لبيك رسول الله (2)

رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسنون:

في زمن التحضر والتمدن والحداثة – زعموا!! – ضاق الآباء بأبنائهم ذرعا فرموا بهم إلى دور العجزة والمسنين، ليعيشوا الوحدة القاتلة، والعزلة المهينة، ولتعتصر قلوبهم كمدا وغما، وحالهم كأنهم وجدوا في الدنيا هكذا بلا أصل ولا فرع.

أذلك جزاء الأم على أتعابها في الحمل والمخاض والإرضاع وسهر الليالي، وتقطع كبدها خوفا على أبنائها؟!

هل هو عوض الأب على ما تحمله من مشاق، وما لحقه من صنوف الأذى والعذاب من أجل تأمين لقمة العيش لفلذات الأكباد، حتى أنه يجوع ليشبعوا، ويتعب ليرتاحوا، ويخاطر بنفسه ليعيشوا في أمن وسلام؟!

وكــم مـن ليلــة باتــا لسقمـك فــي الــورى ** علــى الفرش منـهــا ساهــرا يتملــل

تخاف الردى نفسي عليك كأنني أنا المطروق ** بالذي طرقت به دوني وعيناي تَهمل

وإذا فُعل هذا بالمسنين من الآباء والأمهات في زمن العولمة الهجينة هذا، فلا تسأل عن حال سائر المسنين والعجزة، الذين لم يسلموا من التقتيل في الحروب، ومن الاعتقال في سجون الطواغيت، ومن التعرض للمجاعات والأوبئة الفتاكة التي تحصد أرواحهم حصدا، ولم يعد لهم توقير ولا تقدير من نشء فاقد للتربية على القيم والأخلاق، إلا من رحم الله.

وأمام هذه الصورة الواقعية التي لا تبعث أبدا على الارتياح، تعال معي لنحلق معا، ونقع معا على بعض أزهار الروضة الغناء من سنة الرسول الكريم في التعامل مع كبار السن، لنرتشف من رحيق هديه، ونتطيب من عطر ورده، ونرد على إساءة شانئيه، بأجمل الصور، وعظيم العبر، شذرات تغني وتقني، اقتصرنا على بعض ما صح منها دون الضعيف على سبيل التمثيل حفظا لمقتضى المقام، وإلا ففي بحره الزاخر من صدفاتها ولآلئها ما يضيق عن وصفه الكلام، ويعجز عن إمساكه الزمام والخطام.

لما فتح الرسول صلى الله عليه وسلم مكة، وأحضر أبو بكر الصديق أباه وكان شيخا هرما مشركا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم عساه يسلم، ماذا قال عليه الصلاة والسلام؟ قال: "هلا تركت الشيخ في بيته حتى أكون أنا آتيه فيه". (والحديث بطوله أخرجه أحمد وابن حبان والطبراني)، والعبارة أبلغ من كل تعليق ! !

ومن رحمة الرسول صلى الله عليه وسلم بالعجزة والمسنين دعوته إلى إكرامهم والعناية بهم، بل جعل إكرامهم من إجلال الرب وتعظيمه، فعن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:

"إن من إجلال الله إكرام ذي الشيبة المسلم، وحامل القرآن غير الغالي فيه والجافي عنه، وإكرام ذي السلطان المقسط".(رواه أبو داود، وهو حديث حسن)

فمن كان يجل الله تعالى ويعظمه فليكرم كبير السن، وقد قُدم في الحديث على حامل القرآن وصاحب السلطان العادل، ومن صور الرعاية والإكرام للمسنين: الرعاية الصحية والرعاية النفسية والرعاية التعليمية بمحو أمية الأميين منهم، وغيرها.

ولم يقصر الرسول صلى الله عليه وسلم تقديم المسن في الإكرام على وجه دون وجه، أو حال دون حال، بل جعله عاما في جميع الأوجه والأحوال، فقد نقل عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال:

"أمرني جبريل أن أقدم الأكابر" (سلسلة الأحاديث الصحيحة للألباني) وهي قاعدة عامة في تقديم الكبير والمسن في كافة وجوه التشريف والإكرام، حتى في تقديم الشراب وغيره، قال عليه الصلاة والسلام: "ابدؤوا بالكبراء – أو قال- بالأكابر" (سلسلة الأحاديث الصحيحة للألباني).

وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"ليس منا من لم يرحم صغيرنا ويوقر كبيرنا" (رواه الترمذي، والحديث صحيح)

ومن رحمة الرسول صلى الله عليه وسلم بالمسنين التخفيف عنهم في الأحكام الشرعية، فقد رخص لهم أن يصلوا جلوسا إذا شق عليهم القيام، أو مستلقين إذا شق عليهم الجلوس... وأن يفطروا في رمضان إذا شق عليهم الصيام، وقد عتب على معاذ بن جبل رضي الله عنه تطويله في الصلاة، وعلل ذلك من بين ما علله به بوجود كبار السن خلفه، قال عليه الصلاة والسلام: " يا مُعَاذُ، أفَتَّانٌ أنْتَ - ثَلَاثًا - اقْرَأْ: والشَّمْسِ وضُحَاهَا وسَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأعْلَى ونَحْوَهَا" (صحيح البخاري)، وفي رواية أخرى: يا مُعاذُ، لا تكُنْ فتَّانًا؛ فإنَّه يصَلِّي وراءك الكبيرُ والضَّعيفُ وذو الحاجةِ والمسافِرُ.(سنن أبي داود)

ومن رحمة الرسول صلى الله عليه وسلم بالمسنين كذلك أن أمر بعدم استهدافهم في الحروب.

وذلك غيض من فيض رحمته بالمسنين، لولا خشية التطويل لسقت من مظاهرها والشواهد الأخرى عليها مساقا طويل الذيل، وفير النيل، ولعله يأتي، إن كان في العمر بقية، في كتيب أجمع فيه بما تيسر من التقدير وتقدر من التيسير، حلقات هذه السلسلة، وأضيف إليها من جنسها، ما يزيد المؤمن محبة للرسول الكريم -صلى الله عليه وسلم- وشوقا للقياه في جنات النعيم، وما يقيم الحجة على أعدائه وأعداء الدين الخاسئين الخانسين:

يا ناطح الجبل لتوهنه *أشفق على الرأس لا تشفق على الجبل

جميع المواد المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين