كيف يستقبل الصالحون الموت ؟

اللحظات الأخيرة من الحياة مرآة، تتجلّى فيها ما كان يغلب على الإنسان في حال صحّته وشبابه.. فمن غلب عليه الحبّ لله ورسوله صلى الله عليه وسلم عبّر عن حبّه، ومن غلب عليه التعظيم لله والإجلال غلبت عليه الخشية والمهابة، إلاّ أن يستحضر حسن الظنّ، وعظيم الرجاء بالله، ومن غلب عليه الشعور بالذنب والتقصير غلب عليه الخوف من سوء الخاتمة والمآل، وربّما عبّر عن خوفه بما أوصى به بعضهم أن تغلّ يديه ورجليه قبل دفنه.. لعلّ الله عزّ وجلّ أن يرحمه، وأوصى آخر أن يلقى على المزابل.. ومثل ذلك من غلبة الأحوال التي لا تقرّ، ولا يعمل بها، ولكنّها تعبّر عمّا كان عليه الإنسان في حياته، من معانٍ إيمانيّة وحقائق، وأحوال قلبيّة ومراتب.. وكلّ ذلك خير ممّن عاش منكوس القلب، مسلوب اللبّ بشهوات الدنيا، وأهواء النفس، لم يفكّر يوماً بهَذا المصير، ولم يستعدّ له.. فاختر لنفسك أيّ ميتةٍ تموت..

 

وعندما نطالع سير السلف الصالح، ونرى كيف كانوا يستقبلون الموت، نجد أنّهم كانوا يستقبلون الموت بنفوسٍ هادئة، وقلوبٍ مطمئنّة، لأنّهم امتلأت قلوبهم بحبّ الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، فتأتيهم الملائكة بالبشرى الله، وأمّا الذين أترعت قلوبهم بحبّ الدنيا وشهواتها، والتعلّق بها، ونسوا الآخرة، وغفلوا عنها، فهم يجدون لفراق الدنيا مرارة ما بعدها من مرارة، وتتقطّع قلوبهم حسرة على فراقها.. وعندما يعاينون عالم البرزخ وما فيه من الأهوال تشتدّ نفرتهم من الموت، ويندمون على ما كانوا عليه من العمل، ولا مفرّ، ولات ساعة مندم..

 

" وإنّ وفاة المحبّين والعارفين، وعباد الله المقرّبين، من أروع التي تبرز فيها المعاني الروحيّة السامية، أمثال: " الحبّ والوفاء، والشوق إلى اللقاء، والثقة بوعد الله، والحنين إلى رضاه "، حيّة  شاخصة، جميلة رائعة، فهي ساعة تتجلّى فيها كلّ هذه المعاني والحقائق، التي جاهدوا لأجلها، وتفانوا في سبيلها، وعاشوا في جوّها، وحنّوا إليها، كما يحنّ الطائر إلى وكره، حتّى إذا وافتهم هذه الساعة كانوا أشدّ شوقاً وإيماناً، ورقّة وحناناً، وطرباً واهتزازاً، وطرأت عليهم أحوال وآثار، وأقبلت بوادر خير، وطلائع سعادة، يغبطهم عليها كثير من الأحياء، وأصحاب النعيم والسعادة، ويتمنّون الوصول إلى هذه المكانة السامية، والحصول على علامات القبول في هذه الساعة الدقيقة الفاصلة، التي هي محصول الحياة، ولبّ اللباب ".

 

" ويورث ذلك في كثير ممّن شرح الله صدرهم، ورزقهم الإنصاف من غير المسلمين، وكثير من الشاكّين المنكرين إيماناً بأنّ هناك حقائق غيبيّة، وعالماً وراء الحسّ والمادّة أجمل وأوسع، يهيم به الهائمون، ويحنّ إليه المؤمنون المصدّقون، وأنّ الأمر رأي عين لكثير من أصحاب العقيدة والاتّباع، وأنّ لتعاليم الإسلام وحياة الرسول صلى الله عليه وسلم تأثيراً في نفوس المسلمين لا يوجد له نظير، في العمق والقوّة، والتغلغل في الأحشاء، عند أيّ من الفلسفات الاقتصاديّة، والتعاليم المادّيّة [ربّانيّة لا رهبانيّة ص/142/ للشيخ أبي الحسن الندوي رحمه الله].

ـ لما احتضر الحسن بن علي رضي الله عنه قال لمن حوله: أخرجوا فراشي إلى صحن الدار قال: فرفع رأسه إلى السماء، ثمّ قال: " اللهم ! إني أحتسب نفسي عندك، فإنّها أعزّ الأنفس عليّ " [الثبات عند الممات للإمام ابن الجوزي ص/103/].

ـ وقال بلال رضي الله عنه حين حضرته الوفاة:

" غداً نلقى الأحبه                    محمّداً وحزبه "

وكانت امرأته تقول: وابلالاه، ويقول هو: وافرحاه. 

 

وقال من حضر وفاة عمار بن ياسر رضي الله عنه: رأيت عمار بن ياسر دعا بشراب، فأتى بقدح من لبن فشرب منه، ثم قال صدق الله ورسوله، اليوم ألقى الأحبّه، محمداً وحزبه إنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( إن آخر شئ تزوده من الدنيا ضيحة لبن ).

ولما طعن معاذ بن جبل رضي الله عنه ـ أي أصابه الطاعون ـ قال حين النزع: ونُزع نزعاً شديداً لم ينزعه أحدٌ، فكان كلما أفاق من غمرة، فتح طرفه، ثمّ قال: " ربّ اخنقني خنقك فوعزّتك إنّك لتعلم أنّ قلبي يحبّك ".

 

وروي أنه لما حضره الموت قال: مرحباً بالموت، زائرٌ مُغِبّ، حبيب جاء على فاقة، اللهمّ كنت أخافك فأنا اليوم أرجوك، اللهمّ إنّك تعلم أنّي لم أكن أُحبّ الدنيا وطول البقاء فيها لجري الأنهار، ولا لغرس الأشجار، ولكن لظمأ الهواجر، ومكابدة الساعات، ومزاحمة العلماء بالركب عند حلق الذكر. 

 

ولمّا مرض حذيفة رضي الله عنه مرضه الذي مات فيه، قيل له: ما تشتهي. قال: أشتهي الجنّة، قالوا: فما تشتكي، قال: الذنوب، قالوا: أفلا ندعو لك الطبيب ؟ قال:  الطبيب أمرضني، لقد عشت فيكم علي ثلاث:

ـ الفقر فيكم أحبّ إليّ من الغنى.

ـ والضعة فيكم أحبّ إليّ من الشرف.

ـ وأنّ من حمدني منكم ولامني في الحقّ سواء.

ثمّ قال: أصبحنا ؟ قالوا: نعم، قال: اللهمّ إني أعوذ بك من صباح النار، حبيب جاء على فاقة، لا أفلح اليوم من ندم. 

 

ـ ويقول أنس بن مالك رضي الله عنه: لقي أخي البراء زحفاً من المشركين، فقال: أقسمت عليك يا ربّ لمّا منحتنا أكتافهم، وألحقتني بنبي الله صلى الله عليه وسلم، فمنحوا أكتافهم، وقتل شهيداً.

ـ وروي أنّ أبا الدرداء رضي الله عنه اشتكى، فدخل عليه أصحابه، فقالوا: ما تشتكي ؟ قال: أشتكي ذنوبي، قالوا فما تشتهي ؟ قال: أشتهي الجنة. قالوا: أفلا ندعو لك طبيباً ؟ قال: هو الذي أضجعني.

 

- وقال بعض من حضر وفاته: جئت أبا الدرداء رضي الله عنه وهو يجود بنفسه فقال: ألا رجلٌ يعملُ لمثل مصرعي هذا، ألا رجلٌ يعمل لمثل يومي هذا، ألا رجلٌ يعمل لمثل ساعتي هذه ثم قبض. 

 

ـ ودخل مروان على أبي هريرة رضي الله عنه في شكواه الذي مات فيه. فقال: " شفاك الله ". فقال أبوهريرة: " اللهمّ إنّي أحبّ لقائك فأحبّ لقائي ". فما بلغ مروان أصحاب القطا حتى مات رحمه الله.

 

ـ وأوصى معاوية رضي الله عنه في وصيّته، ببعض الأمور، وجاء في ختامها قوله : " وخلّوا بين معاوية وأرحم الراحمين ".

 

ـ ولما أسر عبد الله بن حذافة رضي الله عنه ، وأرادوا قتله بكى، وعندما سئل عن بكائه قال: إنما أبكي إذ ليس لي إلاّ نفسٌ واحدة يفعل بها هذا في الله عز وجل، كنت أحبّ أن يكون لي أنفس بعدد كلّ شعرة فيّ، ثمّ يفعل بي هذا.

 

ـ وعندما حضر الموتُ أنسَ بنَ مالكٍ رضي الله عنه، جعل يقول: لقّنوني " لا إله إلاّ الله "، فلم يزل يقولها حتّى قبض رحمه الله.

 

ـ ويقول من شهد مقتل عمرو بن عتبة رضي الله عنه: خرجنا في جيش فيه عمرو بن عتبة فخرج وعليه جبةٌ جديدة بيضاء، فقال: ما أحسن الدم يتحدر على هذه، فخرج فتعرض للقصر فأصابه حجرٌ فشجّه، فتحدر عليها الدم، ثمّ مات منها. فلمّا أصابه الحجر فشجّه جعل يلمسه بيده ويقول: إنّها لصغيرة، وإنّ الله عزّ وجلّ ليبارك في الصغير.

 

ـ وقال مطرف رضي الله عنه لما حضره الموت: اللهمّ خر لي في الذي قضيته عليّ من أمر الدنيا والآخرة، وأمرهم أن يحملوه إلى قبره، فختم فيه القرآن قبل أن يموت.

ـ ومات مجاهد بن جبر رحمه الله وهو ساجد، وكان من أعلام التابعين، والأئمّة المفسّرين.

 

ـ ولما احتضر عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه قال: اخرجوا عني فلا يبقى أحد، فخرجوا، وقعدوا على الباب فسمعوه يقول: مرحباً بهذه الوجوه، ليست بوجوه إنسٍ ولا جانّ، ثمّ قال: { تِلكَ الدارُ الآخِرَةُ نجعلُهَا لِلذينّ لا يُرِيدُونَ عُلُوّاً في الأرضِ وَلا فَسَاداً وَالعَاقِبةُ لِلمُتّقِينَ }.

ثم هدأ الصوت فقال مسلمة لفاطمة: قد قبض صاحبك، فوجدوه قد قُبض وغُمّض وسُوّي. 

 

ـ وقال الحسن بن حيّ: قال لي أخي في الليلة التي توفّي فيها: اسقني ماء، وكنت قائماً أصلي فلما قضيت صلاتي أتيته بماء فقلت: يا أخي هذا ماء. قال: قد شربت الساعة. قلت: ومن سقاك، وليس في الغرفة غيري وغيرك ؟ قال: أتاني جبريل الساعة بماء فسقاني وقال لي: أنت وأخوك وأبوك من: { الذينَ أنعَمَ اللهُ عَلَيهِم مِنَ النبيّينَ وَالصدِّيقِينَ والشُّهَداءِ والصالحينَ } وخرجت روحه.

 

ـ ولمّا حضرت أبا بكر بن عيّاش الوفاة بكت أخته فقال لها: لا تبكي، انظري إلى تلك الخزانة أو الزاوية التي في البيت، قد ختم أخوك في هذه الزاوية ثمانية عشر ألف ختمة.

 

ـ ولما حضرت آدم بن إياس الوفاة ختم القرآن وهو مسجّى، ثمّ قال: بحبي لك إلاّ رفقت بي في هذا المصرع، كنت أؤملك لهذا اليوم، كنت أرجوك ثم قال: " لا إله إلا الله " ثم قضى.

 

ـ وحدّث الإمام المحدّث أبو زرعة الرازيّ من حضر وفاته بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم أنّه قال: ( من كان آخر كلامه: لا إله إلا الله دخل الجنة ) وتوفي بعده رحمه الله. 

ـ وقال فتح بن شخرف: دخلت على ذي النون عند موته فقلت: كيف تجدك ؟ فقال:

أموت وما ماتَت إليك  صبابتي ** ولا رويت من صدق حبّك أوطاري

مناي المنى كلّ المنى أنت لي منىً ** وأنت  الغنى  كلّ  الغنى عند إقتاري

وأنت مدى سُؤلي وغايَةُ  رغبتي ** وموْضع   آمالي  ومكنون  إضمَاري

تحمّل   قلبي   فيك  ما لا   أبثّهُ       ** وإنْ طال سقمي فيك أو طالَ إضراري

وبين  ضلوعي  منك  ما لا أبثّه         ** ولم   أبدِ  بادية   لأهلٍ   ولا   جارِ

سرائر  لا  يخفى  عليكَ  خفيّها         ** وإن  لم أبح  حَتّى  التنادي بأسراري

فهب لي نسيماً منْك أحيا بروحه    ** وجد  لي بيسرٍ منكَ يطرد إعساري

أنرت الهدىللمهتدين ولم يكن ** من  العلم  في  أيديهمُ  عُشْر معشارِ

وعلّمتهم  علماً  فباتوا   بنوره ** وبانت   لهم    منه    معالم   أسرارِ

معاينةً   للغيب   حتّى   كأنّها ** لما  غاب  عنها   منه  حاضرة  الدارِ

ألَستَ دليْل المرء إن هم تحيّروا ** وعصمة من أمسى على جرفٍ هارِ

 

قال الشيخ ابن شخرف: فلمَّا ثقل قلت له: كيف تجدك.؟ فأنشأ يقول:

ومالي سوى الإطراق والصمت حيلة ** ووضعي على خدّي يَدي عند تذكارِ

وإن    طرقتني     عبرة   بعد   عبرة ** تجرّعتها  حتّى   إذا   عيل   تصباري

أفضتّ    دموعاً      جمّة    مُستهلّة ** أطفّي   بهَا   حرّاً   تَضمّن   أسراري

ولست     أبالي    فائتاً   بعد فائتٍ ** إذا كنت في الدارين يَا واحداً جاري

ـ ولما اشتد الأمر بحسن الغلاس طلب ماءً، فشرب، وقال: لقد أعطاني ما يتنافس فيه المتنافسون.

 

ـ وقال أبو بكر العطّار: حضرت الجنيد عند الموت في جماعة لأصحابنا، فكان قاعداً يصلي، ويثني رجليه كلما أراد أن يسجد، فلم يزل كذلك حتى خرجت الروح من رجله، فثقل عليه حركتها، فمد رجليه وقد تورمتا، فرآه بعض أصدقائه، فقال: ما هذا يا أبا القاسم، قال: هذه نعم، الله أكبر، فلما فرغ من صلاته قال له أبو محمد الحريري: لو اضطجعت ( يا أبا القاسم ). قال: يا أبا محمد، هذا وقت يؤخذ منه، الله أكبر. فلم يزل ذلك حاله حتّى مات رحمه الله.

 

ـ وقال محمّد بن حامد: كنت جالساً عند أحمد بن خضرويه، وهو في النزع، فسأل عن مسألة فدمعت عيناه. وقال: يابني ! بابٌ كنت أدقه منذ خمس وتسعين سنة، هو ذا يفتح لي الساعة، ولا أدري انفتح لي بالسعادة أم بالشقاوة، وأنّى لي الجواب. وكان قد ركبه من الدين سبعمائة دينار، وحضره غرماؤه، فنظر إليهم وقال: " اللهم إني جعلت الرهون وثيقة، فأدِّ عني ". قال: فدقّ داقّ الباب. وقال: أليس هذه دار أحمد بن خضرويه ؟ فقالوا: نعم ! قال: فأين غرماؤه ؟ فخرجوا فقضى عنه، ثم خرجت روحه.

 

ـ وغشي على خير النساج عند صلاة المغرب، ثم أفاق ونظر إلى ناحية من البيت، وقال: قف ـ عافاك الله ـ فإنما أنت عبدٌ مأمور، وأنا عبدٌ مأمور، وما أمرت به لا يفوتك، وما أمرت به يفوتني، فدعني أمضي لما أمرت به، ودعا بماء فتوضأ للصلاة ثم صلى، ثم تمدد وغمض عينيه، وتشهد فمات، فرآه بعض أصحابه في المنام، فقال له: ما فعل الله بك ؟ قال: لا تسأل عن هذا، ولكن استرحت من دنياكم. 

 

ـ وقال بعض من حضر وفاة يوسف بن الحسين الرازي: حضرنا يوسف بن الحسين الرازي وهو يجود بنفسه، فقيل له: يا أبا يعقوب قل شيئاً، فقال: " اللهم نصحت خلقك ظاهراً، وغششت نفسي باطناً، فهب لي غشي لنفسي لنصحي لخلقك "، ثم خرجت روحه.

 

ـ ولمّا احتضر أبو الوَفاء بن عقيل بكى أهله، فقال لهم: " لي خمسون سنة أوقّع عنه، فدعوني أتَهنَّى لمقابلته ". 

 

ـ وقال أحمد أخو الإمام أبي حامد الغزالي: لما كان يوم الاثنين وقت الصبح توضأ أخي أبو حامد الغزالي وصلّى، وقال: علي بالكفن، فأخذه، وقبله، وتركه على عينيه، وقال: سمعاً وطاعة للدخول على الملك، ثم مدّ رجليه، واستقبل القبلة، ومات قبل الإسفار.

 

ـ ولما احتضر أبو بكر بن حبيب، وهو من شيوخ الإمام ابن الجوزيّ رحمه الله، قال له أصحابه: أوصنا، فقال: أوصيكم بثلاث: بتقوى الله عز وجل ومراقبته في الخلوة، واحذروا مصرعي هذا، فقد عشت إحدى وستين سنة، وما كأني رأيت الدنيا، ثم قال لبعض إخوانه: انظر: هل ترى جبيني يعرق ؟ فقال: نعم. فقال: الحمد لله هذه علامة المؤمن، يريد بذلك قول رسول الله صلى الله عليم وسلم: ( المؤمن يموت بعرق الجبين )، ثم بسط يده عند الموت وقال:

ها قد مددت يدي إليك فردها         بالفضل لا بشماتة الأعداء

ـ وكان أبو الوقت ( عبد الأول ) صالحاً كثير الذكر، يقول الإمام ابن الجوزيّ رحمه الله: حدثني أبو عبد الله التكريتي: لما احتضر  ( عبد الأول )  أسندته إليّ فكان آخر كلمة قالها: { قال: يـاليت قومي يعلمون (26) بما غفر لي ربي وجعلني من المكرمين (27) } يس.

 

ـ ويقول الإمام ابن الجوزيّ رحمه الله: دخلت على أبي محمد ابن الخشاب، وهو في مرض موته، وهو ساكن غير منزعج، فقال لي: عند الله أحتسب نفسي.

 

كيف فارق الشيخ يحيى المنيري الحياة، واستقبل داعي الله.؟ ربّانيّة لا رهبانيّة ص/147/ للشيخ أبي الحسن الندوي رحمه الله، والخبر طويل أنقل منه ما يتّصل بالوفاة فحسب..

 

" يقول الشيخ زين بدر العربيّ، من أخصّ أصحاب الإمام شرف الدين يحيى المنيريّ، وهو يحكي خبر وفاته، وكيف فارق هذه الحياة، ولقي ربّه ؟: " وآذنت الشمس للغروب، واستلقى على السرير، وصلّى المغرب، وحوله أخصّ أصحابه، ورفع الصوت بالبسملة، وأعادها مراراً، ثمّ قال: لا إله إلاّ أنت سبحانك إنّي كنت من الظالمين، ثمّ جعل يبسمل، وينطق بالشهادتين، ثمّ قال: " لا حول ولا قوّة إلاّ بالله، ثمّ بدأ يردّد الشهادة تتخلّلها البسملة، ثمّ قال: " لا إله إلاّ الله، محمّد رسول الله، ثمّ قال وقد ملكه الذوق، وفاضت الكأس بالحبّ: " محمّد، محمّد، محمّد، ثلاث مرّات، اللهمّ صلّ على محمّد، وعلى آل محمّد، وتلا: ( ربّنا أنزل علينا مائدة من السماء.. ) ثمّ قال: رضيت بالله ربّاً، وبالإسلام ديناً، وبمحمّد صلى الله عليه وسلم نبيّاً، إلى آخر ما قال في المرّة الأولى، ثمّ ردّد الشهادة ثلاث مرّات، ورفع يده إلى السماء وقال في غاية الشوق والإلحاح: اللهمّ أصلح أمّة محمّد صلى الله عليه وسلم، اللهمّ ارحم أمّة محمّد صلى الله عليه وسلم ، اللهمّ تجاوز عن أمّة محمّد صلى الله عليه وسلم ، اللهمّ أغث أمّة محمّد صلى الله عليه وسلم ، اللهمّ انصر أمّة محمّد صلى الله عليه وسلم ، اللهمّ فرّج عن أمّة محمّد صلى الله عليه وسلم ، فرجاً عاجلاً، اللهمّ اخذل من خذل دين محمّد صلى الله عليه وسلم ، برحمتك يا أرحم الراحمين، وانخفض صوته بعد ذلك، وهو يقول: ( لا خوفٌ عليهم ولا هُم يحزنون ) لا إله إلاّ الله، ثمّ قال مرّة: " بسم الله الرحمن الرحيم، وفاضت روحه ".

وجاء في سيرة الشاعر محمّد إقْبال أنّه في شهر نيسان من عام /1938/ هـ أحسّ بدنوّ أجله، ولم يكن هَيّاباً ولا وجلاً، وكان يقول مردّداً باللغة العربيّة هذا البيت:

آية المؤمن أن يلقى الردى              باسم الثغر سروراً ورضا

وقبيل وفاته بعشر دقائق نطق بهذين البيْتين:

نغمات مضين لي هل تعود   أم  نسيم من  الحجاز يعود.؟

آذنت عيشتي بوَشكِ رحيلٍ     هل لعلم الأسرارقلب جديد ؟

من كتاب: " الدرّ النضيد من أعذب الأناشيد " للأستاذ حيدر مصطفى ص/23/.

 

وبعد ؛ فمتى تصحو أيّها الإنسان.؟! لقد وقفت على " الدَّوْرِ " كما يقولون منذ دخلت هذه الحياة.. فما لي أراك كلّما امتدّ بك العمر.. وتناهبت عافيتك الأمراض والأسقام، وضعفت قواك، ووهنت عزيمتك، وتناثر الشيب في وجهك ورأسك.. تزداد تعلّقاً بالحياة وآمالاً، وتتناسى الموت.. ولعمر الحقّ ما كان لك أن تتناساه، وقد ودّعت والديك وأحبابك، وكثيراً من أقاربك وأصحابك.! فماذا تنتظر قل لي بربّك.؟!

 

صلّينا في الحرم المكّيّ فجر يوم على عدد من الموتى.. وتبعت جنازة بعض أقاربي، وعندما وصلنا مقبرة المعلى.. كان مشهداً جليلاً، لأوّل مرّة أراه في حياتي.. كان عدد الجنائز ستّاً أو سبعاً.. ووقف أصحابنا.. ووضعوا الميّت، ينتظرون دورهم ليدفن، وقلت في نفسي: " الأحياء ينتظرون دورهم إلى الموت، والموتى ينتظرون دورهم إلى القبر.! لقد تقارب الموت، وتسارعت خطاه.. ولو نظرنا بعين البصيرة لرأينا الموت أسرع خطىً، وأكثر حصداً للأنفس من هذه الجنائز القليلة.. ".

 

أعرني سمعك قليلاً، قبل ألاّ تنفعك الذكرى.. ألا تعظ نفسك بما كان عمر بن الخطّاب يعظ نفسه فيقول: " يقولون مات فلان، ومات فلان.. وغداً يقولون مات عمر ! ".

 

نعم، لقد مات عمر رضي الله عنه، ومضى على موته ما ينيف على أربعة عشر قرناً.! فماذا ترك عمر بعده.؟ لقد ترك السيرة العطرة والذكر الحسن.. الذي أسعد الأمّة، وملأ سمع الدنيا..

 

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين