسلام والاستجابة السريعة لله ولرسوله ولنصرة دينه وشريعته وهذا هو الصدق في البيعة مع الله والتجارة الرابحة والاستجابة الحقيقية لقول الرسول الكريم محمد صلى الله عليه وسلم  حيث قال:

«والذي نفسي بيده لتأمرنَّ بالمعروف ولتنهون عن المنكر أو ليوشكنَّ الله أن يبعث عليكم عقابا منه ثم تدعونه فلا يستجاب لكم»رواه الترمذي وأحمد.

ثالثا: الحصول على الأجر والثواب(تعظيم ثواب هداية الأفراد ) قال تعالى (ومن أحسن قول ممن دعا إلى الله وعمل صالحا وقال إنني من المسلمين) قال الإمام التابعي حسن البصري في شأن  الداعي إلى الله (( هذا حبيب الله ,هذا ولي الله ,هذا صفوة الله ,هذا خيرة الله , هذا أحب أهل الأرض إلى الله, أجاب الله في دعوته,ودعا الناس إلى ما أجاب الله فيه من دعوته وعمل صالحا في أجابته وقال إنني من المسلمين , هذا خليفة الله) وقال النبي (صلى الله عليه وسلم ) : (( منْ غدا إلى المسجد لا يريد إلا أن يتعلم خيراً أو يعلمه كان له كأجر حاج تاماً حجته))رواه الطبراني. وقال (صلى الله عليه وسلم ): (منْ دلَّ على خير فله مثل أجر فاعله).

رابعا:الوفاء بأركان البيعة: قال الامام الشهيد (البنا رحمه الله) :( أركان بيعتنا عشرة فاحفظوها:الفهم والإخلاص والعمل والجهاد والتضحية والطاعة والثبات التجرد والإخوة والثقة ). حيث أن من أركان بيعتنا العمل. والعمل ثمرة الفهم والإخلاص وفي منهجيتنا أصبح مشهورا أن مراتب العمل عند الأخ هي:1-إصلاح نفسه. 2-تكوين بيت مسلم. 3-إرشاد المجتمع . 4-السعي لتحرير وطنه.

5- السعي لإصلاح الحكم. 6-دعوة الغير إلى الإسلام . وطموح المسلم لا يتوقف عند حد إلا عندما تتوقف الأحكام وتنعدم المهام.

قال الخليفة عمر بن عبد العزيز:( أن لي نفس تواقة تمنيت يوما أن أتزوج فاطمة بنت الخليفة فتزوجتها وتمنيت أن أكون واليا على المدينة فصرت واليا على المدينة فتمنيت أن أكون خليفة فصرت خليفة للمسلمين وأنا الآن اشتاق إلى الجنة فعاش يعمل للجنة).
خامساً: احتياج الداعي إلى تقديم شيء لواقعه:أنت أخي الداعية بين مفترق الطرق فإما أن تسلك سبيل اليسرى وإما أن تسلك سبيل العسرى قال تعالى (فأما من أعطى واتقى وصدَّق بالحسنى فسنيسره لليسرى وأما من بخل واستغنى وكذب بالحسنى فسنيسره للعسرى)

. قال الشاعر:

إني رأيت وقوف الماء يفسده      إن ساح طاب وان لم يجر لم يطب

وقال الرافعي (رحمه الله) :(الذي لا يقدم شيا للحياة فهو زائد عن الحياة) ,

محمد الفاتح منذ كان عمره 15 عاماً يركب حصانه ويركض داخل البحر وعينه على القسطنطينية حتى فتحها بعد 8 سنوات، ولكنها كانت هدفه ونصب عينيه . و حين كان للبخاري 14 عاما وأثناء جلوسه في احد الدروس سمع اثنان من العلماء يتحدثان عن كتب الحديث ويتألمان لأنها تحوى الصحيح و الضعيف والموضوع ويتمنيان أن يظهر من يهتم بجمع الأحاديث الصحيحة فقط في كتاب ... فقال لنفسه: أنا لها .

سادساً: الدعوات لا تقوم إلا بالتضحيات :

وباستقراء الحقائق ، ومعرفة الواقع يتبين للبصير ما يلي :

1- كل دعوة لا تنتشر إلا بجهود أتباعها ، ودين الإسلام لم ينتشر براحة الأبدان وسلامة النفوس .

2- تتسع الثغرات على الدعوة الإسلامية يوماً بعد يوم ، وتكثر المجالات الشاغرة التي تفتقر إلى من يقوم بها .

3 - يتزامن مع هذا قلة الموارد ، وجفاف المنابع ، وضيق ذات الدعاة مما يُخشى أن يشكل خطراً على بعض الدعاة وكثيراً من البرامج .

4 - هذا الواقع الصعب يواجه أفراداً ممن عرفوا واجبهم ورأوا خطورة الأمر في حين أنه يحتاج إلى اجتماع الجهود واستعداد كل داعية غيور بالجود والتضحية .

5 - وفي المقابل تزداد جهود أهل الباطل قوة ، وتزداد مخططاتهم دقة ، وتتعدد أنشطتهم لتشمل شتى الجوانب .

ونجد هنا شكوى عمر رضي الله عنه المُرَّةَ ماثلةً : ( اللهم إني أشكو إليك جَلَدَ الفاجر وعجز الثقة ) ، ولا يرفع هذا الواقع إلا الصدق مع الله ، ودليل الصدق: الاستعداد مع البذل والتضحية في كل جانب تحتاج إليه الدعوة في وقت كهذا ، وهو الوقت الذي يعظم فيه الأجر ويزداد فيه الفضل ، وشتان بين من يُضحِّي وهو يرى ثمرة الجهد وتلوح له أمارات النصر ، وبين من يُضحِّي وقد غابت عن ناظريه أمارات النصر ودلائل التمكين ، قال الله عز وجل : ] لا يَسْتَوِي مِنكُم مَّنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ الفَتْحِ وقَاتَلَ أُوْلَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِّنَ الَذِينَ أَنفَقُوا مِنْ بَعْدُ وقَاتَلُوا وكُلاًّ وعَدَ اللَّهُ الحُسْنَى واللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ [ . [الحديد : 10] .

وقد كان لكثير من أصحابه صلى الله عليه وسلم رضي الله عنهم صفحات طويلة من البذل والتضحيات ، فيهجر مصعب رضي الله عنه النعيم والدعة ويهاجر داعية إلى الإسلام في المدينة ، ويعرِّض علي رضي الله عنه نفسه للهلاك بنومه في فراش النبي صلى الله عليه وسلم عشية الهجرة ، ويرمي البراء نفسه بين الأعداء في حديقة الموت فيفتح الله للمسلمين بسببه ، ويُعرِض أبو الدرداء عن التجارة تفرغاً لمجالسة النبي صلى الله عليه وسلم ، ويتقبل خالد بن الوليد التنازل عن منصبه طاعة لأمير المؤمنين ، ويتنازل أبو عبيدة عن إمرة الجيش لعمرو بن العاص جمعاً لكلمة المسلمين ، ويرفض الحسن بن علي الخلافة درءاً للفتنة وجمعاً

للكلمة ، ويقبِّل عامر بن عبد الله رأس زعيم الروم المشرك ليعتق له أسرى المسلمين ... [11] .

ولم يخلُ تاريخ النساء العظيم من روائع بالجود والتضحية ؛ فقد ضحت أم سلمة بشمل الأسرة ، وتحملت فراق الزوج والولد في سبيل الهجرة ، ولا يخفى جهد أسماء وعناءها أثناء الهجرة ، ولا تضحيتها بابنها عبد الله بن الزبير في سبيل نصرة الحق .

دلائل الجود والتضحية وثمراتهما :

1 - كمال الإيمان : وذلك لأن التضحية شعبة من شعبه ، يزيد بها الإيمان ، وينقص بتركها ، وقد قال صلى الله عليه وسلم : ( من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه ) [17] .

2 - حصول شرف التأسي بالنبي صلى الله عليه وسلم ، وهي أمارة أيضاً على قوة الإيمان لقوله عز وجل : ] لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ والْيَوْمَ الآخِرَ وذَكَرَ اللَّهَ َثِيراً [ . [ الأحزاب : 21] .

3 - عدم الركون إلى الدنيا ، والتعلق بالآخرة ، وهو طريق سعادة العبد .

4 - تحصيل قناعة القلب وغنى النفس ، وهو الغنى الحقيقي ؛ لارتباط صاحبه بربه عز وجل .

5 - ضمان الخلف لما أنفق ، وحصول البركة لما بقي . وقد جاء في الحديث : ( ما من يوم يصبح العباد فيه إلا ملكان ينزلان ، يقول أحدهما : اللهم أعطِ منفقاً خلفاً ، ويقول الآخر : اللهم أعط ممسكاً تلفاً ).

وهو مفهوم القاعدة المشهورة : من ترك شيئاً لله عوضه الله خيراً منه ، وأمثلتها في القرآن كثيرة : هجر إبراهيم عليه السلام قومه واعتزالهم فعوضه الله الذرية الصالحة ، وضحَّى يوسف عليه السلام بالشهوة فعوضه الله بالملك يتمتع بالمباحات ، وضحَّى أهل الكهف بالراحة فعُوِّضوا بالراحة الأعظم ، وكانوا سبباً لهداية الضالين ، والمهاجرون تركوا أوطانهم وأهلهم فعوَّضهم الله بالرزق والعز والتمكين ، وجمع شملهم بعد فرقة ... وهكذا فكل من ترك ما تهواه نفسه وضحَّى به لله تعالى ، وجاد به في سبيله لرفعه كلمته عوضه الله من محبته وعبادته والإنابة إليه ما يفوق لذَّات الدنيا كلها.

6 - ما يترتب على التضحية والجهود المبذولة من ثمرات ومنافع وهداية لا تخطر ببال صاحبها ، ولا يعلم مداها إلا الله تعالى ، مصداق حديث النبي صلى الله عليه وسلم : ( من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه لا ينقص ذلك من أجورهم شيئاً ) [20] .

وختاماً :

فما دامت الدعوات لا تقوم إلا على التضحيات فقد أدرك كل واحد من الدعاة ما يجب عليه ، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين .

 

 

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين