كيف يسقط المستقيمون في اختبار السياسة


 

إنها قصة تستحق التوقف عندها لأخذ العظة والاعتبار ، إنها قصة تختلط فيها الشبهة بالشهوة ، وحب الدنيا بشبهة الحرص على الدين !

إنها قصة قديمة ، قديمة جدا ، بل هي قصص قديمة ، ترجع إحداها إلى القرن الهجري الأول !!

إنها قصة عدي بن أرطاة الفزاري الدمشقي : وهو أحد من كان معروفا بطلب العلم في عصر التابعين ، وكان طلاب العلم المتدينون يلقبون يومها بـ(القُـرّاء) ، وكان عدي بن أرطاة واحدا من مشاهيرهم ؛ إذ كان يظهر عليه التعبّد والزهد والصلاح ، مع طلبه العلم .

فلما أن ولي عمر بن عبد العزيز الخلافة ، وكان يعرف عديا في دمشق بالعبادة وطلب العلم ، عاجل عمر بتوليته البصرة أميرًا عليها سنة 99هـ .

وبقي أميرًا عليها ، حتى قُتل سنة 102هـ في فتنة وقعت ، بعد وفاة عمر بن عبد العزيز .

وعدي بن أرطاة هذا نموذج من نماذج العلماء (أو المتزيين بلباس العلم) الذين تفضح المناصب ضحالتهم العلمية وعظيم تأولهم لأنفسهم في سبيل المنصب !

وكما عرفنا اليوم طلبةَ علمٍ ومن يسمون بالعلماء وهم : حكوميون أكثر من الحكومة ، وملكيون أكثر من الملك ، عندهم غلو في حق الحاكم أكثر من الحاكم نفسه ، وتطرف في التعصب للسلطان أشد من تعصب السلطان لنفسه = فعدي بن أرطاة كان فيه شيءٌ من ذلك !

وهو لم يُؤت من جهة قلة دين ، فقد كان صاحبَ ديانة([1])، ولكنه أُتي من جهة مغالاة في الحرص على تثبيت الحكم تخرج عن حد العدل ، ومن جهة تأويلٍ للنفس في ذلك يمنع المنصف من تفسيقه ، لكنه لا يمنعه من معرفته بقلة الفقه ، وبضعف النفس أمام المنصب ، فالمنصب كان هو داعيه إلى تأويله غير السائغ لنفسه !

وهذا الصنف من طلبة العلم أو العلماء هم مطية الولاة الظلمة في كل عصر وأوان ، وهم أكثر من يسقط في اختبار فتنة المناصب والمال .

لكن من رحمة الله تعالى بعدي بن أرطاة أن ولي إمرة البصرة في زمن حاكم عادل هو عمر بن عبد العزيز (رحمه الله) !

فدعونا نقف وقفة تأمل نحلل عقلية هذا الصنف من طلبة العلم أو العلماء (كما قد يُسمون) ،  كيف يسقطون في أوحال غلوهم في الولاء للحاكم أكثر من ولائهم للعلم الذي تعلموه ؟! كيف يتأولون لأنفسهم فيفعلون فعل الطغاة الظلمة باسم الحرص على هيبة الدولة أو باسم الولاء الشرعي للحاكم ؟!

وقبل أن نذكر عددا من المواقف التي تدل على ذلك نريد أن نعتذر لعدي بن أرطاة بأن نذكر أحد أسباب وقوعه في هذا الغلو ، وهو أنه كان دمشقيا ، فنشأ في دار الخلافة الأموية بدمشق ، والتي كانت تعج بهذا الغلو في الحاكم ، حتى صار أهل دمشق مضرب المثل بالطاعة العمياء للحكام حينها ، كما يُضرب المثل بأهل العراق عصيانا وتمردا على الحكام. وهذا هو معنى ما جاء في وصف عدي بن أرطاة في أحد الآثار : من أنه : « كان رأيه رأي شامي »([2])، أي رأيهم في طاعة الأمراء .

حتى لقد كان يستنكر (أو يستغرب) من استرجاع عمر بن عبد العزيز الأموال التي كان استولى عليها أمراء بني أمية بغير حق ، وإعادتها إلى أصحابها أو إلى بيت المال ، حتى كان يقول عدي بن أرطاة لبكر بن عبد الله المزني : «يا أبا عبد الله ، أفي حق الله ما يصنع هذا الرجل [يعني عمر بن عبد العزيز] ؟! يردُّ أعمالَ الخلفاء قبله ، ويسميها المظالم !!»([3]).

وهكذا يصبح طالب العلم حكوميا أكثر من الحكومة ! وأمويا أكثر من الأمويين !! وكأنه أغير على بني أمية من ابن عمهم الأموي ، وكأنه أحرص على مصلحتهم من خليفتهم !!

هذا أول موقف يبين وجه الانحراف الذي نتحدث عنه .

أما الموقف الآخر فمتعلق بغلوه في الحرص على مال الدولة :

فقد كتب عمر بن عبد العزيز إليه : «أن أعط الفقراء دراهم , تقسمها فيهم . فكتب إليه : إنه يأتيني أناس يزعمون أنهم فقراء , ويقال: إنهم أغنياء ؟ فكتب إليه عمر: «من جاءك يزعم أنه فقير فأعطه ، فمن أخذه بحقه فبارك الله له فيه , ومن أخذه بغير حقه فلا بارك الله له فيه»([4]).

وهكذا يصبح العالم شحيحا في نفع غيره من المسلمين ، كارها لما فيه نفعهم .. باسم الحرص على بيت مال المسلمين !

بل كتب مرة إلى عمر بن عبد العزيز يريده أن يقلل من عطائه للناس ، بدعوى الخوف على الناس من البطر ! وكأنه يذكره بالمثل القائل : جوع كلبك يتبعك ! ويحثه على سياسة التطويع بالخبز والتجويع ! فكتب قائلا : «لقد أصاب الناس من الخير، كادوا يبطرون . فكتب إليه عمر:  إن الله عز وجل أدخل أهل الجنة الجنة، وأهل النار النار، فرضي من أهل الجنة أن قالوا: الحمد لله. فمر من قبلك بحمد الله »([5]).

نعم .. فعلاج البطر هو حمد الله ، وتذكر فضل الله عليهم بالنعم ، وليس تجويع الناس !

بل لقد بلغ التأول لبيت مال الدولة عند عدي بن أرطاة حدا يدل على غياب فقه الإيمان ووفقه الدعوة للإسلام من قلبه ! وذلك في لحظة أن كتب إلى عمر بن عبد العزيز ، يشكو إليه تسارع أهل الذمة في الدخول في الإسلام ، مما يقطع عن بيت المال جزيتهم التي تؤخذ من أهل الذمة !! إلى هذا الحد بلغ بعدي غياب حقيقة دعوة الإسلام ، فكتب إليه عمر بن عبد العزيز : «فهمت كتابك، ووالله ! لوددت أن الناس كلهم أسلموا ، حتى نكون أنا وأنت حراثين نأكل من كسب أيدينا»([6]). وفي رواية أخرى : أن عمر قال له فيما كتب به إليه : « «إن الله بعث نبيه (صلى الله عليه وسلم) داعيا ، ولم يبعثه جابيا»([7]).

بل زاده عمر بن عبد العزيز : أن يعطي ضعفة أهل الذمة من بيت المال ، حيث كتب إليه : « وانظر من قبلك من أهل الذمة قد كبرت سنه ، وضعفت قوته ، وولت عنه المكاسب ، فأجر عليه من بيت مال المسلمين ما يصلحه ، فلو أن رجلا من المسلمين كان له مملوك كبرت سنه وضعفت قوته وولت عنه المكاسب كان من الحق عليه أن يقوته حتى يفرق بينهما موت أو عتق ، وذلك أنه بلغني أن أمير المؤمنين عمر مر بشيخ من أهل الذمة يسأل على أبواب الناس ، فقال: ما أنصفناك، أن كنا أخذنا منك الجزية في شبيبتك ، ثم ضيعناك في كبرك، قال : ثم أجرى عليه من بيت المال ما يصلحه» .

فانظروا إلى أي حد يبلغ أمر الغلو بطالب العلم في ادعاء الحرص على مصلحة السلطان وعلى مال بيت المال ، والتي يبلغ غلوها أن تكون على حساب أمر في عظم الدعوة إلى الإسلام والحرص على دخول الناس فيه ! وكيف يغيب فقه باب الجزية عن علم طالب العلم ، وأن من أهدافه حث غير المسلم على الدخول في الإسلام ، لكي تنكسر حواجز رؤية الحق عنده ، فيدخله طمعا في البداية ، لكي يُسقط عنه الجزية ، ثم يكون ثباته على الإسلام بعدئذ عن قناعة وإيمان .

 ومن أسوأ تسويل التأويلِ الباطل لعدي بن أرطاة هو ظنه أنه يجوز له تعذيب الناس لاستخراج حقوق الدولة منهم من خراج وجبايات ، حتى كتب إلى عمر بن عبد العزيز قائلا : «­أما بعد : فإن أناسا قبلنا لا يؤدون ما عليهم من الخراج ، حتى يمسهم شيء من العذاب ؟ فكتب إليه عمر: «أما بعد : فالعجب كل العجب من استئذانك إياي في عذاب البشر !! كأني جُنة لك من عذاب الله ، وكأن رضاي ينجيك من سخط الله !! إذا أتاك كتابي هذا ، فمن أعطاك ما قِبَله عفوا ، وإلا فأحلفه ؛ فوالله ! لأن يلقوا الله بجناياتهم ، أحب إلي من أن ألقاه بعذابهم ، والسلام»([8]).

فهنا يستأذن طالب العلم حاكمه في تعذيب الناس !!

نعم .. يستأذن (من كان يجب أن يكون عالما رحيما بالبشر) في تعذيب البشر ، من أجل استخراج ما يتوهمه من حقوق للدولة عليهم !!

ولكن انظروا بماذا أجابه الخليفة العادل ، مبينًا حكم الإسلام في مثل هذا الأسلوب لاستخراج الاعترافات : «لأن يلقوا الله بجناياتهم ، أحب إلي من أن ألقاه بعذابهم» .

وما أعظمهما من موعظة لهذا الصنف من غلاة الطاعة : « كأني جُنة لك من عذاب الله ، وكأن رضاي ينجيك من سخط الله !!» .

وأما موقفه ممن يتعرض للحاكم بالنقد أو السب ، فقد ظن أن سب الحاكم يجيز قتل الساب ، غافلا عن أن هذا الحكم لم يأت في شرع الله ، ولا أفتى به أحد من فقهاء الأمة قبله !

فقد كتب عدي بن أرطاة إلى عمر بن عبد العزيز في شأن جماعة من الخوارج : كانوا يسبون عمر بن عبد العزيز ، يستأذنه في قتلهم ! فكتب إليه عمر : «إن سبوني : فسبوهم ، أو اعفوا عنهم ، وإن أشهروا السلاح : فأشهروا عليهم ، وإن ضربوا : فاضربوهم» . وفي رواية أنه كتب إليه : « وانظر الذي سبني : فسبه ، وإلا فخل سبيله ، فو الله لو كنتَ قتلتَه ، لقتلتُك به»([9]).

وهكذا يتأول هؤلاء الغلاة حتى في الدماء ، كما تأولوا في الأموال !!

ومن رحمة الله بعدي بن أرطاة أنه كان أميرا لخليفة تقي عادل عالم ، هو عمر بن عبدالعزيز ؛ وإلا .. لأخذ عمر بنصيحته ، ولتأول لنفسه ، قائلا لها : لن أكون أعلم من فلان العالم ! ولا يمكن أن يكون غيري أشد حرصا على هيبة السلطان مني !! وإن سألني الله عن هذه الدماء تبرأت عنده بفتاوى هؤلاء المفتين !!!

ولكن سرعان ما اكتشفه عمر بن عبد العزيز ، فكتب إليه : « أما بعد : فَإنَّك غررتني بعمامتك السَّوْدَاء ، ومجالستك الْقُرَّاء ، وإرسالك الْعِمَامَة من ورائك ! أظهرت لي الخير : فأحسنت بك الظَّن ، وَقد أظهرنَا الله عَلى كثير مِمَّا كُنْتُم تكتمون . وَالسَّلَام»([10]).

وأرسل إليه عمر بعزله ، لكن قُبض عمر قبل وصول الكتاب([11])! حتى وافت المنية عدي بن أرطاة (غفر الله له) مقتولا بعد عام واحد من موت عمر بن عبد العزيز (رحمه الله) ، سنة 102هـ ، كما سبق .

هذه السيرة المختصرة هي سيرة فكر يغلو في طاعة ولاة الأمر على حساب طاعة الله تعالى ، لا عن فسق صريح ، ولكن عن تأويل قبيح !!

وهم نموذج قديم يتجدد !

 نسأل الله النجاة من مواطن غضبه ومواضع سخطه ، ونعوذ به عز وجل أن نُفتن في ديننا! وأن نضل بعد هُدى !!

-------------------------------------------------------------


([1])    ولذلك حكم بعدالته الدارقطني وغيره .

([2]) شعب الإيمان للبيهقي (رقم4089) .

([3])    تاريخ دمشق (40/65) .

([4])   الأموال لابن زنجوية (رقم2097) .

([5])   الطبقات الكبرى لابن سعد (5/383) ، وشعب الإيمان للبيهقي (رقم4089) ، وسيرة عمر لابن عبد الحكم (64) .

([6])   حلية الأولياء لأبي نعيم (5/305) .

([7])   أنساب الأشراف للبلاذري (8/146) .

([8]) في الخراج لأبي يوسف (123) ، ونحوه في سيرة عمر بن عبد العزيز لابن عبد الحكم (61) ، والأموال لحميد ابن زنجويه (رقم172) ، وأنساب الأشراف للبلاذري (8/138).

([9])   الأم للشافعي (4/230) ، وأنساب الأشراف للبلاذري (8/158) .

([10])  جامع معمر (رقم 21011) ، ومشيخة ابن الحطاب الرازي –بتحقيقي –(رقم56)

([11])  أمالي عبد الرزاق (رقم180)

 

الشريف حاتم بن عارف العوني 

 

إنها قصة تستحق التوقف عندها لأخذ العظة والاعتبار ، إنها قصة تختلط فيها الشبهة بالشهوة ، وحب الدنيا بشبهة الحرص على الدين !

 

إنها قصة قديمة ، قديمة جدا ، بل هي قصص قديمة ، ترجع إحداها إلى القرن الهجري الأول !!

 

إنها قصة عدي بن أرطاة الفزاري الدمشقي : وهو أحد من كان معروفا بطلب العلم في عصر التابعين ، وكان طلاب العلم المتدينون يلقبون يومها بـ(القُـرّاء) ، وكان عدي بن أرطاة واحدا من مشاهيرهم ؛ إذ كان يظهر عليه التعبّد والزهد والصلاح ، مع طلبه العلم .

 

فلما أن ولي عمر بن عبد العزيز الخلافة ، وكان يعرف عديا في دمشق بالعبادة وطلب العلم ، عاجل عمر بتوليته البصرة أميرًا عليها سنة 99هـ .

 

وبقي أميرًا عليها ، حتى قُتل سنة 102هـ في فتنة وقعت ، بعد وفاة عمر بن عبد العزيز .

 

وعدي بن أرطاة هذا نموذج من نماذج العلماء (أو المتزيين بلباس العلم) الذين تفضح المناصب ضحالتهم العلمية وعظيم تأولهم لأنفسهم في سبيل المنصب !

 

وكما عرفنا اليوم طلبةَ علمٍ ومن يسمون بالعلماء وهم : حكوميون أكثر من الحكومة ، وملكيون أكثر من الملك ، عندهم غلو في حق الحاكم أكثر من الحاكم نفسه ، وتطرف في التعصب للسلطان أشد من تعصب السلطان لنفسه = فعدي بن أرطاة كان فيه شيءٌ من ذلك !

 

وهو لم يُؤت من جهة قلة دين ، فقد كان صاحبَ ديانة([1])، ولكنه أُتي من جهة مغالاة في الحرص على تثبيت الحكم تخرج عن حد العدل ، ومن جهة تأويلٍ للنفس في ذلك يمنع المنصف من تفسيقه ، لكنه لا يمنعه من معرفته بقلة الفقه ، وبضعف النفس أمام المنصب ، فالمنصب كان هو داعيه إلى تأويله غير السائغ لنفسه !

 

وهذا الصنف من طلبة العلم أو العلماء هم مطية الولاة الظلمة في كل عصر وأوان ، وهم أكثر من يسقط في اختبار فتنة المناصب والمال .

 

لكن من رحمة الله تعالى بعدي بن أرطاة أن ولي إمرة البصرة في زمن حاكم عادل هو عمر بن عبد العزيز (رحمه الله) !

 

فدعونا نقف وقفة تأمل نحلل عقلية هذا الصنف من طلبة العلم أو العلماء (كما قد يُسمون) ،  كيف يسقطون في أوحال غلوهم في الولاء للحاكم أكثر من ولائهم للعلم الذي تعلموه ؟! كيف يتأولون لأنفسهم فيفعلون فعل الطغاة الظلمة باسم الحرص على هيبة الدولة أو باسم الولاء الشرعي للحاكم ؟!

 

وقبل أن نذكر عددا من المواقف التي تدل على ذلك نريد أن نعتذر لعدي بن أرطاة بأن نذكر أحد أسباب وقوعه في هذا الغلو ، وهو أنه كان دمشقيا ، فنشأ في دار الخلافة الأموية بدمشق ، والتي كانت تعج بهذا الغلو في الحاكم ، حتى صار أهل دمشق مضرب المثل بالطاعة العمياء للحكام حينها ، كما يُضرب المثل بأهل العراق عصيانا وتمردا على الحكام. وهذا هو معنى ما جاء في وصف عدي بن أرطاة في أحد الآثار : من أنه : « كان رأيه رأي شامي »([2])، أي رأيهم في طاعة الأمراء .

 

حتى لقد كان يستنكر (أو يستغرب) من استرجاع عمر بن عبد العزيز الأموال التي كان استولى عليها أمراء بني أمية بغير حق ، وإعادتها إلى أصحابها أو إلى بيت المال ، حتى كان يقول عدي بن أرطاة لبكر بن عبد الله المزني : «يا أبا عبد الله ، أفي حق الله ما يصنع هذا الرجل [يعني عمر بن عبد العزيز] ؟! يردُّ أعمالَ الخلفاء قبله ، ويسميها المظالم !!»([3]).

 

وهكذا يصبح طالب العلم حكوميا أكثر من الحكومة ! وأمويا أكثر من الأمويين !! وكأنه أغير على بني أمية من ابن عمهم الأموي ، وكأنه أحرص على مصلحتهم من خليفتهم !!

 

هذا أول موقف يبين وجه الانحراف الذي نتحدث عنه .

 

أما الموقف الآخر فمتعلق بغلوه في الحرص على مال الدولة :

 

فقد كتب عمر بن عبد العزيز إليه : «أن أعط الفقراء دراهم , تقسمها فيهم . فكتب إليه : إنه يأتيني أناس يزعمون أنهم فقراء , ويقال: إنهم أغنياء ؟ فكتب إليه عمر: «من جاءك يزعم أنه فقير فأعطه ، فمن أخذه بحقه فبارك الله له فيه , ومن أخذه بغير حقه فلا بارك الله له فيه»([4]).

 

وهكذا يصبح العالم شحيحا في نفع غيره من المسلمين ، كارها لما فيه نفعهم .. باسم الحرص على بيت مال المسلمين !

 

بل كتب مرة إلى عمر بن عبد العزيز يريده أن يقلل من عطائه للناس ، بدعوى الخوف على الناس من البطر ! وكأنه يذكره بالمثل القائل : جوع كلبك يتبعك ! ويحثه على سياسة التطويع بالخبز والتجويع ! فكتب قائلا : «لقد أصاب الناس من الخير، كادوا يبطرون . فكتب إليه عمر:  إن الله عز وجل أدخل أهل الجنة الجنة، وأهل النار النار، فرضي من أهل الجنة أن قالوا: الحمد لله. فمر من قبلك بحمد الله »([5]).

 

نعم .. فعلاج البطر هو حمد الله ، وتذكر فضل الله عليهم بالنعم ، وليس تجويع الناس !

 

بل لقد بلغ التأول لبيت مال الدولة عند عدي بن أرطاة حدا يدل على غياب فقه الإيمان ووفقه الدعوة للإسلام من قلبه ! وذلك في لحظة أن كتب إلى عمر بن عبد العزيز ، يشكو إليه تسارع أهل الذمة في الدخول في الإسلام ، مما يقطع عن بيت المال جزيتهم التي تؤخذ من أهل الذمة !! إلى هذا الحد بلغ بعدي غياب حقيقة دعوة الإسلام ، فكتب إليه عمر بن عبد العزيز : «فهمت كتابك، ووالله ! لوددت أن الناس كلهم أسلموا ، حتى نكون أنا وأنت حراثين نأكل من كسب أيدينا»([6]). وفي رواية أخرى : أن عمر قال له فيما كتب به إليه : « «إن الله بعث نبيه (صلى الله عليه وسلم) داعيا ، ولم يبعثه جابيا»([7]).

 

بل زاده عمر بن عبد العزيز : أن يعطي ضعفة أهل الذمة من بيت المال ، حيث كتب إليه : « وانظر من قبلك من أهل الذمة قد كبرت سنه ، وضعفت قوته ، وولت عنه المكاسب ، فأجر عليه من بيت مال المسلمين ما يصلحه ، فلو أن رجلا من المسلمين كان له مملوك كبرت سنه وضعفت قوته وولت عنه المكاسب كان من الحق عليه أن يقوته حتى يفرق بينهما موت أو عتق ، وذلك أنه بلغني أن أمير المؤمنين عمر مر بشيخ من أهل الذمة يسأل على أبواب الناس ، فقال: ما أنصفناك، أن كنا أخذنا منك الجزية في شبيبتك ، ثم ضيعناك في كبرك، قال : ثم أجرى عليه من بيت المال ما يصلحه» .

 

فانظروا إلى أي حد يبلغ أمر الغلو بطالب العلم في ادعاء الحرص على مصلحة السلطان وعلى مال بيت المال ، والتي يبلغ غلوها أن تكون على حساب أمر في عظم الدعوة إلى الإسلام والحرص على دخول الناس فيه ! وكيف يغيب فقه باب الجزية عن علم طالب العلم ، وأن من أهدافه حث غير المسلم على الدخول في الإسلام ، لكي تنكسر حواجز رؤية الحق عنده ، فيدخله طمعا في البداية ، لكي يُسقط عنه الجزية ، ثم يكون ثباته على الإسلام بعدئذ عن قناعة وإيمان .

 

 ومن أسوأ تسويل التأويلِ الباطل لعدي بن أرطاة هو ظنه أنه يجوز له تعذيب الناس لاستخراج حقوق الدولة منهم من خراج وجبايات ، حتى كتب إلى عمر بن عبد العزيز قائلا : «­أما بعد : فإن أناسا قبلنا لا يؤدون ما عليهم من الخراج ، حتى يمسهم شيء من العذاب ؟ فكتب إليه عمر: «أما بعد : فالعجب كل العجب من استئذانك إياي في عذاب البشر !! كأني جُنة لك من عذاب الله ، وكأن رضاي ينجيك من سخط الله !! إذا أتاك كتابي هذا ، فمن أعطاك ما قِبَله عفوا ، وإلا فأحلفه ؛ فوالله ! لأن يلقوا الله بجناياتهم ، أحب إلي من أن ألقاه بعذابهم ، والسلام»([8]).

 

فهنا يستأذن طالب العلم حاكمه في تعذيب الناس !!

 

نعم .. يستأذن (من كان يجب أن يكون عالما رحيما بالبشر) في تعذيب البشر ، من أجل استخراج ما يتوهمه من حقوق للدولة عليهم !!

 

ولكن انظروا بماذا أجابه الخليفة العادل ، مبينًا حكم الإسلام في مثل هذا الأسلوب لاستخراج الاعترافات : «لأن يلقوا الله بجناياتهم ، أحب إلي من أن ألقاه بعذابهم» .

 

وما أعظمهما من موعظة لهذا الصنف من غلاة الطاعة : « كأني جُنة لك من عذاب الله ، وكأن رضاي ينجيك من سخط الله !!» .

 

وأما موقفه ممن يتعرض للحاكم بالنقد أو السب ، فقد ظن أن سب الحاكم يجيز قتل الساب ، غافلا عن أن هذا الحكم لم يأت في شرع الله ، ولا أفتى به أحد من فقهاء الأمة قبله !

 

فقد كتب عدي بن أرطاة إلى عمر بن عبد العزيز في شأن جماعة من الخوارج : كانوا يسبون عمر بن عبد العزيز ، يستأذنه في قتلهم ! فكتب إليه عمر : «إن سبوني : فسبوهم ، أو اعفوا عنهم ، وإن أشهروا السلاح : فأشهروا عليهم ، وإن ضربوا : فاضربوهم» . وفي رواية أنه كتب إليه : « وانظر الذي سبني : فسبه ، وإلا فخل سبيله ، فو الله لو كنتَ قتلتَه ، لقتلتُك به»([9]).

 

وهكذا يتأول هؤلاء الغلاة حتى في الدماء ، كما تأولوا في الأموال !!

 

ومن رحمة الله بعدي بن أرطاة أنه كان أميرا لخليفة تقي عادل عالم ، هو عمر بن عبدالعزيز ؛ وإلا .. لأخذ عمر بنصيحته ، ولتأول لنفسه ، قائلا لها : لن أكون أعلم من فلان العالم ! ولا يمكن أن يكون غيري أشد حرصا على هيبة السلطان مني !! وإن سألني الله عن هذه الدماء تبرأت عنده بفتاوى هؤلاء المفتين !!!

 

ولكن سرعان ما اكتشفه عمر بن عبد العزيز ، فكتب إليه : « أما بعد : فَإنَّك غررتني بعمامتك السَّوْدَاء ، ومجالستك الْقُرَّاء ، وإرسالك الْعِمَامَة من ورائك ! أظهرت لي الخير : فأحسنت بك الظَّن ، وَقد أظهرنَا الله عَلى كثير مِمَّا كُنْتُم تكتمون . وَالسَّلَام»([10]).

 

وأرسل إليه عمر بعزله ، لكن قُبض عمر قبل وصول الكتاب([11])! حتى وافت المنية عدي بن أرطاة (غفر الله له) مقتولا بعد عام واحد من موت عمر بن عبد العزيز (رحمه الله) ، سنة 102هـ ، كما سبق .

 

هذه السيرة المختصرة هي سيرة فكر يغلو في طاعة ولاة الأمر على حساب طاعة الله تعالى ، لا عن فسق صريح ، ولكن عن تأويل قبيح !!

 

وهم نموذج قديم يتجدد !

 

 نسأل الله النجاة من مواطن غضبه ومواضع سخطه ، ونعوذ به عز وجل أن نُفتن في ديننا! وأن نضل بعد هُدى !!

 

 

 

 

([1])    ولذلك حكم بعدالته الدارقطني وغيره .

 

([2]) شعب الإيمان للبيهقي (رقم4089) .

 

([3])    تاريخ دمشق (40/65) .

 

([4])   الأموال لابن زنجوية (رقم2097) .

 

([5])   الطبقات الكبرى لابن سعد (5/383) ، وشعب الإيمان للبيهقي (رقم4089) ، وسيرة عمر لابن عبد الحكم (64) .

 

([6])   حلية الأولياء لأبي نعيم (5/305) .

 

([7])   أنساب الأشراف للبلاذري (8/146) .

 

([8]) في الخراج لأبي يوسف (123) ، ونحوه في سيرة عمر بن عبد العزيز لابن عبد الحكم (61) ، والأموال لحميد ابن زنجويه (رقم172) ، وأنساب الأشراف للبلاذري (8/138).

 

([9])   الأم للشافعي (4/230) ، وأنساب الأشراف للبلاذري (8/158) .

 

([10])  جامع معمر (رقم 21011) ، ومشيخة ابن الحطاب الرازي –بتحقيقي –(رقم56)

 

([11])  أمالي عبد الرزاق (رقم180)

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين