لأنسين الروم وساوس الشيطان بخالد

لقد انتفشت الروم بعد هزيمتها لخالد بن سعيد، وقالوا:"والله لنشغلن أبا بكر في نفسه عن أن تورد بلادنا بخيوله". وهم لا يدرون من الصدِّيق،  وعوضاً عن أن ينثني أبو بكر رضي الله عنه عن المغامرة في الشام صمَّم أن يفتحها ويغزو الروم في عقر دارهم.

فكتب أبو بكر إلى عمرو بن العاص رضي الله عنه ـ وكان على بلاد قضاعه ـ بالسير إلى اليرموك، ففعل وبعث أبا عبيدة بن الجراح، ويزيد بن أبي سفيان، وأمر كل واحد منهما بالغارة، وألا توغلوا حتى لا يكون وراءكم أحد من عدوِّكم، وقدم عليه شرحبيل بن حسنة، بفتح من فتوح خالد، فسرحه نحو الشام بجند، وسمَّّى لكلِّ رجل من أمراء الأجناد كورة من كور الشام، فتوافوا باليرموك، فلمَّا رأت الروم تَوَافيهم، ندموا على الذي ظهر منهم، ونسوا الذي كانوا يتوعَّدون به أبا بكر، واهتموا وهمَّتهم أنفسهم وأشجوهم، وشجوا بهم، ثم نزلوا الواقوصة، وقال أبو بكر:

"والله لأنسين الروم وساوس الشيطان بخالد بن الوليد"، فكتب إليه بهذا الكتاب... وأمره أن يستخلف المثنى بن حارثة على العراق في نصف الناس، فإذا فتح الله على المسلمين الشام، فارجع إلى عملك بالعراق، وبعث خالدٌ بالأخماس، إلا ما نفل منها مع عمير بن سعد الأنصاري، بمسيره إلى الشام، ودعا خالد الأدلة، فارتحل من الحيرة سائراً إلى دومة)

ولا غرو فهذا الطريق سهل على ابن الوليد، ألم يسلكه لإنقاذ عياض بن غنم رضي الله عنه من الحصار وفتح دومة مع الأسد من جيشه،، إنما الجديد على الساحة ، هو المسير إلى الشام.

مع خالد في أجرأ مسارات التاريخ:

( ثم طعن في البر إلى قُراقر ـ واد لبني كلب بالسَّماوة من ناحية العراق، نزله خالد بن الوليد عند قصده الشام ـ ثم قال: كيف لي بطريق أخرج فيه من وراء جموع الروم، فإني إن استقبلتها حبستني عن غياث المسلمين؟ فكلهم قال: لا نعرف إلا طريقاً، لا يحمل الجيوش، يأخذه الفذ الراكب، فإياك أن تغرر بالمسلمين، فعزم عليهم، ولم يُجبه إلى ذلك إلا رافع بن عميرة على تهيب شديد.

فقام فيهم فقال:" لا يختلفن هديكم، ولا يضعفن يقينكم، واعلموا أنَّ المعونة تأتي على قدر النية، والأجر على قدر الحسبة، وإن المسلم لا ينبغي له أن يكترث بشيء يقع فيه مع معونة الله له".

فقالوا له: أنت رجل قد جمع الله لك الخير، فشأنك، فطابقوه ونووا واحتسبوا، واشتهوا مثل الذي اشتهى خالد، فأمرهم خالد:

1ـ فتزودوا للشفة لخمس.

2ـ وأمر كل صاحب خيل بقدر ما يسقيها.

تنفيذ الخطة:

1ـ فظمَّأ كل قائد من الإبل الشُرُفُ ـ أي: الإبل المسنَّة ـ  الجلال ـ أي: الكبار ـ ما يكتفي به.

2ـ ثم سقوها العلل ـ أي: إعادة السقاية ـ بعد النهل ـ أي: الورود للشرب المرة الأولى ـ.

3ـ ثم صرُّوا آذان الإبل وكعموها ـ أي: شدوا فمها عند الهياج ـ .

4ـ وخلوا أدبارها.

5ـ ثم ركبوا من قراقر مفوزين ـ أي: قاطعين المفازة أي: الصحراءـ إلى سُوى، وهي على جانبها الآخر مما يلي الشام.

6ـ فلما ساروا يوماً افتظوا ـ أي: عصروا ـ لكل عدة من الخيل عشراً من الإبل.

7ـ فمزجوا ما في كروشها بما كان من الألبان.

8ـ ثم سقوا الخيل.

9ـ وشربوا للشفة جُرَعًا ـ أي: حسوة منه ـ.

10ـ ففعلوا ذلك أربعة أيام ـ (تاريخ الطبري2/342).

كان من الممكن أن نتحدث اليوم عن القائد الذي غرَّته نفُسه، فغامر بجيشه، وأهلكه في الصحراء، رغم نصح أهل الخبرة له أن لا يفعل ذلك، وأن تنتهي حياة خالد وتاريخه بهذه النهاية المأساوية كما كانت نهاية خالد بن سعيد رضي الله عنه حين هزم جيشه وفرَّ إلى ذي المروة.

لقد تحطم نابليون بونابرت في آخر مغامراته وأهلك جيشه، وتحطم هتلر وانتحر حين هلك جيشه، على أبواب جليد موسكو.

لكن نجاح خطة خالد رفعته لمصاف أعظم قادة التاريخ العسكريين في الأرض، ولم يبلغ شأوه أحد.

ترى ونحن نتحدث عن المنهج التربوي لجيل الخلافة الراشدة، ألا يمكن أن يقع استعصاء في الجيش، ويرفض أن يتحرك وهو يرى مصيره الهلاك البين؟ فتصبح نهاية خالد أضحوكة في التاريخ؟؟!.

ألا يمكن أن ينقضَّ أحد فيقتله، ويأخذ مكانه ويعود بالجيش عن هذه المفازة المهلكة؟!

ألا يمكن أن يوجد طابور خامس يثني قسماً كبيراً من الجيش عن متابعة المسيرة، فينهار القسم الآخر؟؟!

ألا يمكن أن يوجد متفلسفون ومتفيهقون، يقولون له: إنَّما الطاعة بالمعروف، ولا طاعة لك بهلاكنا؟؟!

ألا يمكن أن يقع التطبيق الأسوأ، فيشربون ويرتوون، وينقطع الماء منذ اليومين الأولين؟؟!

كل هذا يمكن أن يقع، واحتمال وقوعه أكبر بكثير من الواقع، لكن الجيل المسلم الرائد هو أكبر من الواقع، بل هو يبني الواقع ويصوغه كما يريد لعظمة التربية التي تلقاها من معين النبوة ورجالات الفيض النوراني النبوي.

لقد كانت أوامر القائد الفذ خالد إلى جنده أنَّ عليهم خلال خمسة أيام أن يكون جرعة واحدة تَبُلُّ الشَّفَة، وهو مسئول عن سقاية خيله خلال هذه الأيام الخمس، حيث لا ماء خلالها أبداً على الطريق.

ومن خلال خبرتهم بالصحراء، وخبرة رافع بن عميرة الطائي نفذوا الخطة بدقة، فكان لهم الجرعة الواحدة.

 أما سقاية خيلهم، فقد اعتمدت على تعطيش الإبل المسنة، ثم سوقها للشرب بعد العطش الشديد، وإعادة شربها مرة وثانية وثالثة، ثم قطع مشا فرها حتى لا تجتر وتستهلك الماء، حتى أنهم صروا آذان الإبل على الماء، وفي كل يوم تذبح هذه الإبل المسنة، ولكل عدة من الخيل عشر من الإبل يخلط فيها لبن الإبل بالماء، وتشرب الخيل منها، وذلك خلال أربعة أيام على أمل الوصول للماء بعدها.

وعودة إلى قصة طالوت رضي الله عنه الذي أعلن لهم:

{ فلما فصل طالوت بالجنود قال: إن الله مبتليكم بنهر فمن شرب منه فليس مني ومن لم يطعمه فإنه مني إلا من اغترف غرفة بيده، فشربوا منه إلا قليلاً منهم..}[ البقرة:249].

لقد سقط قوم طالوت بالامتحان إلا القليل الذين نفذوا الأوامر، واغترف غرفة بيده، أما هذا الجيل المؤمن الرائد، فلم نسمع عن مخالفة واحدة في هذا الجيش العظيم.

لقد نفذوا الأوامر حرفياً، وشربوا الجرعة  الواحدة، في هذه الصحراء اللاهبة، التي تبل الفم فقط، وليس لمرة واحدة ولكن لخمسة أيام.

لقد تربى هذا الجيل العظيم على يد صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين لم يبلغوا المئات في هذا الجيش المكون من سبعة آلاف.

طالوتنا اليوم حين فُوجئ بإجماع الأدلة الخبراء بالصحراء أنَّ هذا الطريق الذي يريد أن يخترق الصحراء فيه، لا يصلح إلا للفرد الواحد، الفذ الراكب، لكنه لا يحتمل جيشاً قوامه بضعة آلاف غير أنَّ القائد العظيم، يريد أن ينقذ أمة من الهزيمة، ولن يتوان لحظة واحدة عن إغاثة جيش الشام، المحاصر من هرقل بمئات الألوف، والزمن له وقته، فما معنى وصوله وقد وقعت الواقعة، ونزلت الهزيمة. إن الزمن جزء رئيسي من نجاح الخطة، فكيف يواجه أشد معضلة واجهته في حياته، ليس وحده سوف يتحرك فهو مطمئن إلى نفسه فلقد قطع الصحراء، ومضى إلى الحج وعاد وحده، ولم يصل الجيش بعد إلى الحيرة، إنما هنا ستتحرك أمة، وسيتحرك جيش فما قدرة هذا الجيش على الصبر؟ وهل يتساقط في الصحراء، وتبتلعه كما ابتلعت المئات والألوف من غيره، فكانت تلك الخطبة الفذَّة الجامعة الخالدة، التي حدَّد فيها للجيش مهمته، وربطه برب العزة جل جلاله.

فقام فيهم فقال: "لا يختلفن هديكم، ولا يضعفن يقينكم، واعلموا أنَّ المعونة تأتي على قدر النية".

إنها المدرسة الربانية النبوية.

لقد كانت الصياغة البكرية لخالد في الرسالة التي بعثها له:" فليهنك أبا سليمان النية والخطوة، فأتمم يتمم الله لك، ولا يدخلنك عجب فتخسر وتذل" وتنتقل هذه الروح من خالد إلى جيشه، فمعونة الله على قدر النية، والأجر على قدر الحسبة، ولا يحق للمسلم أن يكترث بشيء مع معونة الله.

لا يدرك هذه المعاني إلا أولياء الله المقربون المتصلون بالله بكل نأمة وبكل لحظة.

وأدرك الجيش أنه مع قائد حباه الله من الإيمان والعبقرية ما لم يصل له أحد من القادة فقالوا: أنت امرؤ قد جمع الله لك الخير، فشأنك. فطابقوه ونووا واحتسبوا.

وكم الفرق بين هذه وتلك:{ فشربوا منه إلا قليلاً منهم}.

وكل ما يملكونه هو التنفيذ والطاعة، على شرط جرعة الماء في الصحراء، وعلى شرط تأمين سقاية الخيل، سلاح المدرعات اليوم، الذي يجب أن يكون مصاناً من كل عطب.

إن عقولهم لن تحتمل مسؤولية اتخاذ قرار خطير كهذا القرار لكنهم: اشتهوا مثل الذي اشتهى خالد، وما كان عندهم ظنا فهو عند القائد العظيم يقين.

"لا يختلفن هديكم،ولا يضعفن يقينكم. والمعونة على قدر النية، والأجر على قدر الحسبة".

وهذا هو الفرق بين القائد البصير المُسْتَشْرف للساحة كلها، وبين الجندي في جاهز يته الكاملة، لطاعة قائده، وهذا هو سر حرص خالد رضي الله عنه على الاستكثار من الصحابة، فهؤلاء هم القدوات الحية، أمام الجند، ويستحون وهم الشباب أن يروا شيوخهم من الصحابة ينفذون الأوامر بدقة وهم لا ينفذونها.

ولا يفوتنا تلك الخبرة العظيمة لدى أدلاء الركب، فهذا محرز بن حريش المحاربي يقول لخالد: اجعل كوكب الصبح على حاجبك الأيمن، ثم أُمَّهُ تُفضي إلى سُوى: فكان أدلهم.

المفاجأة القاتلة:

(فلما خشي خالد على أصحابه في آخر يوم من المفازة، قال لرافع بن عميرة وهو أرمد: وَيْحك يا رافع ما عندك؟ قال: أدركت الري إن شاء الله، فلما دنا من العَلَمين قال للناس: انظروا هل ترون شجيرة من عَوْسج كقدة الرجل؟ قالوا: ما نراها. قال: إنا لله وإنا إليه راجعون، هلكتم إذن والله وهلكت..).

أظن خيول المسلمين وخالدا               ستطرقكم قبل الصباح من الفجر

فهل لكم في السير قبل قتالهم               وقبل خروج المعصرات من الخدر

فيزعمون أنَّ مغنيهم ذلك قتل تحت الغارة، فسال دمه في تلك الجفنة، ثم سار خالد على وجهه ذلك حتى أغار على غسان بمرج راهط، ثم سار حتى نزل على قناة بصرى وعليها أبو عبيدة بن الجراح وشرحبيل بن حسنة، ويزيد بن أبي سفيان، فاجتمعوا عليها"، وحقق بذلك هدفه العظيم بإغاثتة المسلمين بالشام، تنفيذاً لأوامر الخليفة الصديق.

ولئن سمعنا من رواة الطبري عن هذه الرحلة، فسماعها من باشميل بلغتها السهلة وخبرته المعاصرة تجلي هذه الرحلة أكثر وأكثر.

يقول الأستاذ أحمد باشميل رحمه الله:

"خلال الأيام الخمسة الصعبة التي قضاها خالد في عبور صحراء السماوة المفزعة لم يلق من الأعداء سواءً كانواً روماً أو فرساً  الذين تقع الصحراء على حدودها المشتركة، وهذا أمر طبعي لأنه لا توجد لأي من الإمبراطوريتين أية قواعد حربية أو حتى أي وجود مدني فيها، لأن تلك الصحراء لا يجرؤ أحد من الفرس ولا من الرومان، ولا من بادية العرب... على المرور فيها فضلاً عن التمركز فيها.

وهكذا كان خالد بن الوليد أول قائد عسكري في التاريخ يغامر بالعبور في صحراء السماوة، الخالية تماماً من الماء والغذاء والكلأ، والمشتعلة طول النهار بلهيب الشمس المُحرقة.

لقد كان الطريق الطبيعي التي تسلكه الجيوش سواءً كانت فارسية تريد غزو الشام أو رومانية تريد غزو الفرس هو الطريق الذي يمرُّ بسالكه ما بين النهرين انحداراً من الشمال إلى الجنوب أو العكس.

وطريق ما بين النهرين (دجلة والفرات) مسلوك دائماً في حالة الحرب والسلم سواء للقوافل التجارية أو الجيوش الحربية لأن كل ما حوليه مأهول وعامر. وبه كل متطلبات الحياة للإنسان والحيوان لأنها منقطة خصبة معطاء.

ولكن خالداً عزف عن سلوك هذا الطريق المُعَبَّد المسلوك السهل، وفضل عليه سلوك السماوة.. وفضَّل تجنُّب المرور بمسالح الأعداء، لأن مهمته التي تحرك من أجلها هي أن يعجِّل بالاتصال بالفيالق الإسلامية المتحرج وضعها في اليرموك من الجولان لدعمها وتولي قيادتها كي يصادم بها جيوش الروم الجرارة التي وضعت خطة مخيفة لإبادة تلك الفيالق قبل أن يصلها أي مدد إسلامي جديد" (حروب الإسلام في الشام/103ـ104).

*          *          *

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين