لا طائفية ولا عنصرية في الإسلام

الشيخ: سيد سابق

إنَّ من طبيعة الحضارة المادية التنكر للحق، والاستهانة بالمثل، ومجافاة العدل، ومقارفة الظلم والجَوْر.
ومن أبرز الأمثلة على تأصُّل هذه الطبيعة وعمق جذورها، ما يحدث في الجزائر من حرب الإبادة، وما يحدث في جنوب إفريقية من التمييز العنصري، وما رأيناه وسمعنا به في كل بلد ابتلي بالاستعمار الأسود، وحلَّ به غشمه وظلمه.
إن هذه الطبيعة هي التي أوحت إلى الرجل الأبيض بأنَّه أرقى جنساً وأسمى عنصراً، وأنه ما خلق إلا ليقود ويسود. وأنَّ غيره من الناس ما خلقوا إلا ليكونوا مُسخَّرين له ومذللين لخدماته ومنافعه.
وهذه هي الفكرة الجاهلية التي سادت الأمم البدائية في القديم، والتي لا تزال مسيطرة على كثير من الأمم والشعوب في الحديث، بالرغم مما أحرزته من الرقي المادي والتقدم الصناعي، وما وصلت إليه من علم وكشف لم يسبق لهما نظير، ولقد كان الإسلام بعيدَ النظر حينما أدرك مدى عمق هذه العقيدة في النفس الإنسانية، ومدى خطورتها على البشرية، فحاول ـ من أول يوم ـ أن يقضي على هذا الروح المادي الطاغي، ويستبدل به الروح الإسلامي السمح الرحيم.
 فنادى من أول يوم، أنَّ الناس جميعاً سواء في أصل النشأة، وأنه لا امتياز لأحد على أحد من حيث الطبيعة الإنسانية:[وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ قَدْ فَصَّلْنَا الآَيَاتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ] {الأنعام:98}.
وإذا كان هناك فرق في اللون، فهذا الفارق آية من آيات الله وأثر من آيات الله وأثر من آثار البيئة، وهذا لا يغير من الحقيقة شيئاً:[وَمِنْ آَيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ] {الرُّوم:22}.
والله جعل الناس شعوباً وقبائل ليتعارفوا ويأتلفوا، لا ليتناكروا ويختلفوا:[يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ] {الحجرات:13}.
وبركات الله مبثوثة في الكون والطبيعة، ولكلٍّ الحق في الانتفاع بها، فالله لم يحلها لقوم ويحرِّمها على آخرين، وإنما سخَّرها للأسرة البشرية جميعاً وجعلهم سواء في حق التمتع بها: [وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ] {الجاثية:13}.
وقال:[يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ] {البقرة:168}.
وإذا كان ما في السموات وما في الأرض مسخَّراً للإنسان ومعداً لمنافعه، ومن حقه أن يأخذ منه ما يرقي وجوده المادي، فإنَّ الله سبحانه وضع بين يديه منهج الرقي الروحي ليدرج في مدارج الكمال ويصعد في معارج القدس إذا أراد.
ولم يجعل لصعوده ولا لرقيه حداً ينتهي إليه، فما من كمال إلا وعند الله أكمل منه، وأبواب الرحمة مفتوحة للجميع، والهبات الروحية ليست وقفاً على جيل من الناس دون جيل.
ولا على طائفة دون أخرى، بل هي مثل النعم الماديَّة في الشيوع والذيوع.
وإنَّ طالبها من أي جنس أو لون يحظى بها، ويأخذ نصيبه منها دون أن يجد ما ركول بينه وبينها، ومن ثَمَّ يقول الله تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم: [قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا] {الأعراف:158}. ويقول:[وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ] {الأنبياء:107}.
والأفراد والجماعات والدول سواء في الافتقار إلى الله والحاجة إليه، وأنه سبحانه لا يستغني عنه أحد بوجه من الوجوه، فهو ربهم الذي يتولى إعدادهم بالتربية في كل طور من أطوار الحياة. وفي كل فترة من فترات الزمن [يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الفُقَرَاءُ إِلَى اللهِ وَاللهُ هُوَ الغَنِيُّ الحَمِيدُ] {فاطر:15}.
وسنن الله التي تجري على الناس وقوانينه المطردة في الحياة لا تغيير فيها ولا تبديل. وإنما تطبق أتم تطبيق دون تمييز أو محاباة[لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلَا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا(123) وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا(124) وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ للهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَاتَّخَذَ اللهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا(125) ]. {النساء}..
وكرامات الناس جميعاً مصونة وحقوقهم محفوظة.
وهم في المعاملات وأمام القانون سواء، وهذا التكريم للإنسان من حيث هو إنسان بقطع النظر عن إيمانه وكفره:[وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آَدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي البَرِّ وَالبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا] {الإسراء:70}.
والإسلام لم يضع هذه المبادئ لتبقى سطوراً في الكتب أو كلمات يرددها العلماء ويحلم بها هداة الإنسانية، وإنما وضعها لتكون هي الواقع العملي للناس، ولتتجلى في الحياة وفي السلوك.
والتطبيق العملي إنما يقوم به مُبَلِّغ هذه المبادئ، ويقوم به معه أصحابه لتكون نموذجاً حياً وواقعاً يملأ الأبصار والأسماع.
ومن ثَمَّ تبدو لنا بعض حكم العبادات الاجتماعية التي أمر الإسلام أن تؤدَّى جماعة، ليندمج المؤمنون جميعاً ويختلط بعضهم ببعض. ويظهروا بمظهر التآخي والمساواة ونبذ الفروق.
ولقد كان الإسلام صارماً غاية الصرامة، ومندداً بالذين يشعرون أن لهم من الشرف أكثر ما لغيرهم، وأنه لا حقَّ لمن دونهم في المنزلة الاجتماعية أن يجالسوهم ويختلطوا بهم، فقال لنبيه صلى الله عليه وسلم: [وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالغَدَاةِ وَالعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا وَقُلِ الحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ] {الكهف:29}. وكان هؤلاء قد طلبوا من الرسول صلى الله عليه وسلم أن يجعل لهم مجلساً خاصاً ويبعد عنه الفقراء والضعفاء والأرقاء.
والتعالي بالأنساب كان يشغل حيزاً كبيراً من قلب العربي وتفكيره، فأراد الإسلام أن يمحو من نفسه هذه النزعة وأن يوجِّهه إلى ما هو أبرُّ وأنقى من الإيمان والعمل فقال:[فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلَا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءَلُونَ] {المؤمنون:101}.
وقال: [لَنْ تَنْفَعَكُمْ أَرْحَامُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ يَوْمَ القِيَامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ] {الممتحنة:3}.
والإنسان مرهون بما يقدمه لنفسه ولغيره:[ كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ] {الطُّور:21}.[كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ] {المدَّثر:38}.
والآباء قد أفضَوا إلى ما قدَّموا وهم يعاملون بمقتضى قانون العمل والجزاء:[فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ] {الزَّلزلة:8}.
روى أبو داود والترمذي بسند صحيح عن أبي هريرة أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله قد أذهب عنكم عُبيَّة ـ الكِبر والتعاظم ـ الجاهلية وفخرها بالآباء، مؤمن تقي، وفاجر شقي، أنتم بنو آدم وآدم من تراب، ليدعنَّ رجالٌ فخرَهم بأقوام إنما هم فحم من فحم جهنم أو ليكوننَّ أهونَ على الله من الجعلان التي تدفع بأنفها النتن).
وكان للعصبية في المجتمع الجاهلي شأن وأي شأن، فقد كان الرجل يشايع قبيلته ويناصر عشيرته على الحق والباطل، فحرَّم الإسلام المشايعة على الباطل وجعلها منافية له.
روى أبو داود عن جُبَير بن مطعم: أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (ليس منا من دعا إلى عصبية، وليس منا من قاتل على عصبية، وليس منا من مات على عصبية). أما مناصرة العشيرة ومشايعتها من أجل إحقاق الحق وإبطال الباطل فهي من جلائل الأعمال التي تشرئب إليها الأعناق.
فعن سراقة بن مالك رضي الله عنه قال: (خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: خيركم المدافع عن عشيرته ما لم يأثم).
وعن عبد الرحمن بن عقبة، أنه حضر مع رسول الله غزوة أحد وضرب رجلاً من المشركين، وقال: خذها وأنا الغلام الفارسي، فالتفت إليه الرسول صلى الله عليه وسلم وقال: فهلا قلت: خذها وأنا الغلام الأنصاري) أي: أنه يريد أن يمنعه من الاعتزاز بقومه وجنسيته ويرشده إلى الاعتزاز بالوحدة الدينية الجامعة.
وعلى هذا النحو مضى الإسلام يرسم منهج المساواة، ويضع أسس التآخي وينظم المجتمع في وحدة شاملة. لا تعرف تفرقة بين جنس وجنس، ولا بين لون ولون، ولا بين طبقة وأخرى.
وبرسم هذا المنهج وبتطبيقه تطبيقاً عملياً بعيداً عن الزيف في عهد النبوة المبارك وجد المجتمع الإسلام المتعاطف المتراحم تظلله الوحدة ويسوده الإخاء.
ويندفع الأفراد فيه إلى العمل الصالح ويحرصون على تقوى الله ونفع الناس، وأصبحت هذه الأعمال هي المقياس الذي يقاس به شرف الرجال، وأصبحت نظرة الأفراد والجماعة إلى الأشخاص من خلال قوله تعالى:[ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ] {الحجرات:13}.
وأي إنسان لا يقوم بالواجب ولا يتقي الله فلا كرامة له ولا خير فيه، ولا يقام له وزن لا عند الله ولا عند الناس.
إنَّ كثيراً من الناس ما زالوا فقراء إلى هذه التعاليم الإنسانية المباركة، وإنَّ على المسلمين الذين فقهوها أن يدعوا إليها ويبشروا بها، ويحملوا الناس عليها حتى تنمحي الفوارق ويزول التمايز الطبقي، ويدخل الجميع في وحدة إنسانية شاملة تعمل على إنهاض الإنسان و ترقيته وإعلاء شأنه ليبلغ كماله المقدر له كخليفة عن الله في الأرض.
وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم.
المصدر :  مجلة منبر الإسلام السنة الثامنة عشرة، محرم 1380 العدد الأول.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين