كيف نحقق الربانية؟

 

 

 

د. وصفي عاشور أبو زيد

من خصائص الإسلام الأولى "الربانية"، فهي علامته وميزته وخصيصته الكبرى التي تضمن له الخلود، وتحقق له البقاء، وتجعله قادرا على مواجهة المستجدات، واستيعاب الحادثات، واحتضان الأشخاص والأحداث والأشياء.
ومن علامات نجاح أي دعوة وأمارات صحة أي فكرة أن ترى فيها الربانية في مصدرها ومنهجها، وفي وجهتها وغايتها، وفي وسائلها وآلياتها وعُدتها .. وقد بينت ذلك في مقالين سابقين تطبيقا على دعوة الإخوان المسلمين.
 
 

 

وإذا أراد الداعية أو العالم - فضلا عن المسلم - أن ينجح في الدنيا ويفلح في الآخرة فلن يتحقق له ذلك إلا بالتحقق بالربانية في كل معالمها وبكل معانيها .. فالربانية ضرورة للأمم والمجتمعات، والأفراد والجماعات سواء بسواء.

تلك الربانية التي تعني الانتساب إلى "الرب"؛ فلا يصدر الإنسان في فعل أو قول أو تصرف إلا إذا نظر إلى تشريع الرب، وما قاله من حلال يؤتى ومن حرام فيجتنب .. فالرباني لا يهتم إلا بالرب، وإتيان مراضيه، واجتناب مساخطه، وتقواه في كل الأحوال فيحتمي عما يضره بفعل ما ينفعه.
 
إنه لا يتطلع إلى مغنم ذاتي، أو مأرب شخصي، أو مصلحة فردية، من جاه أو سلطان أو منصب أو مال، إلا إذا كان خادما له في طريقه لربه، وفي سبيل إصلاح مجتمعه وأمته؛ لأن التضلع من معاني الربانية والانشغال باليوم الآخر لا يترك له فرصة للتلفت عنه، أو الانشغال بغيره.
ومن فضل الله علينا ورحمته بنا أن رسم لنا طريق الربانية، وشرع لنا ما يوجدها وينشئها، وضمن لها ما يبقيها ويرعاها، فشرع لنا العبادات بشعائرها الكبرى، تلك الشعائر التي لو رامها المسلم وحافظ عليها بإتقان وإحسان (صلاة، صيام، زكاة، حج، مع نوافل كل منها) فهي كفيلة أن تجعله في مصاف الربانيين والصديقين.
الانشغال الدائم بالإيمان بالله ولقائه والحساب والجنة والنار، من أنجع الوسائل التي ترسخ الربانية، فلا ينشغل الإنسان بالنزاعات والشقاقات والخلافات، وإنما همُّه همٌّ واحد هو الله تعالى ولقاؤه، فأنت لن يسألك الله: هل كنت إخوانيا أم سلفيا أم ليبراليا أم يساريا أم مستقلا، فكل هذه وسائل وآليات للعمل، وإنما سيسألنا عن العقيدة التي اعتقدناها، والتقوى التي حققناها، والخير الذي تركناه في الأرض، والهدى الذي خلَّفناه بين الناس!
 
التأمل في حياة الأنبياء عامة، وفي حياة النبي محمد –صلى الله عليه وسلم –خاصة، يبعث الربانية في نفس المسلم، ويحققها في قلبه وعقله، فتكون ثابتة راسخة: تصورا وفكرا، قلبا وقالبا، شعورا ووجدانا، أخلاقا وسلوكا، بينه وبين نفسه، وبينه وبين ربه، وبينه وبين الناس!.
ثم التأمل في حياة الصحابة والتابعين والسلف الصالح، وسير العلماء العاملين والدعاة الربانيين، واصطحاب المعاصرين ممن اتصفوا بهذا الوصف –لمن الأسباب الناجعة والوسائل الناجحة للتمثل بالربانية والتحقق بمعانيها.
ثم القراءة حولها، وبخاصة لمن عاشوها وتمثلوها واقعا حيا في حياتهم ومواقفهم واختياراتهم وآرائهم، وسيلة مهمة أخرى ..
 
 ومن أهم من كتبوا فيها: عبقري الإسلام الأستاذ سيد قطب في كتابه: "خصائص التصور الإسلامي ومقوماته"، وشيخنا الإمام يوسف القرضاوي في كتابه: "الخصائص العامة للإسلام"، والأستاذ سعيد حوى في كتابه "إحياء الربانية"، وكتابه: "مذكرات في منازل الصديقين والربانيين"، والأخ الدكتور مجدي الهلالي في كتابه: "الطريق إلى الربانية منهجا وسلوكا"، والأخ الدكتور خالد أبو شادي في مجمل ما كتب وبخاصة "هبي يا رياح الإيمان"، وغيرهم كثير.
 
إن التحقق بمعاني الربانية، والتمثل بأبعادها في الحياة إذا أخذه الإنسان بحقه، واتبع فيه ما أسلفناه، فسوف تكون له آثاره الواسعة والعميقة والشاملة في حياة الفرد والمجتمع والأمة، وهذا هو موضوع المقال القادم بإذن الله.


 

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين