لا يعرفُ الفضلَ لأهلِهِ إلا ذَوُوه

 
د. محمود نديم نحاس
 
من الكتب المشهورة في سير الأعلام كتاب (وفيات الأعيان وأنباء أبناء الزمان) لمؤلفه ابن خلكان. وفي ترجمته ليحيى بن زياد الفراء الكوفي، إمام الكوفيين في النحو، روى قصته مع ولدَي الخليفة العباسي المأمون، الذي أوكل إليه أن يلقن ابنَيه النحو. ففي يوم أراد الفراء أن ينهض إلى بعض شأنه، فابتدرا إلى نعله يقدمانها له، فتنازعا أيهما يفعل، ثم اصطلحا على أن يقدم كل واحد منهما فردة، فقدماها.
 
ولما وصل الخبر إلى المأمون استدعى الفراء وسأله: من أعز الناس؟ فأجاب: ما أعرف أحدًا أعز من أمير المؤمنين. قال المأمون: بلى، مَن إذا نهض، تقاتل على تقديم نعليه وليا عهد المسلمين، حتى رضي كل منهما أن يقدم له فردة!
 
قال: يا أمير المؤمنين، لقد أردتُ منعهما من ذلك، ولكن خشيت أن أدفعهما عن مَكْرُمَةٍ سبقا إليها، وأكسر نفوسهما عن شريفة حرصا عليها، وقد روي عن ابن عباس أنه أمسك للحسن والحسين رضي الله عنهما ركابيهما حتى خرجا من عنده!
 
فقال له بعض من حضر: أتمسك لهذين الحدثين ركابيهما وأنت أسنُّ منهما؟ فقال له: اسكتْ يا جاهل، لا يعرفُ الفضلَ لأهلِ الفضلِ إلا ذَوُو الفضلِ.
 
فقال المأمون: لو منعتَهما عن ذلك لأوجعتُك لومًا وعتبًا، وألزمتُك ذنبًا. وما وضع ما فعلاه من شرفهما، بل رفع من قدرهما، وبيّن عن جوهرهما. ولقد ثبتت لي مخيلة الفراسة بفعلهما، فليس يكبر الرجل – وإن كان كبيرًا – عن ثلاث: عن تواضعه لسلطانه، ووالده، ومعلمه العلم، وقد عوضتهما بما فعلاه عشرين ألف دينار، ولك عشرة آلاف درهم على حسن أدبك لهما.
 
عند قراءتي لهذه القصة لم أدرِ هل أنسب هذه المنقبة، للمأمون، أم لولديه، أم للفراء؟ لاسيما وأننا نرى اليوم بعض الناس يكابرون ولا يعترفون بفضل أحد عليهم، وما دروا أنهم – حسب قول الفراء – يُخرجون أنفسهم من أن يكونوا من ذَوي الفضل.
 
والفضلُ ليس محصوراً في علم أو فن بعينه. وكل إنسان مهما انخفض في أعين بعض الناس له فضل. وأذكر أني قرأت خبراً قبل أربعين سنة في صحيفة لبنانية عنوانه: (أضرب الطيارون فلم يشعر بإضرابهم إلا قليل، وأضرب عمال النظافة فضجَّتْ بيروت!). فهل نشعر بفضل هؤلاء؟
 
وسبق أن كتبتُ مقالاً عن رجل لا يقدر عمل زوجته في المنزل، إذ كلما شكت إليه تعبها قال لها: (وماذا عملتِ؟). فبقيت يوماً في فراشها إلى أن جاء ورأى البيت رأساً على عقب، فعلم فضلها.
 
والتقيت يوماً بأستاذ جامعي عنده مركز للتدريب، وسمعت منه قولاً في مدح سكرتيره، واعترفَ: لو ترك العمل معي لاضطررت لإغلاق المركز، فهو يقوم بكل شيء نيابة عني، حتى أني أوكلته بأخذ الأولاد إلى المدارس. وكدتُ أن أشكره وأذكر له قول الفراء، لكنه عاجلني ففجعني بقوله: لكني أشعره دوماً بأنه مقصر حتى لا يطمع بي! فيا للعجب! يعترف بفضله للناس فقط، لكن ذلك المسكين لم يسمع منه شيئا من هذا. وسمعت فيما بعد أنه أغلق المركز! فلعل السكرتير لم يعد يحتمل الإجحاف فعاد إلى بلده.
 
إن الأمر متعلق بالتربية، فمن تربى على شكر المعروف يعترف بفضل الآخرين عليه، والعكس بالعكس. ولذا ترى بعض الناس عندما يصل إلى منصب لا يتوانى عن مدح من كان لهم فضل عليه، في حين يحاول آخر أن يمسحهم من ذاكرته، ولو استطاع أن يعدمهم أو ينفيهم من البلاد لفعل.
 
زارني صديق عربي يعمل في فرنسا، وذهبت معه إلى مكتب الخطوط الجوية لتأكيد حجزه، وبينما نحن ننتظر قلت له: انظر إلى ذلك الشيخ الكبير، هل تعرفه؟ فنظر ثم قال: إنه أستاذنا فلان. فهُرعنا إليه نقبِّل رأسه ونعرِّفه بأنفسنا. ولو لم نفعل لما انزعج، فهو لم يتذكرنا أصلاً بعد تلك السنين الطويلة، فقد كان مدرِّساً لنا في السنة الأولى من المرحلة الثانوية.
 
إن عدم الاعتراف بفضل الناس علينا هو الكِبْر بعينه كما ورد في الحديث الشريف (الكِبْر بَطَرُ الحقِّ، وغَمْطُ الناسِ). فالمتكبر يرد الحق، ويعرض عنه، ولا يقبله، لأنه معتدٌّ برأيه، ثم إنه يحتقر الناس ويزدريهم، لأنه يرى نفسه فوقهم. وقد سُئل حكيم: ما التواضع؟ قال: ألا تقابل أحداً إلا رأيت له الفضل عليك، بكلمة قالها لك، أو معروف أسداه إليك، أو ابتسامة قابلك بها.
المصدر : مجلة الاقتصادية الالكترونية

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين