لا تخافوا من خُسوف القمر

استمتعوا بهذه الظاهرة الطبيعية الجميلة، فإنّما كان القدماء يخافون لجهلهم بسببها!

هذا ما يقوله بعض الجهلة اليوم ظنّا منهم أنّ تفكيرهم هذا "علمي" و"تقدّمي"، ويزيد بعضهم سخرية أو إنكارا للحديث الصحيح الذي رواه البخاري في صحيحه عن نفيع بن الحارث رضي الله عنه ورواه غيره بنحوه عن صحابة آخرين، وهو قوله صلّى الله عليه وسلم: "إنَّ الشمسَ والقمرَ آيتان من آيات الله، لا يخسفان لموت أحد، ولكنّ الله تعالى يُخَوِّفُ بها عبادَهُ" (صحيح البخاري).

فيقول الجاهل: ما هذا الإله الذي يخوّف عباده؟ وما حاجة الله بتخويف العباد؟ وهل خلقنا لتخويفنا؟!

والإجابة أن الخوف غريزةٌ في الإنسان، بل في كلّ حيوان، وهو من النعم التي أنعم الله بها على البشر إذ خلق فيهم ما يساعدهم على حفظ أنفسهم من الأذى والهلاك، فأنت إذا رأيت أسدا خفتَ وعدوت واختبأت في مكان آمن، ولولا خوفك هذا لصرتَ أشلاء بين أنياب الأسد!

فأما الخوف من الله، فهو من أعظم المنن الإلهية، وقد وصف الله عباده المؤمنين في كتابه فقال عنهم {يدعون ربّهم خوفًا وطمعًا}، خوفا من النار وطمعًا في الجنّة. وقال عنهم {يخافون يومًا تتقلّب فيه القلوب والأبصار}. فكما أنّه سبحانه كلّفهم بالذكر ليتذكّروا، وكلّفهم بالصلاة ليقوموا بين يديه معتذرين أوابين مخلصين وليغسلوا أدران ذنوبهم، وكلّفهم بتلاوة القرآن لتنهل قلوبهم من مواعظه ولطائفه وحكمه فتصير إلى الحقّ أقرب وعن الضلالة أبعد؛ فكذلك زرع في أنفسهم غريزة الخوف، وخوّفهم بآياته وبعذابه في الآخرة ليُصلحوا أمر قلوبهم وجوارحهم في الدنيا، فنبّههم إلى مآل الإعراض عن ذكره وعصيان أمره والاستكبار عن عبادته، ووصلَ لهم القول في ذلك رأفةً بعباده ورحمةً بهم وإتماما للنذير كما قال سبحانه: {ولقد وصّلْنا لهم القولَ لعلهم يتذكرون}.

فإنْ قيل: الخسوف ظاهرة طبيعية سببها حجبُ ظلّ الأرض لضوء الشمس. فالجواب عن ذلك: أنه لا تعارض بين الحديث والتفسير العلمي؛ فالتفسير العلمي يخبرنا بالأسباب الفلكية المادية لحدوث الظاهرة، أما الحديث فهو يخبرنا بما أراده الله من خلق هذه الظاهرة على هذا النحو، تذكيرا لهم بالقيامة وبما خُلقوا له. علمًا أن علماء المسلمين عرفوا التفسير العلمي لخسوف القمر منذ قرون طويلة جدّا.

وكذلك الجمالُ الذي نراه في الأزهار المتنوعة والطيور البديعة يلامس الأرواح المرهفة ويدلّنا على الخالق الحكيم الجميل، ولو أردتَ تحليله في المختبر لوجدت المواد الكيميائية التي تشكّل الألوان، وربّما الجينات المسؤولة عنها، فهل ينفي هذا الاكتشاف العلمي الغاية من خلق هذا الجمال؟

أرأيت لو تزيّنت فتاة لعروسها، أرأيت أحمر الشفاه الذي تضعه، وذلك الكحل الذي يزيّن عيونها، والحرير الذي يلفّ جسدها، أليست مواد كيميائية يمكن تحليلها في المختبر؟ فلو قال أحدهم: هذه الفتاة لم تفعل ذلك تزيّنًا لزوجها؛ فقد اكتشفتُ في المختبر تركيب هذه المواد وسبب حصول الحُمرة من أحمر الشفاه، وسبب الملمس الناعم للحرير، وسبب لون الكحل.. لو قال ذلك متعالمٌ، هل يكون له مكانٌ سوى مشفى الأمراض العقلية؟!

وبالعودة إلى الخسوف، فهو يذكّر الإنسان العاقل بما يحدث يوم القيامة كما قال تعالى في سورة القيامة: {بل يريد الإنسان ليفجُر أمامه * يسألُ أيّان يوم القيامة * فإذا برق البصر * وخسف القمر * وجمع الشمس والقمر * يقول الإنسان يومئذ أين المفر * كلا لا وزر * إلى ربك يومئذ المستقر}. ولهذا قال النبيّ صلى الله عليه وسلّم في رواية أخرى "فإذا رأيتُم ذلك فادعُوا اللهَ وكبّروا وصلّوا وتصدَّقوا". فهذا فعلُ العقلاء، الذين تُذكّرهم أحداث الدنيا بما خُلقوا لأجله، وبمصيرهم الخالد في الآخرة.

وقد أبطل الحديث المعتقدات الجاهلية بالظواهر الطبيعية فقال عن كسوف الشمس وخسوف القمر: "لا يخسفان لموت أحد". فأبطل الخرافة، ووجّه للنافع من الذكر والعمل. والحمد لله على مننه الوافرة وأفضاله الغامرة.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين